ولم يقف شأن الثقافة الحديثة في السنوات الاولى من تأسيس المملكة العربية السعودية عند حدود اصدار كتاب «ادب الحجاز»، فها هو ذا محمد سرور الصبان يعاود الكرة مرة اخرى فيصدر في عام 1345ه/ 1926م كتاب «المعرض، او آراء شبان الحجاز في اللغة العربية»، الذي ضم طائفة من مقالات الادباء الشبان في الحجاز، واشتمل على رأيهم فيما اثاره ميخائيل نعيمة من مهجره من آراء في اللغة العربية، مما اورده في كتابه الشهير «الغربال»، وأبان «المعرض» عن حضور المسألة اللغوية التي كان الجدل حولها مستعراً في تلك الاثناء في الثقافة العربية الحديثة، ودل فيما خاض فيه القوم، على ان صُوىً جديدة كانت قد وضعت في طريقهم الى النهوض والتقدم، وان الثقافة الحديثة قد ضربت بجدار بينها وبين ما اطمأن اليه الحجاز من ثقافة العصور المتأخرة. غير ان الحدث الثقافي المهم في تلك المدة هو صدور كتاب «خواطر مصرحة» (1345ه/ 1926م) للشاعر الشاب محمد حسن عواد (1320 - 1400ه/ 1902 - 1980م)، الذي اختار له عنواناً فرعياً ذا دلالة «مقالات في الادب والنقد والاجتماع»، وهي هذه المصطلحات التي كانت بعض أفياء الثقافة الحديثة في المملكة،هذه الثقافة التي كان كتاب (خواطر مصرّحة) انجيلها الثائر على ما درج عليه القوم، آنذاك في تدينهم الشكلي، وانماط حياتهم الاجتماعية والثقافية، وبلغ من امر عواد ان يعلن، وفي فاتحة كتابه، هجمته على القوى المحافظة في مقالته «مداعبة مع العلماء» التي صدر بها خواطره، ولم يلبث ان استلهم النموذج الغربي للعلم والعلماء، وازرى بالاوضاع الاجتماعية والاقتصادية البالية - في تلك المدة - وجعل يجأر بدعوته الجريئة، في السنوات الاولى لتأسيس المملكة، الى نصرة المرأة وحقها في التعليم وتقلد الوظائف، وينحي باللائمة على ما استكان اليه الادباء التقليديون من فنون الشعر والنثر، ويلح على المعاني الجديدة في نظام الحكم والسياسة، في مجتمع كان للتو يخطو خطواته الاولى نحو الدولة والاستقرار. وقاد ترسم محمد حسن عواد آثار النزعة الرومنسية في الادب العربي الحديث، في المشرق العربي والمهجر، الى ان يغدو اشد ثورة وعنفاً فيما ينتهجه، وان يدفعه ذلك الى ان ينحي باللائمة على التراث العربي القديم، وان يجرد تلك الثقافة من أي فضل، جرياً على ما درج عليه نفر من المهجريين ولا سيما جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. ومن ذلك كلمة عواد الثائرة التي انحى فيها باللائمة على البلاغة العربية التي لم تغن لديه من الفن فتيلاً، فما لبث غير قليل حتى جرد البلاغة العربية من أي اثر، وخف يشيد ببلاغة شعراء الغرب الذين لم يكن ليعرف شعرهم إلا مترجماً، وببلاغة الشعراء المهجريين الذين استولوا على فؤاده. فأنشأ يقول: وفي سنة 1333 عندما بدأت الطفولة تتحلل مني وتتقوض اطنابها ليحل مكانها الشباب.. اخذت ادرس دروس البلاغة في المدرسة وها انا من ابان تلك السنة الى الآن لا ازال ابحث عن سر البلاغة العربية وكنهها وأتلمسها في كل مكان وبين كل سفر وفي شقي كل قلم بغية ان اعثر بها تلمسَّتُها في جواهر الادب فرأيتها تبعد 654321 مرحلة تلمسَّتُها في مولد البرزنجي فرأيتها تتلكأ متسكعة متعثرة تلمسَّتُها في البردة والهمزية فرأيتها تمشي على استيحاء تلمسَّتُها في كتب الاشياخ فأجابتني الكتب ان ليست هنا تلمسَّتُها في المقامات فإذا هي لحوم ناضجة ولكنها من غير مأكول اللحم تلمسَّتُها في كتب السعد والجرجاني فرأيتها تحشرج على فراش الموت تلمسَّتُها في شعر المولدين فإذا هي عجوز شمطاء في زي حسناء تلمسَّتُها في المعلقات فإذا هي منجم يحوي ذهباً في جنادل وصخور تلمسَّتُها في الجرائد فإذا هي خروق بالية واديم ممزق - واخيراً تركت البحث. ثم عدت فوجدتها وجدتها رعداً يقصف من نبرات القرآن فوقفت خاشعاً امام معبدها وجدتها القاً في مقالات بعض كتّاب سوريا فهززت يدي وصافحتها وجدتها ورداً ذابلاً في مقالات بعض كُتَّاب مصر فهتفت لها مبتسماً وجدتها في شعر المتنبي ينبوعاً يحاول الانفجار فلا يستطيع وجدتها في نظرات المنفلوطي عروساً تزف ولكن بلا طبول وجدتها في الريحانيات موجة تصعد وتهبط وجدتها في كثير من شعر وكتابة مسيحيي لبنان تَسْلَس عن قيادها ثم وجدتها في مترجمات هيغو وموليير وشكسبير وبايرون فقلت واهاً لمجد شعراء العرب!. شهدت الحياة الثقافية في الجزيرة العربية عهوداً طويلة من الصمت، وحين نطقت - وكان ذلك في عصرها الحديث - كان مسكونة بالثورة على القديم، يزمجر منتحلوها بحمم من الكلمات التي لا تعرف الهدوء حيناً حتى تكر ثائرة قلقة، يعبر عنها - في زهرة شبابها - ما لمسه فيها طه حسين من ثورة وعنف وجِدَّة، فقال: «وأغراب من هذا ان دعوة الى التجديد الفكري والادبي قد ظهرت في الحجاز منذ اعوام بتأثير ما يكتبه المصريون والسوريون. وهذه الدعوة عنيفة جداً فهي ساخطة اشد السخط على كل قديم.. وان يحتفظ من قديمه بالدين واللغة ويأخذ عن الاوربيين بعد ذلك ما استطاع، وان يستفيد من اقبال المسلمين عليه للحج فلا يفنى هو في المسلمين، وان يعنى اهله اشد العناية بالتعليم المدني وباللغتين الانجليزية والفرنسية لأن احداهما لغة الاقتصاد والتجارة والاخرى لغة العلم والادب. وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه الى مصر ليدرسوا فيها العلم على نحو ما يدرسه المصريون. واصحاب الدعوة الى التجديد لا يكتفون بهذا بل يريدون ان يبعثوا ابناء الحجاز الى باريس ولندرة. وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد ولكنهم لم يوفقوا بعد الى ان يكوِّنوا للحجاز شخصية ادبية، انما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين الى أمريكا بنوع خاص، فمُثُلُهم العليا في الادب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن اليهما». (ألوان ص 48).