يرى الروائي محمد المزيني أن التفوّق يعود إلى مدى اشتغال المبدع على نفسه، وأن القاصين لديهم احترافية عالية في الإقناع والتأثير، أما الروائيون فلديهم قدرة على استيعاب الأحداث الممتدّة والمعقّدة، ويخبرنا عن تجريب الحبكة المركّبة، وأن آخر رواية نشرت له هي الأولى التي كتبها، كما يحدّثنا عن قصّة فقدانه مجموعته الأولى قبل 20 عاماً، في هذا الحوار: * دعنا في البداية نتحدث عن نشرك الروائي قبل القصصي، مخالفاً العُرف الذي يتبعه الروائيون حيث يبدؤون بكتابة الشعر أو القصة أولاً؟ - لا أعتقد أن المسألة الإبداعية ذات علاقة مباشرة بماذا أكتب أولاً، كما أن الإبداع بكل أشكاله لا يخضع للمحاصصة بين المبدعين، فمن يبدع شعراً لا يبدع سرداً، كما أنها لا تخضع للمراهنات من ينتصر على الآخر، فثمة روائيون عظام كتبوا الرواية قبل القصة القصيرة، وكتاب قصة كبار كتبوا الرواية لاحقاً منهم من أخفق في الأولى ونجح في الثانية ومنهم العكس، حتى الشعراء الذين ارتحلوا إلى عالم السرد، منهم من أبدع وعرف سارداً أكثر من كونه شاعراً، ومنهم من أخفق. والقصة القصيرة ليست معياراً على نجاح كاتب الرواية متى بدأ فيها، وكذلك الرواية؛ لأن المبدع سواء كتب رواية أو قصة أو شعراً وتفوق أحدهم على الآخر فهذا يعود لقدرات المبدع الخاصة ومدى اشتغاله على نفسه حتى يصل إلى مبتغاه. ما أريد الإشارة إليه هنا هو أن الرواية أخذت حيزها من الفن الإبداعي الأدبي قبل القصة القصيرة بفنياتها الحديثة التي نفخ فيها الروح عرّابها الأول موباسان، لذلك فكتاب القصة المخلصون لها لديهم احترافية عالية بالإقناع والتأثير، لأنهم بالقليل من الأحداث والشخصيات يؤثرون بالناس، والروائيون الأفذاذ لديهم أيضاً قدرة على استيعاب الأحداث المتمددة والمعقدة والشخصيات المتعددة وسكبها في قالب محكم وحبكة مجودة، لذلك علينا الإقلاع عن المفاضلة بين الكتاب الذين سبقت أعمالهم القصصية رواياتهم، وبين الروائيين الذين لم يكتبوا القصة أو كتبوها لاحقاً، ولتظل النصوص وحدها هي المحك على نجاح الكاتب. أما بالنسبة إلي فقد كتبت القصة القصيرة قبل الرواية بسنوات وكان لدي مجموعة مسجلة حتى الآن بعنوان "وساوس" في قاعدة بيانات إدارة رقابة المطبوعات منذ أكثر من عشرين سنة، ولم تر النور بعد؛ لأن النص برمته فُقد ولم أعثر عليه، فانصرفت إلى كتابة روايتي الأولى وهي آخر رواية نشرت لي بعنوان انفرادي سبقها عدد من الروايات، ثم عدت إلى كتابة القصة. * نلاحظ أنه بعد نشر روايتك "إكليل الخلاص" نشر بعضهم أعمالاً مشابهة لها في حبكتها وشخوصها وكأنها محاكاة لروايتك، ألا تعتقد بأن هذا تعدٍّ على نصّك؟. محمد المزيني - إن كنت ترى هذا فغيرك يراه "تناص" جائز، وطريقة السرد المتعدد ذي الحبكة المركبة التي تعمل على أكثر من حدث بشخصيات مختلفة وأكثر من زمان ومكان بدأت بها ب "إكليل الخلاص" تجريبا كتابيا، وانغَلَقت على أفهام بعض القراء الذين لم يتعودوا على هذا النوع من النصوص السردية، بينما أحب آخرون خوض تجربة الكتابة بها فوقعوا في تناص ظاهر مع الرواية، لأن العمل على الحبكة المركبة في الرواية ليس سهلاً البتة ويحتاج من الكاتب الحذر من انفلات خيوطها، فهي تصور لمشهديات تتقاطع أحداثها وشخصياتها كما قلت في أزمنة معينة، الصعوبة في هذه اللعبة تكمن في لملمتها في النهاية لتنضم في صيرورة سرد محكم، وهي عملية مرهقة جداً اشتغلت عليها لاحقاً في "الطقاقة بخيتة". * في ثلاثية "ضرب الرمل" جاء أسلوب السرد بلغة حداثية مكثفة، مع أن الأحداث تاريخية، وهو أسلوب اعتمدته في رواياتك، فلمَ لم تميزها وتضع لها بصمتها عبر أجوائها الزمكانية؟. - كان هذا متعمّداً، لأني لا أريد أن تخرج عن سياق اللغة الذي اشتغل عليه في كل أعمالي مع أنني تخففت منها كثيراً في هذه الرواية تحديداً، لارتباطها بالموروث الشعبي، إلا أنني أردت أن أسبغ عليها من جَلال اللغة وهيبتها ما يليق بها ويجعل القارئ أمام نص يجمع بين الحداثة السردية والكلاسيكية الحدثية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى توخيت كما في كل أعمالي السردية أن أمهره ببصمتي الخاصة المميزة لها، كي ترقى من كونها أحداثاً شعبية إلى نصوص أدبية. * رواية "الطقاقة بخيتة" كانت من أفضل رواياتك ولها نفس طويل، وأسلوب نادر في الرواية المُركّبة، هل نستطيع معرفة الوقت الذي أخذته منك هذه الرواية؟، وهل تعتقد أنها كانت تستحق احتفاءً أكبر من قبل النقاد ودوائر الجوائز الأدبية؟. - لا يعنيني النقاد ولا أبحث عنهم في أعمالي، أن يكتب عنها ناقد ما فلن يضيف إلى عملي ولن ينقص شيئاً، ما يهمني كما عودت نفسي أن أقدم شيئاً يحتفي به القارئ العربي والمحلي ويجد فيه متعته التي يبحث عنها، لذلك ولحساسية التعاطي مع هذا النص للحياة الاجتماعية السعودية في بعض اتجاهاتها التي تجدد ملامح المجتمع السعودي بشكل دقيق في رؤيته لنفسه والآخرين، فقد استهلكت مني وقتاً طويلاً، كتبتها بشكل متقطع في أكثر من أربع سنوات، لأن العوالم التحتية المسكونة في هاجس الكتابة لدي، كان يحتاج إلى اختبارات وتجريب، دفعني للتريث والاختيار، أما الجوائز فلا شأن لي بها فلها اعتباراتها الخاصة، وقد علمت أنها دخلت البوكر وقت صدورها كأفضل عمل خليجي كما صرحت بذلك د. هدى النعمي محكّمة الجائزة آنذاك التي أبدت استغرابها من حذفها من القائمة، كما قلت فإن الجوائز لها اعتباراتها الخاصة، لذلك تستبعد منها أعمال عظيمة وأسماء عربية كبيرة وتفوز بها أعمال متواضعة لأسماء مجهولة. * نقرأ في رواياتك - مثل رواية "تالا" - انتهاج منهج أسلوب الحكّاء النادر، الذي انتهجه أمثال نجيب محفوظ وعبده خال، إلا أنك وظفته في نص مفتوح بعكسهما، هل تتعمد ترك القارئ في حيرة من أمره تجاه كل مشهد، أم هي لعبة تلعبها معه؟. - لا أستطيع أن أضع القارئ في قفص النص، وأحمله معي في كل الأحداث، أريده أن ينطلق معي لاستكمال بعض الأحداث، بهذا أعطيه خيطاً من الحبكة ليكتشف معي عوالم الشخصيات والأحداث، هذه الطريقة تحترم فكر القارئ الحديث تحديداً الذي لا يقبل بأي حال من الأحوال الانتقاص من وعيه أو الحد من حريته، أتوقف أحياناً متعمداً لأخوض في خط سردي آخر، ولنقل في واد آخر تاركاً له حرية تجريب قطع المسافة السردية للوصول إلى الطريق الذي انتهجته، وهي تكاد تكون لعبة مخاتلة، أتحايل عليه لأختبر بها قدرته على متابعة الأحداث جيداً لذلك قلت - ومازلت أقول - إنني لا أنصح القارئ المسترخي بقراءة نصوصي عليه البحث عن روايات تدغدغ مشاعره وتقدم له الوجبة السردية وهو مستلق على فراشه.