من فضل الله عليّ أن أعفاني هذا العام من مسلسلات رمضان وبرامجه وجعلني أتأمل في الأمر من بعيد. صومي في كندا وكثرة أعمالي وفارق التوقيت حالت بيني وبين التلفزيونات العربية. لم أشاهد أي حلقة من سلفي أو برنامج الشريان أو العلياني أو باب الحارة وغيرها مما عليه تتفرجون. لا أعرف ما هي الخسارة التي منيت بها جراء غيابي عن هذه البرامج. تابعت في الجرائد والنت ما قيل عن هذه البرامج والمسلسلات وعلمت قبل دخول رمضان أن ثلة من أبرز نجوم الدعاة على المستوى الدولي سوف يظهرون في برنامج منافس لبرامج الليبراليين ويبزونهم بزا. أعتب على الأخوة الإعلاميين والتوتريين عدم الحديث عن هذا البرنامج الأمر الذي حرمني من التحقق مما فاتني من علم وثقافة وتبصيري بأمور ديني وآخر أخبار الخلافة. من أفضل الأشياء وربما من أسوأها أن تغيب عن حراك مجتمعك. متابعتي للأعمال جادها وسخيفها لا شك سيضيف إلى تجربتي. سيجعلني قادراً على تقييم الأمور واكتساب معرفة بالناس أصيلة. بيد أن للغياب فوائده هو الآخر. يتوقف عقلك عن امتصاص السخف المتدفق والمشاركة فيه. لكي لا يبدو الكلام فلسفياً لا يفهمه إلا الضالعون في العلم عليّ أن أقول إن برامج التلفزيون مليئة بالسخف ولكن هذا السخف هو ما يطلبه الناس. في الوقت الذي يمتلئ عقلك بما تقدمه هذه البرامج فأنت تتعرف على حقيقة الجماهير وإمكانياتها. من يظن أن السخف وقف على برامج العرب عليه أن يعرف أن البرامج الأميركية واسعة الانتشار أكثر سخفا. لكن كيف نقيم السخف وعلى أي الأسس. أن أخطر المعايير التي يمكن استخدامها الخلط بين النظرة الجادة للحياة وبين ساعات المرح والتسلية. لو تراجعت قليلا ونظرت إلى حقائق حياتك سترى أن كمية السخف على هذا المعيار أكبر وأعم وأشمل والأكثر شعبية. عدد الساعات التي تصرفها في عمل جاد لا يتعدى سويعات في اليوم هذا إذا لم يفرض عليك كسب العيش ساعات أطول. بينما الجلوس في الاستراحة وضرب المعسل مع الأصدقاء والشلة والتفرج على التلفزيون وتبديد الوقت في قراءة المقالات (السخيفة) وسماع الأغاني والتفرج على مباريات الكورة وتقليب الجوال والدوران في الشوارع هي حياتك الحقيقية. تسعى لكسب المال لكي تسافر وتشتري جوالا فاخرا وشاشة فخمة وكعكة لعيد ميلاد جدتك، يمكن القول إن تسعين في المئة من حياة الإنسان الطبيعي هي هكذا. لكن من ذا الذي يقيم جديتي من مرحي. ما الذي يجعلني أترك المرح والتسلية وسعة الصدر وأعتكف على كتاب شرح فلان على كتاب ابن فلان. فتش في أحلامك وهواجسك تحسس كمية السخف المرتجاة. هل سبق أن حلمت أن تملك مكتبة بحجم مكتبة الكونغرس أم أنك تحلم بقصر وسيارة فاخرة وإلى جوارك تجلس امرأة جميلة، تتفرجان على مخابط دواد الشريان مع أحلام. هذا الذي نسميه سخفاً هو رفاهية وسعة صدر. وإذا أردنا ان نستخدم المصطلح الذي يستخدمه الفلاسفة نقول (السعادة) وهي القيمة الأعلى في حياة البشر. الإنسان يشقى ليسعد. لا تلتفت للمثبطين والمرتزقين من تجارة الكآبة، وكل عام وأنتم بألف خير.