بعد أن خاض الشيخ الدكتور سلمان العودة معركة بناء الجماهيرية، بدأ الآن المعركة الأصعب في الحفاظ عليها، في وقت كانت جماهيريته قد بنيت على آراء أضحت سابقة، وحلت مكانها رؤية جديدة، وضعت أنصاره أمام خيارين: الاستمرار معه أو البحث عن رمز ديني حركي آخر. مقال الأسبوع الفائت، تناول التعريف الموجز بمشوار العودة مع الأنصار في مختلف التيارات ومحاولته مد جسور التواصل معهم في آن واحد، وفي الوقت ذاته، البدء في تحضير رؤية مستقبلية لموقعه في المشهد الإسلامي الحركي، واليوم نحكي عن الصورة المختلفة التي ظهر بها الشيخ، وهو ما يروجه له الليبراليون والجهاديون في آن واحد "تغيير الجلد". غاب الدكتور سلمان العودة برهة من الزمن لأسباب أمنية سياسية، كانت هي فترة الإقامة جنوبالرياض، وعقب عودته إلى الحياة في صيف 99، كان على موعدٍ مع المفاصلة بينه وبين الجهاديين، وهي قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فالجهاديون "غسلوا أيديهم منه" بعد فترة قصيرة من عودته إلى الحياة، ولا أعني ب "الجهاديين" المحسوبين على تنظيم "القاعدة"، ولكن هم أولئك الذين ينتصرون لفكرة "لا حل إلا بالجهاد"، وقد ذكر الداعية الكويتي البارز إعلامياً الشيخ محمد العوضي شيئاً من تفاصيل النقاشات بين الدكتور العودة ومجموعة من الجهاديين، وكانت تدور أحداثها في مكةالمكرمة عن وجوب الالتحاق بصفوف الدولة الأفغانية إبان حكم طالبان. واصل الدكتور سلمان سياسة إمساك العصا من الوسط، فلم يوقع على كل البيانات التي تبناها التيار "السروري"، وأشهرها "بيان الدمج"، الذي اعترض موقعوه على قرار حكومي بدمج قيادتي تعليم البنين والبنات في وزارة واحدة. وتميز الدكتور سلمان بأخلاقيات عالية، تحاشى فيها التشهير بخصوماته، ولم نسمع منه أو نقرأ له هجوماً على المختلفين معه، كما أن ممارسات أنصاره مع مخالفيه كانت تحدث لديه انزعاجاً يعرفه كل محيط به، ورغم نشوء تيار فكري خارج من عباءة "السرورية" و"الأخوان" بشكل عام، ويطلق عليه اسم "تيار التنويريين"، ورغم ما ناله هذا التيار الوليد من هجمات كاسحة وتشهير عبر كل الوسائل المتوافرة لخصومه، إلا أن العودة لم يعلن خصومته مع "التنويريين"، ووضع بينه وبينهم مساحة مفتوحة، ربما كي يتقدم أحدهما إلى الآخر. من الجانب الآخر، كان للتنويريين هجمات على الدكتور العودة من زاوية أخرى، فأكثروا من انتقاده في عدم إعلان قناعاته، وأنه خاضع لسلطة الجماهير، خصوصاً أنهم وجدوا في خطابه، خلال السنوات الأخيرة، ما يحمل أفكاراً تعد تجديدية في الأوساط المحافظة؛ مثل ما قيل عنه في تضعيفه لبعض أحاديث البخاري، وآرائه في غطاء المرأة لوجهها والغناء، بالإضافة إلى تخليه الجزئي عن كتابه في الرد على الشيخ الدكتور محمد الغزالي، هذه المؤشرات التي لاحظوها عليه شجعت بعضهم على مزيد من التفاؤل في فرص جذبه إلى تيارهم، وتزعمه أيضاً؛ لأن تيارهم لا يحظى بشخصية جماهيرية في الأساس، إضافة إلى ما يعتقده بعضهم إلى الحاجة إلى قائد بحنكة الدكتور سلمان، أو بشكل أقرب كانوا بحاجة أكثر إلى توظيف أفكاره وقناعاته الجديدة في خدمة توجهاتهم، التي تلقى شيئاً من المعارضة محلياً. هجمات أنصار العودة السابقين تأخرت في بدايتها، لسبب واحد، يعرفونه بشكل قاطع، ويعون حساسيته، وهو ما يعرفه الدكتور العودة أيضاً، وهو أنه يتحرك ومن خلفه قاعدة شعبية عريضة، لا توازيها قاعدة من سبقه من المشايخ أصحاب التجديد في مرحلة ما بعد التسعينيات، ولذا كان الحذر في التعاطي مع أفكار العودة الجديدة، ومحاولة التذاكي في التقليل من شأن صاحبها عبر الكتابة بالرمزية. الدكتور سلمان من جانبه كان أذكى في اختيار موعد إعلان أفكاره بشكل مباشر، واختار منبراً مشاهداً للعامة على المستوى العربي، وليس لفئة محددة محلية، فجاء الموعد بعد سنوات من تجميع الأفكار، وترتيب الأوراق، وضمان بقاء معدل الجماهيرية على مستوى يحميه من ردات الأفعال، ويسنده في التحول الجديد، ولا أحد ينكر أنه فقد جزء من شعبية التسعينيات، حتى وإن بلغ نصفها، لكن الباقي منهم ليس بالعدد الذي يستهان به. نقل الدكتور العودة مشاركاته إلى الفضاء العربي، يعزز الفكرة التي تسربت من حوله، بأن الهمّ العالمي بدأ يسيطر على أولوياته، ولو اقتضى ذلك التضحية بشيء من الجماهيرية المحلية، بمعنى أنه في انتقاله من قناة "المجد" إلى فضائية mbc اختار موعد بداية لنقل رسالته إلى العالم العربي. لكن هناك من يسأل حول ظروف هذا الانتقال ومبرراته: هل كان بالفعل للسبب السالف الذكر أم أن قناة "المجد" لم يكن لها أن تتسع لآراء كتلك التي سمعناها وشاهدنا تفاصيلها في رمضان ؟.