لم يكن التطور فكرة جديدة تماماً على الوعي الإنساني عندما كتب داروين مؤلفه الأشهر «أصل الأنواع» عام 1859، وبالأحرى كتابه التالي «تسلسل الإنسان» عام 1871، فقد كانت الفكرة مضمنة في كتابات فلاسفة ومفكرين اجتماعيين تحدثوا عن «فرض الارتقاء» في سياق تأكيدهم مفهوم التقدم، أمثال هردر وشلنج وهيغل وسبنسر. كما أنها كانت مطروقة لدى علماء بيولوجيا معاصرين لداروين أمثال بوفون، وتريفيرانوس الذي قرر في كتابه «علم الحياة» عام 1803 أن العضويات الراقية قد تطورت بالتدريج عن أخرى بسيطة، وأن انقراض الأنواع ليس إلا تحولاً إلى أنواع أخرى، ولامارك في كتابيه «الأبحاث» و «فلسفة الحيوان» اللذين أكد فيهما أن الحيوان نفسه يسعى جاداً ليتطور حتى يسد ما يظهر في بيئته من حاجات جديدة، وأن الأعضاء تنمو طردياً مع استعمالها، وأن الصفات المكتسبة تنحدر إلى الأبناء عن آبائهم. بينما توصل والاس في وقت واحد تقريباً مع داروين، ومن غير أن يكون بينهما اتصال، إلى بطلان الرأي القديم في أن أنواع الحيوان ثابتة لازمت صورها عبر العصور، وأن الأنواع تتطور دوماً، وأنها في صراع دائم بحكم قانون الانتخاب الطبيعي، حيث البقاء للأصلح. بل إن الفكرة، وهذا هو الأهم هنا، كانت متداولة لدى بعض مفكري الإسلام منذ القرن الخامس الهجري، فالقزويني في كتابه «عجائب المخلوقات» بعد تقسيمه الأجسام إلى نام وغير نام، أي عضوي وغير عضوي، يقول: «إن أول مراتب هذه الكائنات تراب وآخرها نفس ملكية طاهرة، فالمعادن متصلة أولها بالتراب أو الماء وآخرها بالنبات. والنبات متصل أوله بالمعادن وآخره بالحيوان، والحيوان متصل أوله بالنبات وآخره بالإنسان، والنفوس الإنسانية متصلة أولها بالحيوان وآخرها بالنفوس الفلكية». فيما ذهب ابن مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» إلى «أن الموجودات مراتب، وكلها سلسلة متصلة... وكل نوع من الموجودات يبدأ بالبساطة ثم لا يزال يترقى ويتعقد حتى يبلغ أفق النوع الذي يليه، فالنبات في أفق الجماد، ثم يترقى حتى يبلغ أعلى درجة، فإذا زاد عليها قبل صورة الحيوان. وكذلك الحيوان يبدأ بسيطاً ثم يترقى حتى يصل إلى مرتبة قريبة من الإنسان». ويضيف عن تدرج الحيوان إلى ما يقترب من صورة الإنسان قائلاً: «هو الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه ويتشبه به من غير تعليم كالقردة وما أشبهها، ويبلغ من ذكائها أن تستكفي في التأدب بأن تري الإنسان يعمل عملاً فتعمل مثله من غير أن تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها. وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة، خرج بها عن أفقه وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها والصور التي تلائمها». أما ابن خلدون فيصف تكوين العالم، مشيراً إلى نوع من التطورية قائلاً: «إنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض... وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني، وأولاً عالم العناصر المشاهدة، كيف يتدرج صاعداً من الأرض إلى الماء ثم إلى الهواء ثم إلى النار، متصلاً بعضها ببعض. وكل واحد منها مستعد لأن يستحيل إلى ما يليه صاعداً وهابطاً... ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخيل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده. واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه وانتهى في تدرج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق الإنسان بعده، وهذا غاية شهودنا». ولعل هاتين الجملتين الأخيرتين لدى ابن خلدون «واتسع عالم الحيوان... وانتهى في تدرج التكوين إلى الإنسان...» ثم «وهذا غاية شهودنا» تثيران السؤال الأكثر إشكالية حول ما ذهب إليه داروين في «تسلسل الإنسان» وهو أن القوانين التي تحكم تطور الحيوان هي نفسها التي تحكم تطور الإنسان، فالإنسان مجرد حيوان، والفارق بينه وبين ما نسميه بالحيوان فارق في الدرجة وليس فارقاً في النوع! ما أحيا الاتهام القديم لداروين بأنه يحاول إنزال الله عن عرشه، ونفي صفة الخلق عنه، واستنفر جهد التيارات الكنسية والمحافظة لمقاومته. وربما كان صحيحاً أن داروين نفسه كان حذراً ولم يتنازل عن النظرة الدينية التي شب عليها كمسيحي، وأنه كان لا يزال من التأليهيين عندما ألف كتاب أصل الأنواع، لكنه تحول إلى الموقف اللاأدري تحت ضغط مذهبه الذي طرح على الوعي الدينى ذلك التحدي المتعلق بحقيقة الحضور الإلهي في الكون، وهنا يجب التمييز داخل القائلين بالتطور بين فريقين: الأول هو فريق الماديين الذين يعتبرون التطور آلية كامنة في طبيعة المادة، ولا تفسير لها إلا أنها وجدت هكذا، ولا يمكن أن توجد على صورة أخرى غير التي وجدت عليها. وهنا تتم المحاجاة بأن الانتخاب الطبيعي جعل التوسط الإلهي في التاريخ غير ملائم ولا لزوم له، ومن ثم أنكر بعض علماء التطور في القرن العشرين، وعلى رأسهم أرنست هيكل، صراحة كل نسبة للإنسان غير نسبته إلى أنواع الحيوان، وجعلوا لهذه النسبة شجرة تجمع بينه وبين القردة العليا. دعوى هذا الفريق تواجه بثغرة ما زالت قائمة يثيرها سؤالان عجز علماء التطور خصوصاً والبيولوجيا عموماً عن الإجابة عليهما، حتى الآن على الأقل، أولهما عن العلاقة بين المخ والعقل، وثانيهما عن العلاقة بين الشمبانزي والإنسان. وعلى رغم أن الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهور قد اشتق مفهوم الذهن كجسر بين المخ والعقل، مؤكداً أن كل الحيوانات لديها ذهن يرتبط بوجود المخ، وهذا ما يخولها معرفة الموضوعات، تلك المعرفة التي تحدد حركاتها، فإنه أكد في الوقت نفسه أنها تبقى بعيدة تماماً عن امتلاك مفهومنا الإنساني عن «العقل». هذا الفارق هو ما يصوغ العلاقة منطق العلاقة الثانية بين الشمبانزي الذي تتوقف ملكاته عند حدود الذهن، فيما يسمو الإنسان عليه بامتلاك العقل. وإذا كان نيتشه قد قال هازئاً في إحدى كلماته على لسان زرادشت: «إن الإنسان قنطرة بين القرد والسوبرمان»، فإنه لم يستطع هو أو غيره قط أن يكشف سر هذه القنطرة بين الشمبانزي والإنسان، والتي تتجلى فيها عظمة الخلق الإلهي، فمن دون اللمسة الإلهية لما صارت نتيجة التطور هي الإنسان، ربما كانت حيواناً أكثر تطوراً، أو حتى مثالياً بقوته وذكائه، ولكن من دون قلب ولا حياة جوانية. والثاني فريق «المؤمنون» الذين يرون التطور هو بيد الله، وأن قوانين التطور تعكس اليقين في التقدم، فالتطور والتقدم تدبير إلهي مسبق وحتمي. ومن ثم تصبح قابلية الأنواع للتحول هي الوسيلة المشروعة التي يتحقق بها التقدم الضروري. كما رأوا أن الانتخاب الطبيعي هو العملية المنظمة التي يستهدف عن طريقها (الله) بلوغ العالم مستوى الكمال، ومن ثم فالقوة التي تصدر عنها آثار التطور في الكون كله منذ بدايته لا بد أن تكون «فوق الطبيعة» وفوق الكون تودعه ما تشاء من النظم والنواميس. بل ذهب بعض المفكرين والعلماء على منوال ج. ه. غلادستون إلى اعتبار التطور دليلاً على النظام، وأن فكرة بقاء الأصلح لا تبطل فكرة العناية الإلهية... بل تؤيدها وتكشف عن الوسائل التي اختارتها لتدبير مقاصدها منذ القدم، فنرى أنها نتيجة قانون منتظم وليست مجرد سلسلة من المفاجآت المتفرقة. هذا الفريق يؤكد أن الفاصل بين الحيوان والإنسان يظل فارقاً «وجودياً» على صعيد الوعي الذي هو من خصائص الإنسان وحده، فالحيوان يعيش ويحس من دون أن يحكم على إحساسه وحياته ومن دون قدرة على أن يتفهم الخطأ والصواب، الظلم والعدل، إذ ينقصه بعد من الأبعاد العميقة للوجود وهو التعالي أو التسامي. أما الإنسان فهو الكائن الذي يحيا ويحس ويعرف ببصيرته أنه يحيا ويحس، كما يجعل من ذاته موضوعاً لأبحاثه وأحكامه وتأملاته. ومن جانبنا نؤيد هذا الفريق استناداً إلى حقيقة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتمتع بالذاكرة والخيال. ففيما تعيش أرقى الحيوانات في الحاضر وحده، ومن ثم فهي لا تتعدى حاضرها، وليس لديها تصورات خاصة لمستقبلها، يعيش هو في الحاضر وفي الماضى والمستقبل أيضاً، فنراه يجهز الاستعدادات الخلاقة لأجل مستقبله، على هدى خبراته الماضية، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو ينفذ خططاً مدروسة، حتى إنه يستعد لأزمنة لا يمكنه أن يعيش ليراها، بل ويعد، سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف، كل ما هو مطلوب للحظة موته، بينما الحيوان يعرف الموت لأول مرة حينما يموت. ولدى الإنسان كذلك، حتى في أكثر مراحله بدائية، أفكار عن المحظورات، وعن النجاسة والسمو واللعنة والقداسة، وغير ذلك من أفكار مماثلة، بينما الحيوانات، حتى في أرقى صورها، تبقى متحررة من وخز الضمير الأخلاقي، ومن الشعور بالقداسة. وعلى هذا النحو كان الحيوان صائداً ممتازاً، وكذلك كان الإنسان البدائي، ولكن الأخير وحده كان، في الوقت نفسه، المخترع الذي لا يَمَل، صانع العبادات والأساطير والمعتقدات الخرافية والرقصات، عابد الأوثان والباحث عن الله، إذ كان الإنسان دائم التطلع إلى عالم آخر، عالم حقيقي أو متخيل، فلو كان الإنسان حقاً ابناً لهذا العالم وحده، فلن يبدو له فيه شيء نجس ولا مقدس، فهذه أفكار مناقضة للعالم الذي نعرفه، وهي برهان على أن لنا أصلاً آخر نبعنا منه، وإن كنا لا نستطيع أن نتذكر شيئاً عنه. وخلافاً للحيوانات التي تفتقر لأدنى تصور عن ماهية الجمال والقبح، ولد الإنسان ومعه هذه التصورات الجمالية التي طالما عبر عنها نقشاً ونحتاً، حتى في أكثر عهوده بدائية، وفي أكثر أنماط حياته فقراً ما يعني أن رغبته في تذوق الجمال كانت حميمة لديه، بل وتناهز في حميميتها رغبته الأعمق في حفظ البقاء، فيما سيطرت الأخيرة وحدها على «ذهن» الحيوان. وأخيراً وليس آخراً فإن الإنسان وحده يخاف ويحب ويقلق ومن ثم فقد يكذب أو يراوغ، ليخفي حقيقته، وربما أخذ سره معه إلى القبر. وربما كان الحيوان أيضاً يخاف، ولكنه ذلك الخوف الغريزي على الطعام أو مجرد البقاء خشية الجوع أو الافتراس، كما أن الحب لديه انعكاس مباشر لغريزته أو سلوكه الجنسي، أما القلق فهو ذلك الشعور المصاحب للخوف على «الراهن»، وليس ذلك القلق الوجودي الناجم عن موقفه أو هواجسه إزاء «المصير». والذي يدفع الفيلسوف الوجودي البروتستانتي باول تيليش، للقول ان بؤس الإنسان كامن في الطابع المتناثر لحياته ومعرفته. كما أن عظمته تكمن في قدرته على إدراك هذا التناثر، اذ ان الإنسان قادر على أن يلغز وأن يسأل وأن يتجاوز الشذرات بحثاً عن المعنى الكامل. وحتى لو كان الإنسان خاضعاً مع كل الكائنات لقانون العبث، فإنه وحده الأكثر وعياً بذلك القانون، والأكثر إدراكاً لحقيقة أن هناك معنى ما يكمن وراء العبث. هذا التباين الجوهري بين الإنسان والحيوان، لا يمكن رده إلى مجرد اختلاف في مراحل التطور فحسب، لأنه ليس فارقاً كمياً في الدرجة، بل كيفياً في النوع. فلم يكن الإنسان، في كل مراحل تاريخه، مجرد حيوان بارع محكوم بالضرورة، بل كائناً متسامياً أنتج محرماته ومقدساته، فنونه ومعتقداته، وكشف عن فهم للماضي وتطلعات للمستقبل، وعن رفض للقهر والحتم، وشوق إلى العدل والحرية، ما جعل تاريخنا البشري على هذا النحو الجياش والدافق بالتغير صعوداً وهبوطاً، تقدماً وتأخراً، على نحو يلغي الحتم عن التاريخ، بقدر ما يلغي الصلة التطورية بين الحيوان والإنسان، ويفسح لحقيقة الخلق المكان نفسه من الوعي الذي تحتله أفكارنا عن الحرية والخير والعدالة، وهي الأفكار التي نناضل في حياتنا من أجلها، بل ونضحي بهذه الحياة نفسها على مذبحها، لأن ذلك النضال وتلك التضحيات هي التي تمنح وجودنا معناه، كما يضفي الموت على الحياة قيمتها. ومن ثم فإن ثمة طريقين لفهم التطورية، على أنها ممكنة وعملية، من منظور جدل العلم والإيمان، أولهما يمكن نسبته إلى مفكري الإسلام عدا ابن خلدون، على نحو ما سلف، ويقصرها على ما يمكن تسميته ب «التطور داخل النوع»، أي داخل كل نوع من العوالم القائمة بذاتها، والمستقلة عن غيرها، إذ حدثت تطورات داخل التركيب الإنساني بحسب البيئة، والزمان، والتحديات مثلما حدث في عالم الحيوان من أدناه وأبسطه، إلى أرقاه وأعقده، وكذلك في عالم النبات من أزهره إلى أثمره، بل وفي العالم المادي حيث تؤكد الدراسات الجيولوجية حدوث تحولات هائلة بين سطح اليابسة والماء، وبين مساحة الحار والبارد، تغير معها شكل الأرض ومواطن الحضارات. وثانيهما يمكن نسبته إلى فريق المؤمنين من علماء البيولوجيا المعاصرين، والذي جعل من فكرة التطور نفسها آلية إلهية (يد الله)، أعادت تشكيل الإنسان باعتباره ذروة نوعية للخلق، وعبر النفخة الإلهية لروحه وعقله، وإن اعتمد جسده على المادة الكونية نفسها التي صيغت منها الكائنات، ما يمثل دليلاً آخر على وحدانية الخالق. وهكذا يمكن فهم ما جرى من تطور للإنسان البدائي باتجاه الإنسان الحديث الأكثر رقياً وتعقيداً بلا شك، ولكنه ليس منزوع الصلة بالإنسان الأول، كما أنه ليس وريثاً لأي حيوان مهما كان نوعه أو درجة رقيه، وبهذا الفهم يمكن التوفيق بين قصة الخلق الإلهي للإنسان، التي تمنحنا الكرامة الشخصية، والحرية الفردية، مع صك استخلافنا على الكون، وبين العلم الحديث في أكثر صوره تحرراً وجذرية. * كاتب مصري