تتفاوت الرؤية العربية لأمن الخليج من دولة إلى أخرى، كما أن غياب هذه الرؤية يبقى سمة ملازمة لكثير من الدول.وفي مصر، بلورت شخصيات في المؤسسة العسكرية خلال مطلع الثمانينات من القرن الماضي رؤية خاصة بأمن الخليج قالت بالمفهوم التنموي له، أو ما بات يعرف بالمدرسة الليبرالية للأمن. هذه المدرسة التي تقول بضرورة الأخذ بالأبعاد الاجتماعية والسياسية بموازاة البعد العسكري. ولا ريب أن هذه نظرة متقدمة بالنظر إلى طبيعة الأولويات والأجندة التي كانت مهيمنة على المنظورين الإقليمي والدولي لأمن الخليج، حيث تم اختزاله في بعد عسكري مبهم . وقد برز هذا الاتجاه مع تبني مصر تحقيق التنمية الاقتصادية عن طريق الاستثمارات والتكنولوجيا الغربية هدفاً قومياً لها منذ منتصف السبعينيات، حتى أصبح الاستقرار والسلام حجر الزاوية للسياسة الإقليمية لمصر واستمرت تداعيات ذلك حتى عهد الرئيس حسني مبارك، وقد أوضح وزير الدفاع المصري السابق الفريق عبد الحليم أبو غزالة مثل هذا المعنى في مقابلة له مع مجلة المصور المصرية في حزيران يونيو 1986 حيث صرح : أننا نريد التكنولوجيا المتقدمة ومزيداً من الاستثمارات، كما نريد من العرب أن يزيدوا استثماراتهم في بلادنا، وكل هذا لا يمكن الوصول إليه من دون تحقيق الاستقرار في المنطقة. وقد ارتبط المفهوم الرسمي لأمن الخليج باعتباره بعداً للأمن القومي المصري خلال تلك الفترة بمقولات ثلاث ربطت جميعها بينه والصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، فلم تكن الحرب الباردة قد انتهت بعد. حيث رأت القيادات المصرية أن الاتحاد السوفيتي يسعى لتطويق منطقة الخليج مستهدفاً مصر خاصة بعد أن توترت علاقاتها معه منذ وصول الرئيس أنور السادات للحكم، ومن ثم التحكم في طرق نقل النفط، وذلك عن طريق تطويق مصر بعدد من الدول المؤيدة له مثل ليبيا واليمن الجنوبي، وقد كانت المخاوف المصرية من إحكام الاتحاد السوفيتي قبضته على الخليج واستبعاده الدور المصري من المنطقة مدعاةً لأن تحذر مصر الولاياتالمتحدة من التقليل من شأن التهديد السوفيتي للمنطقة، ومن خطر تراجع النفوذ الأمريكي فيها. وقد أكدت المقولة الثانية الارتباط بين الأمن المصري وامن منطقة الخليج وبين الأمن الغربي الذي يرتكز على التصور الأمريكي لأمن الخليج، والذي ينظر إليه على انه منفصل عن تطورات الصراع العربي الإسرائيلي دون نفي حقيقة كون الخليج جزءا من الوطن العربي، وأنه مهددٌ باستمرار من قبل الاتحاد السوفيتي، وأن أمنه هو امن عسكري بالدرجة الأولى ولن يتحقق إلا عن طريق التنسيق العسكري مع الولاياتالمتحدة، وقد تضمن مبدأ كارتر هذه العناصر مجتمعة وعكستها سياسيات إدارة ريغان. وعلى ضوء ذلك، عمل الرئيس السادات على تحسين علاقاته مع الولاياتالمتحدة حتى تسمح له بلعب دور في الخليج من خلالها، ولتدعمه في مفاوضات السلام مع إسرائيل، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه بتصريح الرئيس كارتر في 22 شباط فبراير 1979 والذي رسم فيه تصوره للدور المصري في الخليج والذي جاء فيه أنه من الممكن أن تكون مصر قوة استقرار وشرعية تقوم بدور لمواجهة التهديدات التي قد تتعرض لها أي دولة بالمنطقة، ومن ثم مصر بهذا المعنى تلعب دوراً في حماية السلام. أي أن مصر ستلعب دوراً في حماية البلاد العربية محدودة القوة وفي حماية السلام في الشرق الأوسط. في حين نظرت المقولة الثالثة إلى أمن مصر وأمن الخليج المرتبطين بالأمن القومي العربي من خلال إطاره الإقليمي، والذي فرض على مصر ضرورة العمل بعيداً عن السياسة الأمريكية لإقرار الأوضاع في الخليج، فقد صاغ أبو غزالة في مطلع الثمانينات هذه المسألة على النحو التالي: - ما يتهدد أمن الخليج هو الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية، وبذلك بات أمن الجناح الشرقي للمنطقة العربية مهدداً لارتباطه بأمن الخليج، ومن هنا برر دعم مصر للعراق وأكد صراحة ضرورة أن تتوقف إيران عند حدودها الدولية. - لا يمكن أن تلعب مصر دورها في تأمين الخليج دون مساعدة أمريكية، وهذه المساعدة يجب أن تشتمل على تطوير القدرات العسكرية ليس لمصر فقط بل وللخليجيين أيضا، فوفقاً لأبوغزالة : إننا نحتاج السلاح ونحن قادرون على ممارسة أعمال الردع والدفاع، فالشعوب من حولنا يجب أن ترى مصر والسعودية قويتين، وعلينا أن ننمي العلاقات بين الدولتين كي تعملا معاً مرة ثانية، فانه من صالح الغرب وجود قوة الاستقرار هذه قادرة على التصدي لأي أخطار تأتي من الخارج، فما ينقص مصر وفقاً له هو المال اللازم لبناء قوة رادعة ولحماية الخليج. - المصالح المصرية المرتبطة بأمن النفط الخليجي وطرق نقله إلى الأسواق العالمية عن طريق قناة السويس. وبذلك تجاذبت الدور المصري في منطقة الخليج حتى مطلع التسعينات رؤيتان، احداهما تنظر إليه باعتباره مرتبطاً بالرؤية وبالدور الأمريكيين، مما يعني لعب الدور في ضوء ما هو مرسوم وعدم الخروج عليه باعتبار أن ذلك جزء من ترتيبات إدارة الحرب الباردة، أما الثانية فتؤكد البعد الإقليمي الأيديولوجي غير العسكري لأمن المنطقة ومن ثم للدور المصري الذي يجب أن يؤدى وفقاً لحسابات إقليمية أكثر منها دولية، وما حسم هذا الصراع هو مناخ العلاقات العربية العربية آنذاك، والذي اتسم بصراعيته واستبعاده لمصر، فلم يكن ممكناً أن يؤدى الدور المصري وفقا للرؤية الأولى، فالمعطيات الإقليمية لم تكن لتسمح بذلك، وكان من المتعذر تأديته وفق الرؤية الثانية في ظل القطيعة التي عانت منها مصر، وانصرف التقدير العام في الخليج خاصة مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية إلى انه ليس مطلوباً من مصر إرسال قوات للمرابطة في الخليج بل أن تشكل رادعاً ضد التهديدات العسكرية الإيرانية المحتملة وأن تكون مستعدةً للتحرك عند الضرورة . وحقيقة كان للمقولة الأولى الانعكاس الأكبر على الدور المصري في الخليج في فترة الثمانينات، حيث كانت الحرب العراقية الإيرانية الحدث الأهم الذي وقع خلالها بل والأطول، إذ كان ذلك الدور «معسكراً » إن جاز التعبير، رغم بدء الاهتمام بأبعاده غير العسكرية، وهذا ما يمكن أن نلحظه في الآتي: - تقديم مصر للعديد من المساعدات العسكرية في صيغ متنوعة، كتقديمها للعراق قطع الغيار لأسلحته السوفيتية بعد أن رفض الاتحاد السوفيتي تزويده بها، وذلك لعدم رضاه عن الحرب، حيث كانت له حساباته الخاصة التي أجراها في ضوء اعتبارات الحرب الباردة، كما سمحت القاهرة بنوع من الهجرة الانتقائية والتي ذهب في ظلها عدد من العسكريين المهرة لبغداد، والذين احتاجهم الجيش العراقي، وأرسلت عدداً من مجموعات التقويم القادرة على تقويم موقف العراق عسكرياً، كما تساهلت مع من كان يخدم من المصريين في الجيش العراقي. وذلك في الوقت الذي اتخذت فيه من مبدأ عدم التورط في صراعات عسكرية خارجية نهجا حاكماً لقراراتها الخاصة بالمشاركة العسكرية في أي صراع عربي، ولذا نجدها رفضت طلب عمان بإرسال قوات مصرية تحل محل القوات الإيرانية التي غادرت بعد انتصار الثورة الإيرانية، والاستثناء الذي يرد على ذلك هو المشاركة المصرية في حرب الخليج الثانية. - انتهجت مصر العديد من سبل التعاون العسكري مع واشنطن والتي هدفت لتأمين الدور المصري في الخليج، حيث منحتها وجوداً عسكرياً مؤقتاً في قاعدة رأس بناس غرب القاهرة، التي رغبت واشنطن في أن تكون قاعدة أمريكية دائمة، خاصة وأنها تقع على البحر الأحمر وتربط الأخير بالبحر المتوسط، إلا أن هذا المسعى قوبل بالرفض من قبل السادات، بل انه ربط حصول القوات الأمريكية على التسهيلات العسكرية التي تقدمها هذه القاعدة بنشوء موقف طارىء في الخليج ترى الولاياتالمتحدة ومصر أنه يمثل أزمة تتطلب تدخلاً أمريكياً، وبطلب تقدمه أي دولة عضو في الجامعة العربية. كذلك، دخلت مصر في تدريبات مشتركة مع القوات الأمريكية، ومنها تلك التي أجريت في الأول من كانون الثاني يناير 1980 في إحدى القواعد الجوية في صعيد مصر بهدف تدريب الطائرات الحربية المصرية على إصابة أهدافها. وقد ارتبط الاهتمام المصري بالأبعاد المتعددة لأمن الخليج بتعدد المصالح المصرية في المنطقة، حيث كان قبل ذلك ليس ذا أهمية تذكر في السياسة الخارجية المصرية، فبات يعتبر رقعة بالغة الأهمية بالنسبة للأمن القومي المصري وذلك لارتباط أمنه بأمن منطقة البحر الأحمر التي هي بدورها مفتاح الأمن المصري. بعبارة أخرى يعني الخليج لمصر السعودية التي تعني بدورها البحر الأحمر، وتمثل سوريا والأردن امتداداً جيواستراتيجياً للعراق، وسيطرة بغداد على الخليج قد تصل لقضايا غاية في الحساسية للأمن القومي المصري، فكان من المصلحة المصرية عدم سيطرة بغداد وعدم تدمير كامل قواتها العسكرية ولذا اتخذت موقفاً معينا من حرب الخليج الثانية. فالسيطرة العراقية أو الإيرانية على الخليج تؤدي إلى تغير شامل في توازن القوى في المنطقة فضلاً عن الشرق الأوسط، وهذا يعني في التحليل الأخير اضمحلال الدور المصري. فكان هذا سبب الاهتمام بالبعد العسكري. وعلى صعيد آخر، تمثل صناعة نقل نفط الخليج مصدراً مهماً من مصادر الدخل القومي المصري، حيث يتم نقل النفط عن طريق هرمز- بحر العرب فباب المندب-البحر الأحمر ثم قناة السويس فالبحر المتوسط. وخط «سوميد» على سبيل المثال ينقل النفط من رأس السخنة على البحر الأحمر إلى سيدي كرير على البحر المتوسط بمعدل 1,2 مليون برميل يومياً، وذلك فضلاً عن أهمية عوائد خط العبارات للناتج القومي الإجمالي المصري والممتد من الموانىء المصرية في الجنوب إلى الموانىء السعودية شرق البحر الأحمر والخط الملاحي الممتد من جنوبسيناء إلى السعودية. كذلك، يعتبر الخليج مقصداً أولياً للعمالة المصرية، حيث يوجد به ما يزيد عن مليون عامل مصري من اصل مليوني عامل موجودين في الدول العربية، فمثلاً يبلغ عدد العاملين في السعودية حوالي المليون وفي الكويت حوالي 200 ألف وفق إحصاءات العام 2004، وقد بلغ إجمالي تحويلات هذه العمالة لمصر مليار دولار أمريكي عام 1999، ولذا اهتمت مصر بالبعد الاقتصادي لأمن الخليج فضلاً عن بعده السياسي والاجتماعي. وبعد حرب الخليج الثانية جاء إعلان دمشق ليعبر جزئيا عن الرؤية المصرية لأمن الخليج، وتحديدا في جانبها المتعلق بالتأكيد على البعد العربي لهذا الأمن. وقد سبق هذا الإعلان ربط القيادة المصرية بين أمن الخليج الذي هدده الغزو العراقي للكويت والأمن العربي ومحورية الدور الذي يتعين على مصر الاضطلاع به، وهذا ما عبر عنه تصريح الرئيس مبارك في 22 كانون الثاني يناير 1991 أي بعد سبعة أيام من استئناف العمليات العسكرية في حرب الخليج. بل إنه برر مشاركة مصر في الحرب بوفائها بالالتزامات التي ترتبها عليها معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الاقتصادي، مما يعني اتخاذها هذه المعاهدة مرتكزاً عند الحديث عن أي ترتيبات أمنية في المنطقة، وذلك حسبما جاء خطابه في 24 كانون الثاني - يناير 1991 أمام مجلس الشعب . كما أكد هذه الرؤية أسامة الباز وكيل أول وزارة الخارجية ومدير مكتب الرئيس مبارك للشؤون السياسية في تصريح له، قائلا: إن النظام الأمني في منطقة الخليج بعد الحرب يجب أن يكون عربياً فحسب.. ووجود وضع خاص لدول الجوار مثل إيران وتركيا لا يعني مشاركتها في النظام الأمني القادم . وقد انعكست هذا الربط بين الأمنين في إعلان دمشق، مع ملاحظة أن أمن الخليج قد ربط بالأمن العربي بمعناه الجزئي مع إمكانية اتساعه مستقبلاً ليشمل الأمن العربي بأكمله، وبذلك فإن المقاربة المصرية تختلف عن المقاربة العراقية لأمن الخليج والتي عبر عنها العراق بصفة أساسية في السبعينيات والتي ربطت امن الخليج بالأمن العربي في سياقه الكلي. لقد حكم الموقف المصري من الأزمة الأمريكية مع العراق فاحتلاله ثلاثة متغيرات تفاعلت مع بعضها على نحو أدى لتطور الموقف المصري وتغيره، فقد ظلت أزمة الثقة عميقة بين الجانبين المصري والعراقي والتي تعمقت أكثر بغزو الكويت، فجذورها ترجع إلى فترة الستينيات ومحاولة العراق خلافة مصر في دورها القيادي على صعيد النظام العربي ثم قيادته لعملية استبعاد مصر عن الجسد العربي إثر توقيعها اتفاق السلام مع إسرائيل. أما المتغير الثاني فيتمثل في العلاقات المصرية الأمريكية وما تمتاز به من خصوصية مقارنة بأي علاقات عربية أمريكية أخرى، ونتيجةً لإدراك واشنطن حساسية الموقف المصري من أزمة العراق ومدى معارضة الرأي العام المصري لتصعيدها الموقف معه لم تمارس ضغوطاً عليها لتتبنى موقفاً مؤيداً من الحرب، وذلك في الوقت الذي لم تستجب فيه للمطالب المصرية الخاصة بإعطاء فرصة اكبر للمفتشين الدوليين. بينما تعلق المتغير الثالث بالمصالح المصرية الاقتصادية في العراق والتي ستضر بها الحرب كثيراً، سواء في مجال الصادرات أو العمالة أو الإعمار. يضاف إلى ذلك وجود رأي عام مصري رافض للحرب ولأي مشاركة مصرية فيها. ونتيجة لذلك، عملت مصر على التعامل مع الوضع العراقي على نحو يمكنها من التخلص من المأزق الذي واجهته سياستها العربية، خاصة تلك الموجهة للعراق، دون أن يضر ذلك بعلاقاتها مع واشنطن أو يفقدها مصداقيتها عربياً أو يضطرها للخروج على نقطة التوازن التي استطاعت أن تحافظ عليها طوال التسعينيات وإن كان الموقف سيتطلب منها تغيير طرفي هذا التوازن.