في حالات كثيرة نشعر أننا لم نتعافَ من الاقليمية وأشدها عندما يكون مصدرها من المثقفين ومن النخب الواعية.. فبعد أن أعلنت ميزانية الدولة لهذا العام أثير جدل حول توزيع وزارة التعليم العالي لميزانيات الجامعات.. بدلاً من أن يكون الحوار حول ميزانيات الجامعات تحول إلى صراع مناطقي أثاره مجموعة من النخب المثقفة تحت مظلة توزيع الميزانيات التي يرون أنها غير عادلة ومتكافئة بين الجامعات والقصد هنا ليست عادلة بين المناطق أكثر من كونها بين الجامعات.. لن أنصب نفسي محامياً عن وزارة التعليم العالي لكن رأيت من الضروري أن تكشف الأوراق خاصة بعدما تم جر جامعة الملك سعود ومقارنتها ببعض الجامعات في بعض المناطق.. وهذا يعود بي إلى ذاكرة تتجاوز أكثر من عشرين عاماً عندما كنت طالباً على مقاعد جامعة الملك سعود وكنا طلاباً خليطاً من جميع مناطق المملكة نشكل توليفة مناطقية وقبلية وريفية وساحلية وجبلية أشبه باللوحة الفسيفسائية الجميلة لا يفصلنا عن بعض سوى حافات المقاعد والطاولات وبحكم اقامتي الدائمة في مدينة الرياض فقد كنت ألتقي بالزملاء والأصدقاء في السكن الجامعي الذي تحول إلى نسيج متداخل لمناطق المملكة بكل ثقافاتها المحلية وسماتها وذائقتها الاجتماعية وبعد أن غادرنا مقاعد الجامعة وذهب كل إلى مسقط رأسه رأيتهم يتقلدون المناصب الإدارية والطبية والهندسية والفنية في جميع التخصصات في مناطقهم ويحتفظون بأجمل الذكريات الجميلة للرياض العاصمة وللملك سعود الجامعة.. لم تكن جامعة الملك سعود لأهل الرياض فقط ولم تكن حصراً على أهل الدرعية أو منفوحة أو العليا أو السليمانية أو الروضة أو حتى لأهل حريملاء والعمارية أو رماح بل كانت مفتوحة لجميع أبناء الوطن.. وحتى الآن احتفظ بعلاقات وصداقات مع أساتذة وزملاء من اعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك سعود هم من جميع أبناء المناطق والقبائل والقرى والهجر والارياف لم تكن بطاقة دخولك طالباً أو موظفاً أو عضو هيئة تدريس في جامعة الملك سعود إلزامية أن تكون من أهل الرياض أو حتى من مواليد الرياض، فالجامعة مفتوحة لجميع الفئات يحكمها المعيار الاكاديمي والمهني والوظيفي. والذي ينطبق على جامعة الملك سعود ينطبق على جميع جامعاتنا، كما ان جامعة الملك عبدالعزيز العريقة التي لم تكن جامعة خالصة لأهل جدة والجداويين أو سكان البحر الأحمر بل لأهل البر والبحر واليابسة البعيدة، وكذلك جامعة الملك فهد للبترول والمعادن لم تكن خالصة لأهل الظهران والدمام أو أهل القطيف بل كانت مفتوحة لجميع المتقدمين ومعيارها الوحيد هو التأهيل الأكاديمي وشروط القبول التي هي بالتأكيد لا تنص على مولد وقبيلة وفئة ودم المتقدم. إذن لماذا تثار النعرات المناطقية والاقليمية تحت مظلة ميزانية الجامعات وتحت عباءة التقسيم غير العادل في الميزانيات ونحن نعرف مثلاً أن الجامعة في جازان ليست وقفاً على أهل أبوعريش أو أهل القوز أو المسارحة.. علينا أن نقبل أن تكون مناطقنا مفتوحة للجميع وليست مربوطة بنوع الدم وهوية الوجه ومحلية اللسان وأن أي نماء لمنطقة هو نماء للوطن وأن المملكة العربية السعودية هي وطننا وليس بالضرورة أن يكون وطننا هو قريتنا أو هجرتنا أو مدينتنا.. دعونا نتجاوز الحدود الجغرافية لنمتزج في وطن فضاؤه واسع ورحب، وطن يكون افقه القريب شواطئ جازان ورمال الربع الخالي وجبال نجران وسحاب عسير الماطر ودفء الباحة الغامر وروحانية مكة بجبالها العظيمة وهضاب وفياض الرياض العطرة وخلجان الشرقية العذبة وقرى القصيم الرطبة ونفحات إيمانية من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرات المدينة السمراء وريعان وأودية حائل الهادرة وجيمورفولوجية تبوك ذات التكوينات الآخاذة ورمال الجوف المذهبة ومراعي حدودنا الشمالية المخضرة. دعونا نكسر الحاجز النفسي لنلتقي في مساحات الود والتداخل الوطني بعيداً عن نظرتنا المناطقية التي تجرنا إلى نعرات اعتقدنا أننا تجاوزناها في أول يوم من أيام توحيد بلادنا عندما قرر الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - أن يجمعنا تحت علم واحد وهوية واحدة فأذاب الملك العظيم الطبوغرافيا ليترك لنا مسؤولية إذابة التمايز الاجتماعي فيما بيننا وهي مسؤوليتنا بأن نذيب جبل التباعد الاجتماعي ونتخلص من بقايا نزعاتنا الفئوية.. وهنا اتوجه بالسؤال إلى المثقفين ممن لم يستطيعوا أن يتخلصوا من دوائر المناطقية: هل عندما كنا طلاباً على مقاعد الدراسة في المرحلة الجامعية كنا أكثر وعياً ورحمة من الآن ونحن نتقلد مقابض الإنتاجية والرقابية والقيادية؟ فأبناؤنا بحاجة إلى أن يتأكدوا أننا غسلنا ما بداخلنا من رواسب النعرات والانحياز الفئوي للمنطقة واللون والجنس والدم حتى يستطيعوا أن يطمئنوا على مستقبلهم المستقر وان آباءهم أكثر صحة وعافية من رواسب الماضي.. هذه بلادنا فلنذب المناطقية داخل فضاء وطننا العامر.