حينما يأتي المطر تبتهج الأنفس بعد طول انتظار عقب صيف حار ملتهب، عندها نردد بفرح أهلاً بالغيث أهلاً بهدية السماء أهلاً بحبات ماءٍ تعانق الأرض فتعزف إيقاعاً تطرب له قلوب البشر مشتاقة لمباهجه، وترفل الدواب بعطره، وتحتضنه الأرض فتهتز زاهية خضراء يانعة. كل هذه العبارات من الترحيب ومثلها تلك الصور الجمالية المحتفية بهذا الضيف العزيز لا تشفع لمن لا يلقي بالاً للوجه الآخر لهذا الضيف، ففي لحظة من اللحظات وأمام عدم اكتراثنا بقوته وجبروته، يتحول هذا الفرح إلى كوارث وكوابيس قاتلة ومدمرة، حينما يتحول هذا الغيث إلى هذه الصور المفجعة والمحزنة التي يخلّفها استخفافنا وعدم مبالاتنا بمخاطره، كل ذلك لأننا شعورياً وعملياً لم نحسن استقباله كما يجب، ولم نستعد له في مدننا وحواضرنا، بل لأننا مارسنا معه أصناف الاستهانة، وتركنا الاستعداد له على شكل مواجهة غير متكافئة، ليكون دورنا في هذه المواجهة تعطيل الحركة وإغراق الأنفاق والشوارع والطرقات والبيوت بمياه الأمطار، وفي نهاية الموسم يأتي إحصاء التلفيات وهذا الكم الكبير من الجهود الضائعة والإرباك الذي أحدثناه لأنفسنا. تحدي جريان السيول أما على مستوى الأفراد فالحال ليست بعيدة عن هذه الثقافة وهذا الفكر، ذلك أن الكثير من المواطنين يمارس ألوان المغامرة والتحدي حينما يرمي بنفسه وأسرته في تيارات جريان الأودية الجارفة في شرايين الطبيعة أو على ضفافها، كصورة من صور اللامبالاة بهذا الهائج، فالكثير من الناس حينما تهطل الأمطار بغزارة وتسيل الشعاب وتجري الأودية ينطلق إلى تلك الأماكن مع ما فيها من مخاطر، والبعض يمارس المغامرة لتجاوز تيارات تلك الأودية بسيارته مصطحباً معه في أغلب الأحوال أفراد أسرته من النساء والأطفال، وحينما يقع في حبائل هذا التهور، ويكون قاب قوسين من الغرق كصورة حتمية لهذا المجازفة يستجدي نخوة المتجمهرين لإنقاذه وإنقاذ أسرته لتخليصه من هذه الورطة، وحين يتأزم الوضع يستنجد الجميع برجال الدفاع المدني لإنقاذ مغامرة قاتلة لم تكن ضرورية، ثم يتم توجه اللوم لجهاز الدفاع المدني الذي لم يكن حاضراً وواقفاً على أهبة الاستعداد بانتظار تلك المجازفات القاتلة. عبء على الدفاع المدني من المؤكد أن دور الدفاع المدني وكل الأجهزة المعنية بتوفير الأمن والسلامة للمواطن والمقيم في هذا الوطن الغالي هو القيام بمهام الإنقاذ وتوفير الحماية من المخاطر قدر المستطاع وبكل الوسائل، لكن ذلك يأتي في الحالات القهرية التي يتعرض لها الإنسان أو تلك الحالات التي تأتي نتيجة الأزمات الطارئة، أما أن يقوم الإنسان بتعريض نفسه بهذه الطريقة وبهذه المجازفة فهذا أمر قد يشكل عبئاً كبيراً على الجهود والخدمات التي تقدمها فرق الدفاع المدني، وهذا مما يستدعي نشر وتوزيع معداته وتجهيزاته وأطقمه على ضفاف تلك الأودية وبين الشعاب ومجاري السيول، وتفريغ المدن والقرى من خدمات الدفاع المدني والانتقال بها لتلك المواقع، مع هذه الصور المختلفة من اللامبالاة والمخاطرة الجسيمة بالأنفس والممتلكات التي يرتكبها هؤلاء المغامرون، هنا نتساءل عن دور جميع منابر التوعية، وغفلتها عن تحذير هؤلاء الناس غير المكترثين بمخاطر السيول وما قد ينجم عنها. من المؤسف أن تلك صور تتكرر كل عام مع موسم هطول الأمطار، لنشهد من خلالها مسرحية هزلية أبطالها هؤلاء المغامرون، ومن المؤسف أيضاً أن هذه المسرحية المؤلمة تمتد فصولها إلى طرقنا وشوارعنا داخل المدن وعلى الطرق السريعة، حينما يفتقد التخطيط والتنظيم إلى الاهتمام بهذا الحدث الموسمي، فهناك مشروعات ضخمة وحيوية من مستشفيات ومدارس ومرافق عامة وأنفاق وغيرها من الخدمات، ومخططات سكنية في مدننا وقرانا يتم بناؤها في مجاري السيول وبطون الأودية، كتصرف عشوائي يفتقر إلى أبسط قواعد الحيطة والحذر، مما يستوجب معه إعادة النظر بالطبيعة الجغرافية، وملاحظة مسارات الأودية والشعاب الكبيرة داخل المدن عند القيام بتنفيذ مشروعات التنمية. استهتار وعدم إدراك المخاطر مدير الدفاع المدني بمنطقة القصيم اللواء د. علي بن عطا الله العتيبي أكد جاهزية فرق الدفاع المدني لمباشرة ما يرد إليها من بلاغات، مضيفاً أن الدفاع المدني يتلقى تقارير الحالة الجوية من الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة ويعمل على تمريرها للجهات ذات العلاقة، مبيناً أن مخاطر فصل الشتاء تختلف عن بقية فصول العام، حيث يأتي الاختناق بغاز أول أكسيد الكربون الناتج عن التدفئة بالفحم أو الحطب في المواقع المغلقة أو سيئة التهوية من أبرز تلك المخاطر، وأضاف أن التدفئة بالوسائل التقليدية كالفحم أو الحطب داخل مواقع معدومة أو سيئة التهوية ينتج عنه اختناق قد يؤدي إلى الوفاة إذا لم تتم مباشرته في الوقت المناسب. وحول مخاطر الأمطار، قال اللواء العتيبي إن التعامل مع تلك المخاطر يتطلب المزيد من الحرص والحذر، فهذه الأمطار هي نعمة من الله سبحانه وتعالى، ولكنها قد تتحول إلى نقمة إن تساهل معها الشخص أو لم يلتزم بتعليمات السلامة العامة، وقد ذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء، وأضاف: لعل الجميع يتابع من خلال وسائل الإعلام الحوادث الناتجة عن هطول الأمطار، مضيفاً أن الدفاع المدني يسير في التعامل مع مخاطر الأمطار على مسارين متوازيين، فالمسار الأول يتضمن برامج توعوية يتم نشرها عبر وسائل الإعلام وكذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يتضمن المسار الثاني التدخل السريع بفرق الإنقاذ في حال تطلب الموقف ذلك. وعن أبرز أسباب حوادث الأمطار، قال مدير الدفاع المدني بمنطقة القصيم أن الأسباب لا يمكن حصرها في سبب واحد فهي تختلف وتتعدد، ولكنها تلتقي في سبب مباشر وهو عدم إدراك البعض لخطر تصرفاتهم الخاطئة والتبعات الناتجة عنها، فالمغامرات وتحدي المخاطر تأتي من أبرز الأسباب، وقد شاهد الجميع ما يتم تناقله من مواد في وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يتهاون البعض في التعامل مع جريان الأودية والشعاب سواء بأنفسهم أو بمركباتهم، وكيف كانت نتائج تلك التصرفات التي هي بالتأكيد مؤلمة، مهيباً بالجميع الاستمتاع بالأجواء الجميلة، وعدم المجازفة بالأرواح والممتلكات، والمحافظة على الأطفال وعدم تركهم دون مراقبة في مواقع الخطر، داعياً الجميع إلى متابعة حسابات الدفاع المدني على مواقع التواصل الاجتماعي والتقيد بما يصدر منها من تعليمات تتعلق بالسلامة العامة. كوارث فكرية وليست كونية بدوره، قال الباحث الفلكي د. خالد الزعاق إن من المؤسف بأن الكوارث التي تنتابنا في كل سنة مع موسم هطول الأمطار هي كوارث فكرية وليست كوارث كونية، فالجزيرة العربية ولله الحمد بعيدة كل البعد عن ثوران البراكين وهزات الزلازل، وإن ما يحصل لدينا هو بسبب قلة الوعي بعدم التعامل بما يمليه علينا القانون الكوني مع هطول الأمطار، فنجد أن جل الكوارث هي بسب التهور أثناء هطول الأمطار والاقتراب من بطون الأودية ومجاري الشعاب. خبراء يطالبون بتوعية إعلامية.. وفي المناهج التعليمية وعبر منابر الجمعة وأضاف قائلاً: "من المؤسف أن الثقافة الموروثة لدينا لديها الكم الهائل من التحذيرات من المخاطر المحتملة عند نزول الأمطار والتحذير من بطون الأودية، ومن ذلك قول العامة "خل كل سيل ومجراه"، لافتاً إلى أن مساكننا القديمة كانت لا تبنى إلا في المرتفعات بعيداً عن الأدوية، بينما نجد المخططات الحديثة التي خططت خلال ال 30 سنة الماضية خططت في بطون الأودية، كما هو حاصل في حي قويزة بجدة، وحي الشبيلي بحائل، وحي الإسكان في بريدة، ومثلها أكثر من عشرة مخططات سكنية في مدينة الرياض أقيمت في بطون الأودية، بل هناك مدارس وقطاعات خدمية أخرى أقيمت أيضاً في بطون الأودية. وأشار الباحث الفلكي إلى أن الأودية في المملكة من النوع الذي يجري بشكل فجائي وقوي ، لافتاً إلى أن سطح الجزيرة العربية عبارة عن شرايين من الأودية المتشابكة، ولهذا نجد أن هناك مناطق غير ممطورة تنتقل إليها مياه أمطار من أماكن ممطورة في مواقع نائية، وهذا دائماً يحدث في أمطار الربيع، منوهاً إلى أن من أسباب قلة الوعي لدى المجتمع بمشاكل الأمطار ومخاطرها يعود إلى أن المناهج التعليمية في مدارسنا لم تتناول الأخطار المحدقة من جراء هطول الأمطار، لافتاً إلى أن حصيلة الأجيال التالية من الشباب لا تقدر خطورة الاقتراب من بطون الأودية ومجاري الشعاب، ومثل ذلك المشاكل الآخر نتيجة فقر التوعية بمخاطر الولوغ في مجاهل الصحراء أيام موسم الصيد. وأشار د. الزعاقي إلى أن هناك أشخاصاً انقطعت بهم السبل من تعطل مركباتهم في الصحراء والتي غالباً لا يتم العثور عليهم إلا بعد أيام وقد زهقت أرواحهم، كما لفت إلى أن الخطاب الديني لدينا لا يتطرق إلى التحذير من هذه الكوارث من خلال خطباء الجوامع أيام الاستسقاء، علماً بأنها من قبيل قتل النفس العمد ومخالفة ولي الأمر، مؤكداً أن أجهزة الدولة المعنية وفي مقدمتها الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة، والدفاع المدني لم تألُ جهداً في التحذير المستمر من مخاطر بطون الأودية عند هطول الأمطار، متمنياً أن يزداد الوعي بمخاطر السيول لدى كافة أفراد المجتمع. محاولة فاشلة لاجتياز المياه الجارية تنتهي بكارثة لواء د. علي العتيبي د. خالد الزعاق سيارة جرفتها السيول بعد محاولة قائدها الخطرة ينتظر على سقف سيارته مساعدة الدفاع المدني