خرجت دول مجلس التعاون الخليجي عن تحفظها، في الاشتباك المكشوف والمفتوح مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. كان لا بد من رفع التحدي علناً بعد التغييرات التي شهدها العراق إثر سقوط نظام صدام حسين وتعاظم الدور الإيراني في بغداد، وقبله في لبنان وفلسطين، والتغلغل في سورية والسودان. كان لا بد من أن تذوب التباينات في السياسات الخارجية لبعض دول المجلس التي وجدت نفسها أخيراً أمام استحقاقات مصيرية وسط هذا التصدع الذي يضرب العالم العربي. لم يعد الموقف الدفاعي والديبلوماسية الهادئة يكفيان في انتظار ما ستؤول إليه العاصفة. في ظل التغييرات التي شهدتها مصر بعد تونس وما شهدته وتشهده البحرين واليمن والكويت وسلطنة عمان، كان لا مفر من أن تعيد دول الخليج النظر في سياساتها واستراتيجياتها. هذا ما تفعله، كل يوم، الولاياتالمتحدة وأوروبا وكل الدول ذات العلاقة المباشرة بالمنطقة حيال ما يجرى فيها من تبدل في الأنظمة والهياكل الوطنية والنظام الإقليمي الذي سيترك آثاراً عميقة، استقراراً أو فوضى، في النظام الدولي برمته. التفتت دول التعاون أولاً إلى شؤونها الداخلية. وسمحت لها عائدات النفط واعتبارات أخرى كثيرة باللجوء إلى جملة إجراءات، بعضها سياسي وجلها اقتصادي اجتماعي. وهو ما قد جنّبها، بعض آثار العاصفة، أو ربما يجنبها إلى حين. ووفّر لها الخروج إلى المحيط الأقرب فالأبعد. وانتقلت الدول الست ثانياً إلى سياسة حماية تكتلها الإقليمي الذي عرف كيف يصمد في قلب أربع حروب كبرى دمّرت المنطقة. من الحرب العراقية - الإيرانية فالغزو العراقي الكويت فحرب تحرير الكويت وأخيراً الحرب على العراق. وهي تحاول اليوم رسم خط استراتيجي فاصل في المنطقة بينها وبين إيران. فلم تتردد في التحرك العسكري في اتجاه البحرين باستخدام قوات «درع الجزيرة». وتبنت خطة طموحة لمساعدات مالية كبيرة للمنامة ومسقط لمعالجة متاعبهما الاقتصادية والتنموية. وبادرت سريعاً إلى جر قاطرة الجامعة العربية لتوفير غطاء عربي للقرار 1973 الخاص بليبيا. كأنها تعوض «غياب» القاهرة وانشغال دمشق والجزائر وصنعاء وغيرها. وأطلقت مبادرة لإيجاد تسوية في اليمن... كل ذلك انطلاقاً مما سمته «ترابط الأمن الجماعي لدول المجلس» وحمايته من «التآمر الإيراني» على هذا الأمن والذي يحاول «بث الفرقة والفتنة الطائفية». واضح أن هذه الدول ترسم بتحركها حدود مصالحها الوطنية وفضاء أمنها الوطني. تماماً كما تفعل أي دولة أو تكتل إبان الأزمات، أو أثناء الحرب الباردة. هذا ما فعلته الولاياتالمتحدة وأوروبا إثر الحرب العالمية الثانية ونشوء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وهذا ما تفعله الصين وروسيا في التنافس مع الولاياتالمتحدة. وهذا ما تفعله تركيا والبرازيل... لا يهدف مجلس التعاون إلى إعلان الحرب على الجمهورية الإسلامية. لقد عبر مراراً عن رفضه حل مشكلة الملف النووي الإيراني بالقوة. ولا يرغب بالتأكيد في أداء دور رأس حربة للغرب في أي مواجهة ستكون مدمرة لكل الدول المطلة على الخليج. ما يعنيها هو الخروج من موقع الحياد السلبي أو الصمت إزاء السياسات الإيرانية، كأن الأمر لا يعنيها، أو كأن فيه خوفاً أو ضعفاً. ما يعنيها في هذه المرحلة الضبابية هو: من جهة، الانخراط في إدارة الصراع السياسي والإعلامي مع إيران، وإبداء الاستعداد لحماية أمنها الجماعي ومصالحها عسكرياً إذا لزم الأمر. وتوجيه قوة من «درع الجزيرة» في المنامة مؤشر إلى هذا الاستعداد، بدل التجاهل أو الاستسلام لمزيد من «الاستنزاف» الذي يصيب دورها في غير موقع في المنطقة. وما يعنيها، من جهة ثانية، هو صد رياح المتدخلين من أميركا إلى أوروبا الذين يجدون أنفسهم معنيين بما يجرى في المنطقة، من أجل حماية مصالحهم النفطية والاقتصادية أولاً، ومن أجل دعم الدول التي يرون فيها جزءاً من أمنهم الاستراتيجي ثانياً، ومن أجل الحفاظ على الاستقرار الدولي ثالثاً، والذين يميلون إلى شتى أنواع «النصائح» أو الترتيبات والصفقات والتسويات من أجل هذه الأهداف. لا ترغب دول المجلس بالتأكيد أن ترى على حدودها الشرقيةإيران نووية. مثلما لا ترغب في تركها تتقدم إلى مواقع ترى فيها دول المجلس فضاءها الحيوي، السياسي والأمني والاقتصادي. وتراقب من زمن كيف أن طهران تطرح نفسها ليس دولة إقليمية كبرى فحسب أو الدولة الكبرى في المنطقة - وهو ما عبر عنه الرئيس محمود أحدي نجاد حين دعا قبل سنتين ونيف قادة مجلس التعاون في قمة الدوحة إلى إدارة وجههم نحو الشرق والتوجه إلى طهران - بل تطرح نفسها دولة كبرى نظير الولاياتالمتحدة وروسيا وغيرهما. مثل هذه النظرة إلى الذات فيها الكثير من المبالغة. فالطموح إلى هذا الموقع ببناء ترسانة عسكرية ضخمة من الصواريخ وغيرها يبقى حلماً ما لم يستند إلى قوة اقتصادية كبيرة، كما هي حال الصين والهند والبرازيل، فضلاً عن القوة العلمية والاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية. أدركت دول مجلس التعاون أخيراً أنها ليست بمنأى عن تبعات الحرب الباردة الدائرة في المنطقة بين الغرب والجمهورية الإسلامية. بل إن «المواجهات البديلة» في الساحات البديلة قوّضت مواقع وأدواراً لهذه الدول، من العراق إلى لبنان وفلسطين. فما جرى في هذه البلدان الثلاثة تعده دول الخليج «خسائر» إن لم نقل «هزائم» أمام طهران التي تعده «انتصارات» في سياق مواجهة المشروع الأميركي والإسرائيلي فقط. وكاد الأمر أن يصل إلى اليمن قبل سنوات، ثم إلى البحرين والكويت أخيراً، كما تعبر العواصم الخليجية. حتى إن أزمة الوضع الحكومي في لبنان مرتبطة في أحد وجوهها بانتظار جلاء وجهة الأحداث في سورية ومدى تأثيرها في علاقة دمشق بكل من إيران ودول مجلس التعاون، خصوصاً المملكة العربية السعودية. ألن تكون ل «الحراك السوري» تداعيات في بيروت كما في دمشق انطلاقاً من وحدة المسارين... والمصيرين، وبالتالي على ميزان القوى بين إيران ودول الخليج؟ كل هذه المواقف الخليجية لا يغيّب حقائق التاريخ والجغرافيا. وهي أن إيران دولة «خليجية»، بمعنى أنها شريك في هذا البحر وما يمثله لاقتصادات العالم. وهو جزء أساسي من منظومة مصالحها الحيوية الاستراتيجية، اقتصادياً وعسكرياً. ولا يمكن تالياً الاستغناء عنها في بناء نظام أمن «خليجي» ثابت وسليم. إنها قوة بشرية واقتصادية وعسكرية كبيرة لا يمكن تجاهلها. لكن دول التعاون ترى أن هذه الحقائق البديهية لا تمنحها حق المشاركة في هذا النظام من موقع الهيمنة، تارة تحت شعار «تصدير الثورة»، وطوراً تحت شعار حماية المسلمين الشيعة في هذا البلد أو ذاك، وطوراً ثالثاً بالتهديد بالقوة العسكرية الصاروخية... والنووية! يجب أن تدرك إيران أنها لا يمكن أن تهيمن أو تستقطب جاراتها في المقلب الثاني من الخليج، وجرها إلى مواقفها ومشاريعها ومواجهاتها. كما لا يمكنها ببساطة أن تملأ الفراغ الذي يخلفه انصراف معظم الدول العربية إلى مشاكله الداخلية أو ثوراته. ولا يمكنها ببساطة أن تعيد بناء الشرق الأوسط بما يناسب سياساتها وطموحاتها، كما صرح ويصرح الرئيس أحمدي نجاد وغيره من المسؤولين. هكذا ببساطة من دون أي حساب أو اعتبار لمجموع الدول العربية. ومن دون أي اعتبار لتشابك المصالح الإقليمية والدولية في الخليج وغيره. وإذا كانت وحدة الموقف الخليجي لا تكفي اليوم لرسم خط دفاعي، فإن على طهران أن تحسب حساب تركيا التي باتت جزءاً من توازن القوى في النظام الإقليمي. والتي لن تقف موقف المتفرج. وهي لم تتردد، قبل الثورات العربية، من الانخراط في شؤون العراق إلى اليمن فلبنان وغزة، فكيف تتوقف اليوم؟ هذا فضلاً عن «الحارس الأميركي» للمصالح الأميركية بقواته وقواعده ودرعه الصاروخية! وواشنطن تكرر كل يوم «أن أمن الخليج يشكل أولوية في وجه تهديدات إيران». وحتى مصر لم تشغلها «ساحة التحرير» عن ساحة الخليج. لأنها تعرف جيداً أن الأمن الجماعي لمجلس التعاون جزء أساسي من الأمن العربي العام المنتهك في أكثر من جبهة، والمضطرب في أكثر من ساحة. من الشمال الأفريقي كله إلى المشرق فالعراق. وأعلن وزير خارجيتها نبيل العربي أن «منطقة الخليج تمثل عمقاً استراتيجياً أساسياً للأمن القومي المصري... وهو من أهم ثوابت السياسة المصرية التي تعتبر أمن دول الخليج واستقرارها وعروبتها خطوطاً حمراً لا تقبل مصر بالمساس بها». على إيران أن تتذكر أن مجلس التعاون قام إثر الثورة الإسلامية وشعار «تصدير الثورة»، وإثر اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية. أي أن الدول الست وعت باكراً أهمية بناء تكتل سياسي وعسكري وأمني واقتصادي يسمح لها بحماية مصالحها وأمنها. وعبرت عن ذلك في أزمات ومنعطفات لعل أبرزها أثناء الغزو العراقي الكويت. وإذا كانت الدول الست رفضت هيمنة بغداد على المنطقة فهي بالتأكيد لن تسمح للجمهورية الإسلامية بأن تبعث دور إيران الشاه شرطياً للخليج. يجب أن تتخلى طهران عن نهج الهيمنة، والسعي بدل ذلك إلى الشراكة مع جيرانها في الحفاظ على أمن الإقليم. وهو ما يخفف من وطأة التدخل العسكري وغير العسكري للأميركين والأوروبيين في شؤونه. مصلحتها في نهج سياسة تطمئن جيرانها. ويبدأ ذلك من البحرين والكويت إلى فلسطين ولبنان فضلاً عن العراق. لم تهضم دول المجلس حتى اليوم حقيقة التغيير في بغداد فكيف لها أن تتفرج على ما يجرى في مواقع أخرى تتآكل فيها مواقعها؟ النظام الأمني العربي كله يتآكل، من فوضى الحراك هنا وهناك، ومن رياح التقسيم والحروب الأهلية، إلى التهديد الذي يشكله تنظيم «القاعدة» و «أخواته» وما قدم من مبررات لهجمة غربية جديدة على المنطقة تحت ألف شعار وشعار، ووفر تسهيلات ل «دول الجوار» لتملأ الفراغ، من منابع النيل وشواطئه، إلى شواطئ دجلة والفرات! فهل تستطيع دول الخليج الحفاظ على البقية الباقية من هذا النظام تمهيداً لإعادة بعثه؟