منذ أن بدأت مشاكل الشعب الفلسطيني مع الحركة الصهيونية، في نهاية القرن التاسع عشر، عندما قرر المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في مدينة بازل (سويسرا) عام 1897، اغتصاب فلسطين وطرد أهلها، منذ ذلك الوقت والشعب الفلسطيني يواجه التلاعب والتحايل من جانب الصهاينة في حينه، ومن جانب إسرائيل الآن، بهدف الاستمرار في تحقيق الحلم الصهيوني، والذي بدأ باغتصاب جزء من فلسطين، وهما يحاولان الآن بهذا الأسلوب السيطرة على كل أراضي فلسطين التاريخية. وكل من قرأ الأدبيات الصهيونية عن الطريقة والأسلوب والحيل التي استعملها الصهاينة، للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، وكيف ساعدهم الاستعمار البريطاني لتحقيق أحلامهم قبل عام 1948م على طرد الفلاحين الفلسطينيين من الأراضي التي حصل «الصندوق القومي اليهودي» عليها بالخداع، يستطيع أن يفهم الألاعيب المتكررة لهذه الحركة الخبيثة. ولم يتوقف هذا الأسلوب حتى بعد عام 1948م، بالنسبة للفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم. فقد استعملت الحكومة الإسرائيلية كل الأساليب للسيطرة على الأراضي التي كان يمتلكها الفلسطينيون الذين بقوا تحت حكمها، بحيث أصبحت مشكلة الأراضي الهاجس الأساسي لفلسطينيي 1948، وبالتالي ظهرت «حركة الأرض» التي أخرجتها إسرائيل خارج القانون، وبعد ذلك جاء «يوم الأرض» الشهير الذي سالت فيه دماء شباب فلسطينيين، ومن ثم جاء «تهويد الجليل» أي سرقة الأراضي العربية وإقامة مستعمرات يهودية عليها. وغيرها من المناسبات التي تشير إلى أساليب الصهاينة، والمقاومة التي تبناها عرب 1948م. ورغم أن غيري وأنا عالجنا هذا الموضوع في أكثر من كتاب وبحث ومقال، إلا أنني أعتقد أن التركيز على استمرار الصهاينة باسلوب الخداع، خصوصاً بالنسبة للأراضي، أمر مهم جداً، على ضوء ما يحدث في الأراضي التي احتلت عام 1967م. فالملفت للنظر في هذه الأيام، خصوصاً بعد أن قرر الشعب الفلسطيني الاستمرار في كفاحه من أجل الأرض ومن أجل الحصول على جزء من حقوقه على أرض أجداده، وبعد أن وجد الصهاينة أنهم يواجهون تصميماً شعبياً فلسطينياً عنيداً وشرساً، لغرض وجودهم، قرر الصهاينة استعمال تحايل جديد، يتعلّق بالأراضي التي احتلت في عام 1967م. فبدأنا نسمع نغمة أن الأراضي المحتلة هي ليست أراضي محتلة، بل إنها أراض «مختلف عليها» (Dispute Land) وهذا الكلام يعني أن الجزء المحتل منذ عام 1967م، ليس أراضي محتلة، بل أراض مختلف عليها، ويمكن حل هذا الخلاف حلاً وسطاً. وتسمية هذه الأراضي ب«أراض مختلف عليها»، يعني إصرار إسرائيل على عدم الاعتراف بالشرعية الفلسطينية العربية على أراضي فلسطين، ولا حتى على جزء من هذه الأراضي. وهذه هي فلسفة صهيونية، دعت دائماً إلى عدم الاعتراف بأية سيادة على أرض فلسطين، أو على جزء منها، لأي شعب غير الشعب اليهودي. والخلاف لا يعني، من وجهة نظر إسرائيل، خلافاً على الحدود، فهي لا تعترف بأية حدود لها، طالما أن الحلم الصهيوني لم يكتمل بعد. ويمكن ملاحظة ذلك على الخرائط المعلّقة في المدارس اليهودية الإسرائيلية، وفي كثير من الكتب، بحيث يظهر خط فاصل بين مياه البحر الأبيض المتوسط على أساس حدودها الغربية، ومن ثم نهر الأردن مع بحيرة طبريا والبحر الميت بخط مستقيم ويكتب عليها «أرض إسرائيل» بدون وجود حدود شرقية. فالخلاف قد يتطرق إلى موضوع اللاجئين الفلسطينيين، والمستعمرات اليهودية على الأراضي المحتلة، وماهية الدولة الفلسطينية، والتي تريدها إسرائيل أن تكون أداة بيدها، هذا إذا قامت مثل هذه الدولة. ولكن مشكلة الأراضي لن تتنازل عن سيادة أي شبر منها. ما حدث في غزة لم يطلق عليه اسم «انسحاب» لأن ذلك يعني انسحاباً من أراض غير تابعة لإسرائيل. أما استعمال كلمة «انفصال» فهذا يعني الكثير، وفي مقدمة ذلك الحق بالسيادة والعودة متى شاءت، وقرار أحادي الجانب. والغريب، أن الكثير من المفكرين والقادة السياسيين الفلسطينيين والعرب، يقرأون بكثير من التفاؤل هذه الخطوة، معتبرين أنها تمثل تغييراً في الفكر الصهيوني وهذا خطأ (على غرار ما اعتقده البعض عندما خرج المستعمرون اليهود من مستعمرة ياميت في سيناء على إثر توقيع اتفاقية سلام مع مصر وبرهنت الأيام أن ذلك ليس صحيحاً). فالانفصال جاء ليخدم الفكر الصهيوني لا أن يُغيره، كذلك «الجدار العنصري»، جاء ليدعم الفكر الصهيوني لا أن يُغيره، ومن يعتقد أن إسرائيل ترسم حدودها الشرقية بهذا الجدار يكون مخطئاً وهذا الموضوع يحتاج إلى مقال آخر. من هذا المنطلق أيضاً يجب أن نفهم لماذا تريد إسرائيل إطلاق اسم «أراض مختلف عليها». فإذا كانت هذه الأراضي هي «أراضي مختلفاً عليها»، فلتكن كل أراضي فلسطين التاريخية مختلف عليها أيضاً. صحيح أن منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت في مؤتمرها بالجزائر، عام 1988، بأن أرض فلسطين التاريخية تابعة للشعبين، وصحيح أن مؤتمر القمة العربية تبنى في بيروت المبادرة التي قدمها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله (في حينه ولي العهد السعودي) الداعية إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية، مقابل اعتراف كل الدول العربية بها. إلا أن إسرائيل رفضت المقترحين، لأنها لا تريد أن تعترف بأية سيادة لغير اليهود على ما تسميه ب«أرض إسرائيل». ولكن هذا التلاعب الإسرائيلي يؤكد أن إسرائيل غير معنية بالوصول إلى سلام عادل، وهذا يعني أيضاً أنها تنشد استمرار الوضع الحالي والذي لن تنتصر فيه.