قبل ما يقارب من (50) عاماً وبالتحديد في شهر ربيع الأول من عام 1385ه، استقبل المواطنون وبدهشة كبيرة بداية البث التلفزيوني من محطتي الرياضوجدة، في مشهدٍ لا يزال عالقاً في أذهان ذلك الجيل، والذي زامن اجتماع العائلة بكامل أفرادها أمام شاشةٍ صغيرة لا يزيد بثها في اليوم الواحد عن فترة محدودة قد لا تتجاوز الساعة الواحدة، إلى أن تطور إلى عدد محدود من الساعات، تتبادل البث فيها محطتي الرياضوجدة، فما يُعرض في الأولى سيُعرض في وقت لاحق في المحطة الثانية والعكس كذلك. وكان الأهالي حينها ينتظرون بشغف مواعيد بث البرامج، بل كانوا يفرغون أنفسهم في ساعات البث كي يجتمعوا مع أسرهم أو جيرانهم أمام شاشة التلفاز، الذي كان حينها نادراً بندرة برامجه التفاعلية، لذا كانت المنازل التي يتواجد فيها «تلفزيون» معدودة بالأصابع، لاسيما في العام الأول من بداية البث، ومع تقدم الأيام ازداد عدد «التلفزيونات»، وتطورت البرامج التي كانت في بدايتها تعتمد على الصور الثابتة التي يفتقد معها المشاهد عنصريٍ الجذب والتفاعل، ومع هذا بدأ القائمون على إدارة البرامج بخطوات متقدمة لإنتاج برامج محلية من محطتي الرياضوجدة. «كبيرات السن» يغطين وجوههن أمامه ويعتبرنه «ضيف غريب» ويسمينه «تلف عيون»! أبيض وأسود كان الأهالي «يتسمرون» أمام جهاز التلفاز، وكأنهم يطلون على العالم من نافذة صغيرة يتنقلون معها من شرق المعمورة إلى غربها، ولك أن تتصور كيف كانت هذه البرامج تشد الصغار والكبار، الرجال والنساء، كلهم يجتمعون كحلقة واحدة، تتملكهم الدهشة وتخلب ألبابهم الإثارة الدرامية، سكوتٌ لا حراك لأحدهم إلاّ حين تظهر شارة «نتوقف لأداء الصلاة»، أو حين ينقطع البرنامج فجأة، فتظهر تلك الشارة غير المرحب بها «نأسف لهذا الخلل الفني»، كانت الأسر التي تمتلك تلفازاً في فترة الستينيات الميلادية يشار إليها بالبنان ويخطب ودها الأهل والجيران، ولك أن تصف حال ذلك «الابن» الذي بدأ يتفاخر بين أقرانه وأبناء جيرانه لمجرد أن والده اشترى تلفازاً، واستطاع من خلاله أن يتسيد زملاءه الذين راحوا يسألونه عن ما شاهده من خلال «الشاشة الكونية»؟، وكيف استطاع ذلك المغامر في برنامج «الخطر مهنتي» الذي عرض عام 1386ه أن يتجاوز كل هذه الصعاب فيقتل الأسد ويغدر بالذئب وينام بالخلوات ويقطع الفلوات؟، كان الصغار يحكون كل ما شاهدوه مساء البارحة لزملائهم بالمدرسة، في حين كان الكبار ينتظرون انقضاء ساعات النهار ليجتمعوا في مقهى «العويد» أو «المربع» أو وهناك من لم يشتر سيتفرج، وكانت أسعار «التلفزيونات» في بداية انتشارها لا تتجاوز بضع المئات من الريالات، كما كانت صغيرة الحجم، الكبيرة منها لا يتجاوز (25) بوصة، ومع بداياته الأولى شعرت الأسرة أن قد حل بها ضيف غريب، فكثيراً ما كانت النساء -لاسيما كبيرات السن- يغطين وجوههن أمامه ويسمينه «تلف عيون»، وتنتهي حقبة الثمانينات بوصول «أرمسترونق» وزميليه لسطح القمر، ليجتمع الناس في المقاهي لمشاهدة الحدث عبر الشاشات، التي ردد من خلالها «المنلجوست» «عبد العزيز الهزاع» «يا قمر وصلك أبولو قلي ايش تبغى تقولو». الشيخ الطنطاوي في برنامجه الشهير نور وهداية قفزة إعلامية ويُعد ظهور التلفزيون بمثابة القفزة الإعلامية التي أبهرت أبناء ذلك الجيل، لاسيما وهو يعرض البرامج المنوعة، كبرنامج «مجالس الإيمان» وبرنامج «حديث الأصدقاء» في كل من الرياضوجدة، في حين كان برنامج «فكر واربح» وبرامج أخرى ك «اخترنا لكم» و»هذه بلادنا» و»مسرح التلفزيون» و»طبيبك معك» تمثل صفوة البرامج التلفزيونية عام 1385ه، وكانت إطلالة الشيخ العلامة «علي الطنطاوي» والشيخ «عبدالعزيز المسند» -رحمهما الله- في برنامجي «نور وهداية» و»منكم وإليكم» حاضراً مشرقاً لتلفزيون ذلك الزمان، إلى أن بزغ -في السبعينات- برنامج «في ظلال القرآن» من تقديم «سليمان العبيد» و»قضايا وردود» للشيخ «د.عبد الله المصلح»، وغيرها من البرامج الدينية والعلمية ك»العلم والإيمان» و»من كل بحر قطرة» وبرامج أخرى ك» العيون الساهرة» و»أبناؤنا في الخارج» و»كلمة عتاب» و»ربوع بلادي» من تقديم الأستاذ «خالد زارع» -رحمه الله-، وكانت البرامج الرياضية حاضرة ك»ركن الرياضة»، ومسابقات الأطفال في رمضان ك «بابا علي» بأنشودته الشهيرة و»بابا أمين»، هذا عدا البرامج المستوردة كالمسلسل اللبناني «سر الغريب» و»فارس بني عياد» و»أشعب والكندي» الذي عرض عام 1388ه، يردد فيها أبطال المسلسل أهزوجتهم المضحكة «نحن الثلاثة سكر بناته أشعب والكندي وأبا زرافة»، وكانت المسلسلات اللبنانية ك»المنتقم» و»أسير المحراب» و»ابن الحرامي وبنت الشاويش»، والسورية ك «حمام الهنا» و»صح النوم» و»وصية المرحوم» تمثل مع البرامج والمسلسلات المحلية المادة التلفزيونية لما يعرض آنذاك، ومَن مِن أبناء ذلك الجيل يستطيع أن ينسى تمثيلية «براك ذلك معنى الحياة»، أو مسلسل «فندق المفاجآت»، أو مسلسل «فرج الله والزمان»، حين يدوي رنين الهاتف في المنزل الهزاع فيصيح فرج الله «من ذا بيته؟»، وكذا كان مسلسل «تحفة مشقاص في كفر البلاص» و»غداً تشرق الشمس»، وبرامج أخرى لم تجد من بين الأكاديميين والمسؤولين من يجمعها ويعمل على توثيقها، لولا إلى أن استدركتها جهود بعض المشاركين في المنتديات التفاعلية الذين رغم عدم تصريحهم بأسمائهم، إلاّ أن جهودهم في توثيق هذه المرحلة كان محل تقدير وإعجاب هواة جمع المعلومة عن بدايات التلفزيون العربي السعودي. عازف الليل ما أن جاء عصر السبعينات الميلادية، إلاّ وبدأت البرامج والمسلسلات المصرية تأخذ نصيبها من عروض التلفزيون، بعد أن كانت برامج الستينات مقتصرة على البرامج المحلية والمسلسلات اللبنانية والسورية وأفلام الكرتون والأفلام الأجنبية؛ لتبدأ كذلك المسلسلات الكويتية عصرها الذهبي في نهاية السبعينات وبداية القرن الهجري الجديد، وما يزال ذلك الجيل يذكر المسلسل «فارس ونجود»، ثم مسلسل «متعب الشقاوي» بأنشودته الشهيرة «يا متعب حبك صفا لي يا راكبي على الخيلي أريدك ليا حليلي»، ومسلسل «وضحى وابن عجلان»، إذ لا ينسى المشاهد لقطة الفنجال وهو يدور في مجلس القوم الذين يتساءلون «مين يشرب فنجال ابن عجلان»، كذا كانت المسلسلات الشهيرة ك «الليل الطويل» و»الجوال» و»حذاء الطنبوري»، والمسلسل الكويتي «أجلح وأملح» و»برج الحظ» الذي عرف باسم بطل المسلسل «شرارة»، الذي ما أن ينزل في مكان إلاّ وتحل معه المصائب، ومع هذا يغنون له «اسم الله عليه ربنا حرصه، اسم الله عليه شراره» وغيرها من المسلسلات ك «الأقدار» و»درب الزلق» و»عازف الليل»، وفي أواخر السبعينات ظهر «الفيديو» الذي وصلت مبيعاته في أسواق الخليج في منتصف الثمانينات أعلى نسبة مبيعات بالعالم، وقد شهدت أواخر السبعينات أيضاً ظهور «التلفزيون الملون» الذي جلب المتعة والإثارة والدقة للمشاهدين الذين استقبلوه في عام 1396ه، ويقال إن الألوان دخلت إلى تلفزيون جدة عام 1394ه، كما تميزت السبعينات بنقل مباريات كرة القدم والمنافسات الرياضية وبعض اللقطات من الرياضة العالمية، كبطولات «محمد علي كلالي» ومباريات كأس العالم، لاسيما تلك البطولة التي حازت الأرجنتين على كأسها عام 1978م أمام منتخب هولندا بالعاصمة الأرجنتينية بيونس أرس وكذلك برنامج المسابقات الشهير «تيلي ماتش». الاجتماع في مقهى «العويد» أو «المربع» .. واللي ما عنده تلفزيون يتفرج برامج الأطفال وامتازت تلك الحقبة بأفلامها الأجنبية المثيرة للجدل، ك»رجل الستة ملايين دولار» وبطله «استيف أوستن»، الذي كان يقفز من البنايات الشاهقة ويبصر لمسافة عشرات الكيلو مترات، بل ويخرج من يديه أسلاكاً كهربائية، أحدث هذا المسلسل ضجة لتأثيره على الأطفال الذي راحوا يقلدون «استيف أوستين» مما عرضهم لمخاطر السقوط والعراك، وكذا كان مسلسل «سوبر مان» ومسلسل «الرجل الأخضر» الذي ما إن يُستفز إلاّ وينقلب إلى وحش كاسر ويتحول لونه إلى الأخضر، فيتمزق قميصه مع ازدياد حجمه وغضبه، وكذلك مسلسل «مايا» الفيل الوديع الذي يقوده طفل هندي يضيع فيله فيبكي عليه. ومع بداية الثمانينات الميلادية بلغ التلفزيون ذروة عهده وعصر شبابه، إذ ما زالت برامج الأطفال في تلك الفترة عالقة في أذهان شباب وكهول هذا الجيل، ولا تسأل عن حال الفتيات حين يبدأ برنامج الأطفال، لاسيما إن كان من إنتاج «تلفزيون المدينةالمنورة»، الذي كان مميزاً ببرنامج الصغار وفوازير رمضان، وما زالت الأمهات في زمنا هذا يتذكرن جيداً أهزوجة «وردتي يا وردتي إنتي منايا ومنيتي» و»مره أخويا أخذ كبريت وأم وأبويا خارج البيت يا لتني شفته يا ريت»، أو «فستاني يا بابا موديله راح مقدر أرحب والسنة دية اسأل ماما وأختي صباح عن موديل السنة ديه»، وأنشودة «يا بابا يا غالي ما غبت عن بالي»، كانت هذه الأناشيد من تلفزيون المدينةوجدة، أما في الرياض فما زالت أنشوة «جمال أبي جمال أبي وصل سلامي لأمي وأبي»، حاضرة في ألباب أبناء وبنات ذلك الجيل، وفي محطة تلفزيون القصيم كانت أنشودة «أحلى المصايف في بلادي قضينا فيها الصيفية، الخضرة والجو الهادي في الباحة وأبها البهية»، وكان للفوازير طعم ونكهة أخرى إن هي أعدت من قبل تلفزيون المدينةالمنورة. مسلسل مشقاص شهد متابعة من قبل المشاهدين نقلة مرحلية أما المسلسلات الكرتونية المدبلجة فيظل «سندباد» و»الليث الأبيض» ومغامرات الفضاء «جريندايزر» و»عدنان ولينا» و»جزيرة الكنز» إحدى محاسن الدنيا عند أطفال ذلك الجيل، الذين كانوا لا يخفون إعجابهم بذلك البحار الأعرج ذي الرجل الخشبية «سيلفر»، الذي جمع الجسارة والحلم والحزم، فيما كانوا يتعجبون كثيراً كيف كانت أن «سميرة» شريكة الدكتور «علام»، وصاحبة الشعر الذهبي هائمة في عشق ذلك البحار الأرعن «نامق». الابن يتفاخر بين أبناء جيرانه بأن والده اشترى تلفازاً و «يقهرهم» في اليوم التالي بما شاهده! وفي عام 1403ه أحدث التلفزيون نقلة مرحلية في مسيرته حيث بدأ البث في القناة الثانية باللغة الإنجليزية، وفي عام 1406ه كان موعد المشاهدين لأول مرة مع نقلة نوعية لا تنسى، حيث بدأ عرض الإعلانات التجارية التي كانت تخلب ألباب المشاهدين، حيث تتسمر الأسرة بأكملها أمام «التلفزيون» بعد نشرة الأخبار الرئيسية وقبل المسلسل اليومي لتعيش جواً من المتعة والرفاهية والإثارة مع الإعلان التجاري الذي ملأ المجالس صيتاً وأشغل الناس، وكان أول إعلان تجاري في التلفزيون مؤرخٌ لقشطة «نستله» و»لبن المراعي» و»زيت عافية» و»مركز فتيحي»، استمر تكرار هذه الإعلانات عدة أيام، انهالت بعدها شركات القطاع الخاص لخطب ود التلفزيون بغالي الأثمان، كان الإعلان حينها يحقق أعلى أهدافه فلا عجب أن تشاهد منتجاً من الكريم الملطف للبشرة، أو مرطباً للشفاه في منزل أسرة تعيش في البراري أو القرى، كما كانت الرسالة الإعلامية للتلفزيون في بداية بثها عالمياً تصل إلى أعلى مستوياتها، وكان الإعلاميون ومنظرو الرسائل الإعلامية يتباهون، بل ويبالغون في تأثير الرسائل الإعلامية ومدى قوتها وتأثيرها على الجماهير، إلى أن ظهرت نظريات الحقنة الإعلامية التي تبين مع مرور الزمن محدوديتها وتكاملها مع نظريات أخرى مكملة لها. «صح النوم» و«فندق المفاجأت» و«مشقاص» و«درب الزلق» و«متعب الشقاوي» مسلسلات لا تنسى رائد الفضاء كانت سهرة مسرح التلفزيون وإنجازات المنتخب السعودي عام 1984 من شواهد نجاح عصر الثمانينات، كما كانت مسلسلات «أيوب البحر» و»الصبر طيب» و»هند والدكتور نعمان» و»إلى أبي وأمي مع التحية» و»أبله منيرة»، وكذلك «خالتي قماشة» التي عرضت في شوال عام 1403ه حديث الناس، وهكذا كان مسلسل «البرادعي» و»أبو العلا البشري» و»كابتن جودة»، وجميعها كانت علامات فارقة في برامج ومسلسلات الثمانينات، كما كان الاتصال الفضائي الحي والمباشر الذي أجراه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد – رحمه الله – وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بأول رائد فضاء عربي مسلم الأمير سلطان بن سلمان أواخر شهر رمضان عام 1405ه من شواهد البث الحي للتلفزيون السعودي آنذاك، وأنهى التلفزيون السعودي فترة الثمانينات الميلادية ببرنامج المسابقات الجماهيري «حروف»، الذي يعرض في شهر رمضان ليكون ختام حقبة ذهبية تميز فيها التلفزيون بتنوع عروضه ودقة متابعته ومراقبته لما يعرض عبر شاشته الفضية، في حين لا ينسى من أدرك تلك الفترة كيف كانت فوازير رمضان مختلفة عما سواها من برامج مسابقات الأطفال، لا يشاركها في نجاحها إلاّ ما سبقها من فوازير السبعينات. التلفزيون أنهى فترة الثمانينات الميلادية ببرنامج المسابقات الجماهيري حروف قنوات فضائية ومع بداية التسعينات الميلادية تسيّدت برامج التلفزيون المسلسلات والبرامج الوطنية أبان أزمة الخليج، في حين كانت النقلة الفضائية لعالم التلفزيون والتلفزة في عام 1412ه، حين بدأ بث القنوات الفضائية عبر الأقمار الصناعية، التي فتحت أبواب التلفزة العالمية بثها وسمينها أمام المشاهد، ووضعته أمام الرقابة الذاتية، بل وفتحت له شرفة الإطلاع المباشر والنقل الحي للحدث، ليتزامن معها -في نهاية التسعينات- ظهور الشبكة العنكبوتية، مؤذنةً بعصر جديد للألفية الميلادية التي عاصر معها «جيل اليوم» ظهور برامج «اليوتيوب» و»الفيس بوك» و»التويتر»، التي مكنت أبناء هذا الجيل التواصل مع مصادر الرسالة الإعلامية، وفتحت للمتلقي أبواب المشاركة وتدوير الرسالة الاتصالية، مما أتاح لمن كان يسمى « المتلقي» إعداد بل وإنتاج الرسالة الإعلامية عبر جهاز صغير لا يتجاوز نصف كف اليد، يستطيع من خلاله أن ينشئ الرسالة ويدير العملية الاتصالية والإعلامية، مختصراً بذلك ظروف الزمان والمكان، كما مكنه «اليوتيوب» من إعادة ما فاته من برامج وأحداث جعلت جهاز الفيديو في حل من أمر تقاعده، ليبقى مع «التلفزيون» الأبيض والأسود أثراً بعد عين، وحديثاً من أحاديث الماضي، لا يسعنا من ذكراها إلاّ أن نردد قول ابن زيدون: بالأمس كنا وما يخشى تفرقنا ** واليوم نحن وما يرجى تلاقينا درب الزلق من أشهر المسلسلات الخليجية في السبعينات الميلادية برنامج منكم وإليكم الذي كان يقدم الشيخ المسند منصور العساف