لوالد الشاعر النجدي الشهير محمد بن حمد بن لعبون تاريخ معروف، اسمه (تاريخ ابن لعبون) ومما جاء فيه عن شاعرنا: «.. ولد محمد في بلدة (ثادق) سنة 1205ه، وحفظ القرآن، وتعلم الخط، وكان خطه فائقاً، وتكلم بالشعر في صغره، ومدح عمر بن سعود بن عبدالعزيز بقصائد كثيرة، ثم سافر قاصداً بلد الزبير وهو ابن سبع عشرة، وصار نابغة وقته في الشعر، وله أشعار مشهورة عند العامة، نرجو الله أن يسامحه. ولم يزل هاك إلى أن توفي في بلد الكويت سنة 1247ه بالطاعون العظيم الذي عمَّ العراق والزبير والكويت، هلكت فيه حمايل وقبائل، وخلتْ من أهلها منازل، وبقي الناس في بيوتهم صرعى لم يدفنوا..». تاريخ ابن لعبون ص 109 باختصار وكتاب ابن لعبون حياته وشعره لأبي عبدالرحمن بن عقيل ص 30. ٭٭٭ أما ذو الرمة فهو غيلان بن نهيس المضري (77 - 117ه) تقريباً، وسمي ذا الرمة لبيت قاله، وقيل إن سبب ذلك هو أنه كان في الصحراء وهو في العشرين فرأى فتاة رائعة الجمال تدخل بيت شعر فقصد البيت وطلب منها ماء، ليراها، فسمع الأم تقول للبنت: اسق الرجل يا خرقاء (ومعناها من لا تصلح للعمل الرفلاء) فجاءت له بماء وقالت: خذ يا ذا الرمة!! لحبل كان معلقاً على عاتقه، فتعلق بها قلبه حتى مات، وافتخر بكلامها فلقب نفسه بهذا اللقب، والرُّمة هو الحبل، قال الشاعر: ولا يقيم على ذُل يُرَادُ به إلا الأذلان عيْر الحيِّ والوتدُ هذا على الخسف مربوطٌ بُرمَّته وذا يُشَبح فلا يرثي له أحدُ! والعرب معجبون بشعره حتى قال عمرو بن العلاء: «فُتح الشعر بامرئ القيس وخُتِمَ بذي الرمة». ٭٭٭ أما حب ابن لعبون لمي فيقول عنه أبو عبدالرحمن بن عقيل: «.. ظهر في شعره الغزلي أكثر من واحد، ولكن عشقه كان مقصوراً على «مي» من أجل الحرمان، لأنه لم يتح له مواصلتها..» ص 25 ابن لعبون. وقد أحبها في الزبير وهو في عز شبابه ويبدو أنه أحبها حتى مات، وشعره فيها قد يدل على أنه قضى أوقاتاً سعيدة جداً. ٭٭٭ إذن يجتمع الشاعران الكبيران في عشق ذات اسم واحد، وفي بكاء المنازل والاطلال، وفي أن ذا الرمة من كبار شعراء العربية، وابن لعبون من كبار شعراء العامية. ٭٭٭ يقول ابن لعبون في (مي) ومنازلها: «يا منازل (مي) في ذيك الحزوم قبلة الفيحا وشرق عن سَنَام» الفيحا: البصرة، وسَنَام جبل غرب الزبير، فمنازل (مي) إذن بين البصرة والزبير. «في سراب عن جوانبها يحومْ طافحات مثل خبز في يَدَام يستبين بها الخبير بها الرسوم دارسات كنهنَّ دقّ الوشامْ ما بكت فيها من الغرقى غيوم من نظير العين إلا من غرامْ» يقول: منازل مي وقد هجرتها قديماً تشبه رقيق الخبز في يدام (المرق) أصبحت تطفو في سراب الصحراء كأنها لم السراب، فهي دارسة (ممحُّوة) لا يعرفها إلا الخبير بها.. لتغيرها. وقوله: ما بكت: ما موصولة بمعنى التي، مبتدأ خبره: غيوم، أي التي بكت في منازل «مي» غيومٌ من عيني، وهي لم تبك إلا عن غرام شديد، فتنكير (غرام) هنا للتكبير والتهويل: «من هموم في قلوب في جسوم في بيوت في ديار في غلام» يقول: بكيت عن غرام شديد عقَّب - برحيل مي وفراقها - هموماً تثور كلما رأيت بقايا بيتها وبيوت قومها في ديار مهجورة في عرم الصحراء لم يبق منها إلا الأطلال والرسوم! وابن لعبون - رحمه الله - بليغ في سبك التراكيب حتى تتراكم الصور والمعاني، فدموع (نظير عينه) تنسكب على منازل (مي) المهجورة من شدة الغرام الممزوج بهموم تخترق القلوب والأجساد لرؤيته منازل حبيبته: «من هموم في قلوب في جسوم في بيوت في ديار في عدام دار مي يومَ مي لي تقومْ قومة الماموم من خلف الإمام» ما أجمل هذه الكناية عن الطاعة التامة! «كل عيش مثل عيشك ما يدوم يوم وصلك بالكرايم والكرامْ يوم مي تحسب الدنيا تدوم وان عجَّات الصبا دوم دوامْ في نعيم تحسبه لزماً لزوم مثل منزلنا على «ديم الخزام» ديم الخزام: مكان في الزبير ويبدو لي أنه ربيع عليل النسيم: «يا سنين لي مضت مثل الحلوم كنهن في دار ابن عوّام عام» على ما في الذكرى من وفاء، وأسى، فإن فيها عبرة لأولى النهى: الأيام تمضي سراعاً كالبرق، والسنين الماضيات أحلامُ، نوم، والعمر يجري ولا يعود، كأنما الأمر خيال، ما أبلغ قول أبي تمام: «ولقد أراك فهل أراكَ بغِبطة والعيشُ عيشُ والزمانُ غُلامُ أعوامُ وَصْل كاد يُنْسي طولها ذكرُ النوى فكأنها أيامُ ثم انبرت أيامُ هجرْ اردفتْ نحوي أسى فكأنها أعوامُ ثم انقضت تلك السنون وأهلُها فكأنها وكأنهم أحلامُ» ٭٭٭ أما ذو الرُّمة فحياته كلها في الصحراء، وقد وصف الصحراء أروع وصف، ومات فيها عطشاً مع الأسف، وقبلها كاد يموت في عشق ميت: حياته عشق وشعر وخبط في متاهة الصحراء التي أبدع في وَصْفها: «وداوية جرداءَ جدَّاءَ جَثَّمثْ بها هَبواتُ الصيف من كُلِّ جانب سباريتُ يخلو سمعُ مُجْتَاز خَرْقها من الصوت إلاَّ من صُبَاح الثعالب كأنَّ يديّ حْربَائها مُتَشمِّساً يدا مُذْنب يستغفر الله تائب»! وقد دوى في هذه الداوية رحمه الله.. يصف الصحراء بأنها داوية جرداء (لا نَبْتَ فيها) جَدَّاء (لا ماء فيها) «جثمتْ بها هَفَواتُ الصيف من كل جانب» وهفوات الصيف غبارة الدقيق الذي يدخل العين والأنف والأذن والصدر ويسد النفس سداً، وهي (سباريت) لا رمل فيها وقد يؤنس الرمل ويصدر صوتاً حلواً، لكن هذه الصحراء السباريت لا صوت فيها سوى صُبَاح الثعالب! والحرباء فيها يرفع يديه للشمس كأنها يدا مذنب يستغفر ربه! شاعر فحل إذا قرأت له فضع بجانبك لسان العرب! ٭٭٭ يقول ذو الرمة وقد وَقَفَ على منازل (مي) وتذكر محزوناً أيامه السعيدة التي ذهبت مع الريح ولم يبق حتى من المكان إلا رموز صغيرة تنتفض بالوجد والذكرى: «ما بالُ عينك منها الماءُ ينسكبُ كأنه من كُلى مغرية سَرَبُ لا بل هو الشوقُ من دار تَخَوَّنَها ضَرْبُ السحاب ومَرُّ بارح تَربُ يبدو لعينيك منها وهي مُزْمَنَةٌ نؤى ومستوقد بال ومُحْتَطَبُ دارُ (مَيَّة) إذ (ميٌّ) تُسَاعُفنا ولا يُرْى مثلها عُجْمٌ ولا عربُ ليالي اللهو يُطْبيني فَأُتْبِعُهُ كأنني ضاربٌ في غَمْرَة لَعبُ لا أحسبُ الدهرَ يبلى جدَة أبداً ولا تَقَسَّمُ شَعْباً واحداً شُعَبُ» كان يظن أن أيام السعادة تدوم وأن الدهر الغضّ سيظل طفلاً جميلاً وما درى أن دهره شيَّبه وشاب، وكلنا ذلك الإنسان، وكان يظن أن اللقاء لن يتمزق بفراق ولكن صروف الليالي والحظوظ العواثر لها رأي آخر. ٭٭٭ ويقول: «أَمَنْزِلتي مي سلامٌ عليكما هل الأَزْمُن اللائي مَضينَ رواجعُ؟ وهل يُرْجِع التسليمَ أو يكشفُ العمى ثلاثُ الأثافي والرسومُ البلاتعُ» يسلم على أطلال منزلها ثم يسأل نفسه: هل ترد السلام، رسومٌ لا حياة فيها أو ثلاث الأثافي؟ بقايا الأحجار التي كانوا ينصبون عليها قدورهم فهي سوداء من النار؟ «قف العيسَ ننظرْ نظرة في ديارها فهل ذاكَ من داء الصبابة نافعُ؟ وَقَلَّ إلى أطلال (ميّ) تحيةٌ تُحَيَّي بها أو أن تُرَشَّ المدامعُ؟» قليل في حقِّ منزلها المهجور أن يسقيها بدمعه! «ألاَ أيها القلبُ الذي بَرَّحَتْ به منازلُ مي والعرانُ الشواسعُ أَفي كُلِّ أطلال لها منك حَنَّةُ كما حَنَّ مقرونُ الوظيفين نازعُ» يقول لقلبه الذي اشتد عليه الوجد من رؤية منازل «مي» ومن السفر إليها عبر الصحاري البعيدات الواسعات: أتحنُّ عند كُلِّ بقايا منزلها كما حَنَّ البعير المقيد والذي ينزع حنيناً إلى وطنه ولكنَّ القيد يمنعه. «الوظيفين» عَظْمَا اليدين. ٭٭٭ ويصف ما يفعله وهو واقف على منازل (مي) الدراسة: «أمنْ دْمَنة بينَ القلات وشارع تصابيتَ حتى ظلّت العينُ تَدْمَعُ أجل عَبْرةُ إذا ما وَزَعْتُها بحلمي أبتْ منها عَوَاص تَسَرَّعُ عشيِّةَ ما لي حيلةٌ غير أنَّني بلَقْط الحصى والخَطِّ في التَّرْب مع مُوْلَعُ أَخُطُّ وأمحو الخطَّ ثم أُعيْدُه بكَفيَّ والغرْبانُ في الدار وُقَّعُ» إنها صورة معبرة عن الأسى والحيرة: فهو في منازل مي المهجورة يلقط الحصى مرة، ويَخُطُّ على التراب ثم يمحو الخط ثم يخط من جديد، ذاهلاً شجيّاً والغربان على المنازل واقعات، لم تقع الغربان من خير! وما أبعد ما يقوم به غيلان (ذو الرمة) حين يخط الخط ثم يعيده في منازل (مي) الدارسة، عن قول الشاعر اللبناني المترف والذي صدحت بشعره فيروز بصوتها الجميل: يبكي ويضحك لا حُزْناً ولا فَرَحا كعاشق خَطَّ سطراً في الهوى ومَحَا من بُسْمَة النجم هَمُسٌ في قصائده ومن مخالسة الظبي الذي سَنحا قلبٌ تمرَّس باللذات وهو فتى كبُرْعُم لمسَتْهُ الريح فانفتحا ما للأقاحية السمراء قد صَرَفتْ عنها هواها، أَرقُّ الحُسْن ما سَمَحَا غداةَ لوَّحْت بالآمال باسمة لان الذي ثار وانقاد الذي جَمَحَا الشاعر هنا مترف غزلٌ طروب، سَلْسلُ كلماته ينبع من نشوة حبّ سعيد بين وَصْل ودُلً يعقب الوصل ويعبق بوعد، أين هو من شاعر الصحراء المحروم والذي لا وصلاً نال، ولا حياة عاش، ثم دوى في الصحراء هالكاً عطشاً هو وناقته (صيدح) حتى ضرب أهل نجد به المثل فقالوا: (هَفّ هَفّة غيلان على صَيْدَح) وكلمة (هَفّ) هنا تعني قُبرَ حياً.. وهو ما حدث لذي الرمة. (ابن لعبون) أسعد من ذي الرمة قليلاً، أو على الأصح أقل منه شقاءً نسبياً، فهو الآخر ربيب صحراء كانت فقيرة جداً وشديدة القسوة من كل النواحي، ومات صغيراً بالطاعون. أولئك أجدادنا.. ولكنَّ الأمور الآن اختلفت كثيراً.. ونطمح أن تواصل اختلافها إلى الأجمل.