يمكن القول ان صفحة ياسر عرفات قد طويت وحتى حدة الصدمة بوفاته بدأت بالتلاشي في الشارع الفلسطيني خاصة ان الناس داخل فلسطين قد شغلوا بالانتخابات الفلسطينية التي اسفرت عن نتيجة كانت متوقعة هي فوز السيد محمود عباس رئيس منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية وقد كان الاحتفال بالفوز وتفاعلاته مناسبة فرح لتجاوز مناسبة الحزن بوفاة عرفات، كما ان الشعب الفلسطيني كان قد شغل أكثر بالانتخابات البلدية التي ترشح لها العشرات وانخرطت كل القوى والتنظيمات في خوضها بما في ذلك الحركات الإسلامية وفي مقدمتها حماس. يظل الأهم هو التأكيد على أن الموت حق وان كل إنسان في هذه الدنيا عرضة للموت، ولعل الحياة الاستثنائية التي عاشها ياسر عرفات هي التي ضخمت هاجس ان يكون موت الرجل استثنائياً كذلك، وقد ساد الاعتقاد في الأوساط الاقتصادية وبعض الأوساط العربية بأن عرفات قد مات مسموماً دون ان يملك أحد اثبات ذلك كحقيقة ولذلك فإن هذه التهمة بدأت بالتلاشي مع طي صفحة عرفات وطي صفحة صراع مرير في تاريخ فلسطين كان عنوانها ورمزها الرئيس والرجل الأول ياسر عرفات، وقد اتسمت هذه المرحلة بأنها كانت مفعمة بالأماني وكانت تضج بالشعارات وكانت تنبض بالحماس وعلى مدى أربعة عقود كان الكفاح المسلح خارج فلسطين محدود الأثر وكانت الاتصالات السياسية السرية والعلنية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وكافة أشكال العمل الفلسطيني تأخذ طابع الدعاية والاستعراض والاثارة عبر الشعارات البراقة التي كانت بلا مضمون وبدون محتوى، ولا نشك ابداً بأن ياسر عرفات كان مخلصاً للقضية الفلسطينية وراغباً في انجاز حل يحقق نتيجة ملموسة هي في النهاية إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس لكنه كان معنياً أولاً بأن يكون هو رئيس هذه الدولة الفلسطينية وأن يكون هو الذي يوجه الدعوة لاخوانه العرب ليصلوا إلى جانبه في المسجد الأقصى كما كان يردد دوماً هذه الدعوة لكل من يقابله أو يتصل به حيث ينهي دوماً كلامه مع أي إنسان عربي يحاوره بدعوة على شكل دعاء وهي "إن شاء الله نصلي سوا في القدس"، وقد حرص عرفات على ابراز الهوية الوطنية الفلسطينية لتكريس حالة تحقق له الزعامة الفردية المطلقة فكان هو الرمز والعنوان والقائد الأوحد كما حدث في كل البلدان الثورية العربية منذ ان برزت ظاهرة الانقلابات العسكرية في الوطن العربي والتي اطلق عليها اسم ثورات وإلى حد ما فقد قاد عرفات هو الآخر انقلاباً عسكرياً أبيض في العام 1969وأزاح قيادة منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك والتي كان يقف على رأسها يحيى حمودة الذي رأس منظمة التحرير الفلسطينية لبضعة أشهر بعد تنحي رئيسها منذ تأسيسها في العام 1964المرحوم احمد الشقيري. وفي حالة ياسر عرفات كما في حالة كل الزعماء الثوريين العرب كانت القضايا والأنظمة السياسية والأوطان تختزل في شخص القائد والرمز والزعيم الأوحد، وابتداء من المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر وانتهاء بالمرحوم الرئيس ياسر عرفات كان القادة الثوريون العرب يمثلون أملاً وكانت ترنو لهم أبصار الشعوب العربية في تحقيق الأمنيات المرجوة وفي الوصول إلى الأهداف المنشودة وذلك من خلال خطاب حماسي مشحون بالعواطف ومن خلال الأناشيد وعبر الحناجر والمنابر والميكروفونات والمبالغة اللفظية في تبسيط كل الأمور والتبشير المستمر بأن الصبح قريب وان النصر قادم والفجر آت، وان الزعيم الثوري قادر على تحقيق المعجزات والانتصارات عبر البطولة الخارقة. في العام 1964كتب الفيلسوف والمفكر العربي عبدالله القصيمي مقالاً في مجلة "الآداب" التي تصدر في لبنان وكانت مجلة "الآداب" في حقبة الخمسينات والستينات من أهم المنابر الأدبية إذ لم تكن أهمها في الوطن العربي وكانت تفتح صفحاتها لكتّاب من كافة أرجاء العالم العربي، وبرغم ان مجلة "الآداب" التي كان يملكها ويرأس تحريرها المرحوم سهيل ادريس كانت مجلة ناصرية وكانت تمر عبر دهاليز مكتب عبدالحميد غالب في السفارة المصرية في بيروت إلا ان سهيل ادريس قد نشر يومها هذا المقال الذي كان عنوانه "عندما تصب أمة في فرد" ولقد تنبأ القصيمي يومها بأن الأمة تغذ الخطى نحو الهاوية لأن كل امكاناتها وطاقاتها ومقدراتها مستنفرة لتعظيم شخص وتمجيده، وربما يكون فيما كتبه توفيق الحكيم بعد نكسة الخامس من حزيران عن غياب الوعي العربي نموذجاً لتفكير النخبة في أحوال ذلك الزمان. وما يعنينا التوقف عنده اليوم هو ان ظاهرة تأليه الحاكم واختزال الوطن في النظام السياسي واختزال النظام السياسي في شخص هي ظاهرة سلبية تسببت في هزائم وآلام ونكسات وتراجع واستلاب للعقل عندما تعيش الشعوب في حالة وهمية وأمجاد وانتصارات كلامية، ولاشك ان هذه الظاهرة قد خفت كما ان غياب آخر الرموز الثورية وهو المرحوم ياسر عرفات قد يمثل أو يشكل بداية ولادة زمن عربي جديد، خاصة ان الصدمات التي عانت منها الشعوب العربية والنتائج السلبية التي احدثتها حالة الفوران العاطفي عبر الشعارات الضخمة والترويج لأوهام الانتصارات والتقدم والأماني والأحلام وكل التخيلات التي لا تستند إلى أي مقومات واقعية. كل ذلك جعل الناس يعيشون حالات تفاؤل زائفة وكان الخطاب السياسي والإعلامي الحماسي الذي يسطح الأمور ويبسط الأشياء ويبشر بمستقبل مشرق يتم صوغه عبر ديباجات لفظية ملتهبة شعراً ونثراً خطابة وكتابة ويجسد كل ذلك الزعيم الخارق القادر على صنع الانتصارات واجتراح المعجزات وقد لا تكون ظاهرة عبادة الفرد وتضخيم الهالات المحيطة بالحاكم قديمة وبشكل أو بآخر فإن التاريخ العربي هو تاريخ الافراد وليس تاريخ الشعوب والمجتمعات. والذي يقرأ تاريخنا يجد ان فصوله وتحولاته مرتبطة بأسماء الخلفاء والحكام في كل العصور، لكن الزمن العربي الجديد الذي بدأ بعد سقوط الدولة العثمانية كان زمناً مختلفاً حيث ساهم تطور أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال وانفجار الثورة اليسارية العالمية وبروز ظاهرة الانقلابات العسكرية كل ذلك ساهم في خلق الحالة التي اشرنا إليها والتي تقوم على تعليق الآمال على البطل القادر على صنع كل شيء بما في ذلك معجزات النصر والتقدم والرفاه. وحتى اليوم ما زالت مجموعات كبيرة مفتونة بالزعماء الذين رفعوا شعارات مفرحة ووعدوا بتحقيق الأماني الكبيرة، وقد يكون صحيحاً ما يقوله البعض بأن نوايا هؤلاء الحكام كانت مخلصة دون ان يغيب عن البال ان السلطة كانت كل حياتهم وكل آمالهم، وبالتأكيد فإن حسن النوايا لا يخفف من سلبية النتائج ومن ألم الانكسارات ومن سوء الأوضاع التي ترتبت على السياسات التي اعتمدت الشعارات والأمنيات سبيلاً وأسلوباً للحكم. ومن هنا يمكن القول اننا نعيش في عالمين أحدهما خاص بنا وهو عالم مفعم بالمشاعر الجياشة والآمال المفترضة ومغرق في الخيال ومحلق في الفضاء الخارجي بما يتجاوز حدود الجاذبية الأرضية ومحددات الواقع ولذلك لم يكن غريباً ان يكتب عشرات مثلي مقالات عن المعجزات والانجازات التي حققها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ورغم كل النتائج المأساوية فإن الكثيرين كتبوا ولا يزالون يكتبون عن حالة الزهو والاعتزاز والفخر التي عشناها مع عبدالناصر وأبومدين وحتى مع صدام حسين وما زالت قطاعات واسعة من الرأي العام العربي ترى في الخطب الحماسية والشعارات البراقة التي رددها قادة الانقلابات بأنها ذروة المجد وعنوان الانتصار. لقد قال الشاعر العربي قديماً: منى أن بلغناها فتلك هي المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً وربما يكون هذا هو الحال العربي القديم وربما تكون الخصائص العربية والاعتماد على البطولة الفردية عبر نموذج الزعيم الذي يرفض الاعتراف بالهزيمة بل ان أية هزيمة كبرى مثل كارثة 1967تسمى نكسة، أو تتحول الهزيمة إلى انتصار وإلى "أم المعارك" كما حدث بعد هزيمة العراق الساحقة في العام 1991.ولا نبالغ إذا قلنا اننا حتى اليوم لم تلامس أرجلنا أرض الواقع وان عقولنا تسبح في الفضاءات البعيدة، ولذلك سيكون صعباً بل مؤلماً كثيراً للحكام ان يتبعوا سياسات واقعية لأن القادة يريدون التميز بالبطولة عبر الكلام! أما الشعوب العربية فهي تمارس العجز عبر التطلع للقائد المنقذ وإذا لم يوجد فلا بد أن تنتظره، ولاشك ان الواقعية تحد من الأوهام والخيالات والأحلام وحتى الأماني الممكنة والواقعية ليست مريحة أو هي كما يقول أمرسون: "إعلانك عن ممارسة الواقعية يحمل في طياته تأكيداً على انك تريد فعل شيء ترفضه في أعماقك ووجدانك". ولذلك نقول ان العيش في العالم المتخيل هو مريح ولكنه عالم غير حقيقي فالعالم الحقيقي مرير وصعب ومقياس النجاح فيه لا يناسبنا لأنه يتم عبر حصيلة النتائج الملموسة والانتصارات على الأرض والانجاز والتطور وكل ذلك يحدده ما يتحقق فعلاً لا ما نأمل أو نفترض أو نتخيل. واختم مقالي بما كتبه أحد المفكرين حول هذه الظاهرة: "... لذا يجب ان تقوم تفاصيل الحياة كلها على الخداع والحيل والأكاذيب فينتهي الأمر إلى اعتناق قاموس جورج اوربل في روايته (1984).. الهزيمة تعني النصر، الظلم يعني العدل، الكراهية تعني الحب، الفقر يعني الرفاهية، الباطل يعني الحق.. هكذا تكف اللغة نفسها بكل مفرداتها عن ان تكون أداة للتواصل بين الناس والكشف عن الحقيقة بل إلى وسيلة للخداع، وبفساد الكلمات يفسد كل شيء على الأرض".