من المسلم به عند العامة فضلاً عن الخاصة فيما يخص أمرالحج والحجيج أن أخطرلحظات قضاء نسك الحج تلك اللحظات التي يتدافع خلالها ما ينيف على مليوني حاج لرمي الجمرات. سواءً أكانت جمرة العقبة يوم النحرأوالجمرات الثلاث فيما يتلوه من أيام التشريق. لايتمثل جل الخطورة المستدعاة في تلك اللحظات في العددالهائل من الحجاج الذين يتوافدون على منطقة الجمرات( وإن كان لذلك العدد الضخم ثقله بطبيعة الحال في معادلة الخطورة) . بل إن مشهدها ومظنة الهلاك فيها تكمن في توافد الحجاج لرمي الجمرات في أوقات مخصوصة ومحددة من طلوع الشمس حتى غروبها لرمي جمرة العقبة يوم العيد ومن زوال الشمس حتى غروبها لرمي الجمرات الثلاث أيام التشريق وذلك حسب الرؤية الفقهية الأكثراتباعاً وإفتاءً. لنا أن نتخيل كم هو أمرالرمي وفق هذه الرؤية الفقهية شاق وقضاؤه أفضى لأن يكون مظنة قضاء النحب لكثيرمن الحجاج الذين أصبح أمرتفويجهم يناهزبالطبع طاقة أية جهود تبذل لتنظيم دخولهم إلى منطقة الجمرات والخروج منها في سويعات معدودة. مهما كانت ضخامة تلك الجهود وجاهزيتها. إذ الأمريتعلق بتنظيم مسيرة بشرية يناهزعددها مليوني حاج. وهي أعداد تزيد على سكان اكثر من دولة خليجية مجتمعة في منطقة محصورة مقطوع بحدودها وخلال وقت لايتجاوزست ساعات فقط تبدأ من زوال الشمس المحدد في ما بعد الساعة الثانية عشرة ظهراً وحتى الساعة السادسة مساءً بتوقيت مكةالمكرمة وهووقت غروب الشمس المنهي فقهياً لوقت الرمي. مع مراعاة أن هناك فتاوى ترخص بالرمي فيما يخص أيام التشريق إلى ما قبل طلوع فجراليوم التالي . ولكن المعمول به غالباً والأكثرإقناعاً لبقية الحجاج حسب علمي هوالوقت المحدد بما ذكرته آنفاً. هذه الأمواج البشرية التي تَفءضُلُ على سكان عدة دول بأكملها ستدخل منطقة الجمرات وتخرج منها خلال ست ساعات فقط باعتبارغروب الشمس. أي بمتوسط يفوق ما مقداره ثلاثمائة وأربعون ألف حاج في الساعة الواحدة. ناهيك عن الأعداد الإضافية المتمثلة برجال الأمن والكشافة والمسعفين وكافة ممثلي القطاعات الحكومية المجندين لخدمة الحجيج. وهذه بلاأدنى شك أعداد هائلة ولن يكون باستطاعة أية جهود مهما توافرت على قدرات تنظيمية وإمكانيات بشرية إيقاف فجائية الأحداث وطوارق اللحظات العصيبة التي تحدث كنتيجة طبيعية لذلك التدافع المذهل من تلك القطاعات البشرية . لأن العبرة حينها لن تكون بالخدمة المقدمة مهما تميزت كماً ونوعاً. بل في خرافية أعداد المستفيدين من الخدمة أنفسهم. الذين سيكونون متواجدين في منطقة جغرافية محدودة مساحيا وخلال ساعات محددة ومعدودة وهوبيت القصيد في معادلة الخطورة. من ضمن تلك الحالات الفجائية المفارقة لأية جهود بشرية تنظيمية. ما حصل في حج العام الماضي عندما قضى مائتان وواحد وخمسون حاجاً نحبهم صباح يوم العيد نتيجة للتدافع الشديد من قبل الجموع أثناء رمي جمرة العقبة المحدد وقت رميها اعتباراً من طلوع شمس ذلك اليوم وحتى غروبها ومن الطبيعي جداً بل ووفقاً لأدنى حد من الموضوعية أن لاتتراكم الأسئلة عن مسئولية الجهود التفويجية تجاه ما حدث مهما توافرت على كومة من السلبيات المصاحبة لأي عمل بشري. فالطوفان البشري المندفع لحظتها كالسيل العرم كان وسيظل مراغماً لأية قدرات أومهارات تفويجية مهما أعطيت من الضخامة والإمكانيات. باطراد هذا الوضع المتلازم مع ازدياد أعداد قاصدي بيت الله الحرام لأداء نسك الحج تظل الأسئلة عن حلول لمشكلة تفويجهم لرمي الجمرات بالذات حاضرة ومشاعة للجميع بطبيعة الحال. أما الحلول التنظيمة بكافة أنواعها فموجودة وتتراكم سنوياً. والدولة كراعية لأمرالحجيج عملت ما يفوق ما في وسعها بلا شك لتسهيل أداء ذلك النسك. ولكن أبرزالحلول وأنجعها في نظري تظل مربوطة بأهل الفتيا. فالأمرمن قبل ومن بعد بيدهم وحدهم. تجاههم تتراءى الأنظارونحو مضاربهم تتنادى الآمال . ومن الطبيعى أن يكونوا مظنة التساؤل من حين لآخرعما يمكن أن يقوموا به من جهود هي في متناول قدراتهم العلمية بلاشك للتيسيرعلى الحجاج . لاسيما والأمرقَدءرَ ما فيه من سعة ورحابة أفق .ففيه بلاشك ما يدعو للتعجيل بما ييسرأداء النسك. دفعاً لأسباب هلاك بات محققاً للمئات من البشرإذا استمرأمرالرمي معلقاً بوقته وتراتبيته المحددة حالياً. لاسيما وأن أصحاب الفضيلة ممن يناط بهم أمرالفتيا يعلمون علم اليقين أن التراث الفقهي الإسلامي الرحب يتوافرحين البحث عن التسهيل في مظانه على زادٍ موفوربالرخص ومتوافربطبيعة الحال على تعضيدٍ استدلالي مثمرومتنوع . لاسيما وأن الدين يسر ولن يشاقه أحدٌ إلا غلبه بيسره وسماحته ومراعاته لحرمة النفس البشرية وسلامتها. كما أن رفع الحرج أصل مقاصدي وسائلي في الشريعة الإسلامية . وأدلته من القرآن الكريم والسنة المطهرة أكثرمن أن تحصر. منها قوله تعالى (يريد الله بكم اليسرولايريد بكم العسر) الآية 158من سورة البقرة، وقوله تعالى في الآية الثامنة من سورة الأعلى( ونيسرك لليسرى) وقوله تعالى في الآية الثامنة والعشرين من سورة النساء( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) . وكذلك ما جاء في أن التكليف التشريعي ياتي على قدروسع البشرالمكلفين ممثلاً بقوله تعالى( لايكلف الله نفساً إلاوسعها) الآية 286من البقرة، كما أنه تعالى ختم سورة الحج ذاتها بقوله( ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين) وملة إبراهيم هي الحنيفية السمحة. كما تواترت الأخبارعمن بُعِثَ رحمة للعالمين بدعوته إلى التيسيرونبذالتعسير والتشقيق على الناس . منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه ( إن الدين يسر ولن يشاق الدين أحد إلاغلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا) ومنها حديث محجن بن الأدرع الذي أخرجه الطبراني في الكبيرعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله رضي لهذه الأمة اليسروكره لها العسر) . ومنها كذلك ما أورده السيوطي في الأشباه والنظائرمن حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الله شرع الدين فجعله سهلاً سمحاً واسعاً ولم يجعله ضيقا) . وأحد القواعد الفقهية الخمس الكبرى قاعدة تقول ان ( المشقة تجلب التيسير) وأية مشقةٍ وعنتٍ وعسرٍ أكبرمن أن تكون مسببات الهلاك والموت اختناقاً ودهساً تحت الأقدام حاضرة في ساعات العسرة من أيام الرمي في مشهدها الحالي. ومن الطبيعي والمعلوم من مكنونات الفقه الإسلامي أن هذا اليسروالسماحة التي هي رأس سنام مقاصد التشريع لن تكون على حساب أمرمقطوع به أومعلوم من دين الإسلام بالضرورة .بل هناك فسحة فقهية واسعة تنابذ العسر وتجلب اليسروتحقق مراد الشارع من تشريعه للعبادات ( يتبع)