من نافلة القول أنه ليس من طبيعة البهيم الحيواني أن يكون ثريا، أو أن يبحث عن الثراء.. إنما من طبيعته أن يملأ بطنه، ويسد رمقه، ويسكت جوعه فينام، فإذا لدغه ألم الجوع سعى باحثا عن الإشباع.. الإنسان هو الكائن الوحيد من بين سائر المخلوقات، الذي يبحث عن الغنى والثروة، والمال، هو الكائن الوحيد الذي يسعى لهذا الأمر حتى آخر نفس، هذه هي طبيعة التنظيم النّاموسي للكائنات.. ولكن تخيلوا أن حيوانا أو حيوانات، وبهائم توفر لبعضها ثروات هائلة تفوق ثروات البلايين من الناس، وبالذات الكلاب..! هناك مئات الآلاف من الكلاب تمتلك من الثروة ما يسد جوع قبائل، ومجتمعات إن لم نقل دولا لفترات طويلة من الزمن.. لقد نشرت الصحف منذ فترة خبر المرأة التي أوصت بثروتها الثلاثة ملايين دولار لكلبتها، حارقة قلب ابنها وابنتها، حارمة إياهما من الميراث..! فأي جنون هذا..؟ أي جنوح عن الإنسانية بل أي حقارة ودناءة نفس ونزوة شيطانية ذهبت بها..؟ هب أنها غير راضية عن ابنها، وابنتها.. أليس في الكون فقراء، ومعوزون ومرضى..؟ لماذا تقترف هذه المرأة المخبولة مثل هذا الفعل الشنيع..؟ المسألة ببساطة تعود إلى نفسية وروح المجتمع، وثقافته، ورؤيته للحياة وللإنسان، وإذا حدث هذا في مجتمع يفتعل الحديث عن الإنسانية فهو بهذا السلوك يعلن الخروج عن مفهومها وناموسها.. دعوا عنكم السماجات التي تسمعونها، والدعاية الزائفة، إذ لا يمكن لمجتمع ترتفع فيه الوتيرة الإنسانية وهو يمارس مثل هذا الجنوح، والشذوذ المَرَضي.. إذ من المفترض بداهة أن القانون يمنعها من هذا التصرف الهابط، ويحجر على مالها، ويترك لكلبتها ما يسد جوعها إلى أن تلحق بها..! ربما يقول قائل: إنك تختزل وتسيء إلى الإنسانية هناك بمثل هذه الحالة أو الحالات، بينما تغفل وتغمض عينيك عن إيجابيات كثيرة لا ينكرها إلا غير منصف.. وأقول مهلاً إن الإنسانية التي تصادر حق الإنسان، وتهبه للحيوان هي إنسانية مغشوشة وكاذبة، وتمارس الدجل والشعوذة،. فالإنسانية بمفهومها الاخلاقي اسمى وأرقى من هذا الانحراف، والهبوط.. ومن ثم فإن هناك فرقاً شاسعاً بين ما تفرضه النفعية، والضرورة الاقتصادية، والتي تسن وتنظم قوانين يحسبها كثير من الناس من الإنسانية بينما هي في الواقع ضرورة من ضرورات وحاجيات المجتمع كي يستمر في فعل الحياة، والأداء، والعمل، بمعنى أن الرحمة والعطف الإنساني الخالص شيء، والضوابط الاجتماعية التي تحتمها حركة وسيرورة الحياة شيء آخر... فالإنسان في الغرب مثلا يشعر ويتمتع بحرية لا يتمتع بها الإنسان في الشرق، هذا صحيح وواقع لا نقاش فيه، لكن هذه الحرية تفرضها وتقيدها شؤون الحياة ومنافعها، وليس العكس.. إذ إن الكبت يقهقر العمل الإبداعي، ويجعل كل شيء متعثرا، ولولا النظام العملي لتعقدت الأمور، وتداخلت، واضطربت كاضطراب شارع تعطلت فيه إشارات المرور.. ومن ثم فإن ما نراه ونظنه نهجا إنسانيا هو في الواقع ضرورة تقتضيها المصالح الاقتصادية لأن الاقتصاد لا يمكن أن ينمو نموا طبيعيا إلا في ظل أمن اجتماعي يشعر فيه العامل والمستثمر بالحماية، وتوفير الحقوق.. بعكس المجتمع الذي يعاني من الذعر والقلق، والارتياب.. إذاً فالمسألة ليست مسألة إنسانية بحتة، بقدر ما هي ضرورة من مقتضيات توفير المناخ الاقتصادي الاسترباحي.. بينما المفهوم الإنساني في جوهره، هو نابع من طبيعة إنسانية في مناخ رحموي، ومجتمع متلاحم يستشعر الروابط والوشائج الإنسانية الصافية، المتجردة من كل أنواع النقيصة، والنفعية.. ومن ثم فإن المجتمع الذي تنمو فيه الروح الإنسانية الخالصة، لا يمكن أن ينزل برحمته وإنسانيته إلى هذا المستوى من الانحطاط الأخلاقي البشري، فيوقف أو يوصي بالملايين من الدولارات لكلب أو لكلبة، بينما الملايين من الأطفال يموتون جوعاً ومرضا.. إن هذه المليارات من الدولارات التي توفر للكلاب يمكن أن تبني مئات المستشفيات، مئات المدارس والجامعات، مئات المعامل ومصانع الأدوية لمكافحة الأوبئة التي تفتك بالبشرية.. إذاً دعونا من الترهات ومن الزيف والخداع عندما نتحدث عن الإنسانية بمفهومها القائم اليوم والذي يضيق ويتسع حسب المزاج السياسي، والمزاج الاقتصادي، والمزاج الأيدلوجي...! إذ ليس من الإنسانية أن تطغى عواطف الحب الكلابية على عاطفة الحب البشرية، وليس من المروءة ولا من الشرف الإنساني مثلا أن يطبطب رئيس دولة على ظهر كلبته، مستمتعاً بمنظر طائراته وهي تقصف البيوت على من فيها، وتكتسح مدارس الأطفال، بل وتمحو القرى الآمنة، لمبررات شيطانية حاقدة تمارس الكراهية، والبغضاء وتمتهن الاخلاق والحرمة الانسانية، لأن مثل تلك البشاعات فيها إذلال صارخ للمفهوم الإنساني واستباحة لكرامته، ولدمه الآدمي.. ومن ثم فإننا قد سئمنا وأصابنا الاشمئزاز من مواعظ مؤسسات حقوق الإنسان، في زمن أصبحت فيه كرامة الكلاب فوق كرامة بعض البشر.. ودمها أغلى كثيراً، وأثمن من دماء كثير من أطفال عالمنا الثالث المستباح..!