عالم جليل وشيخ وقور، وهب نفسه للعلم، ومسيرته حافلة بالإنجازات العلمية، سيما الفقهية منها، فمنذ نعومة أظفاره كان الشيخ أحمد القاري حاد الذكاء سريع التعلم والحفظ فنبغ في سن باكرة، ولفت انتباه المدرسين بمدرسة الصولتية بجدة، فعين مدرساً بالمدرسة وهو طالب!، ولي الشيخ أحمد القاري القضاء في العهد الهاشمي والعهد السعودي وتقلد وظائف علمية كثيرة، من ضمنها تعيينه عضواً بمجلس الشورى في مكةالمكرمة، وكذلك عين رئيساً للمحكمة الشرعية الكبرى بمكةالمكرمة، إضافةً إلى تعيينه عضواً في رئاسة القضاء - هيئة تمييز الأحكام حالياً - وتوج الشيخ أحمد هذه الحصيلة العلمية الكبيرة من خلال تأليف عمل ضخم وبمجهود فردي وهو «مجلة الأحكام الشرعية» وهي تجربة رائدة، وأول عمل علمي حديث في الفقه الحنبلي والفقه الإسلامي، والمجلة سفر ضخم يقارب من 680 صفحة، ويحتوي على 21 كتابا شملت الأحكام الشرعية لكثير من المسائل الفقهية، وتعد مرجعاً ومصدراً علمياً استفاد منه الفقهاء والقضاة، حيث استطاع المؤلف من خلاله صياغة المواد والأحكام وحبك عباراتها في صورة يمكن اعتبارها قاعدة قانونية، محطات كثيرة في حياة العالم الفاضل الشيخ أحمد بن عبدالله القاري نستعرضها في التقرير التالي: درس بالحرم المكي ثم بالمدرسة الصولتية عام 1334ه ثم عين معاوناً لأمين الفتوى بمكةالمكرمة عام 1336ه، وفي عام 1339ه تم تعيينه عضواً بهيئة التدقيقات الشرعية، إلى جانب عمله السابق، بعدها تولى القضاء في مدينة جدة عام 1345ه، كما عين -رحمه الله- مدرساً للعلوم الدينية بمدارس الفلاح، وحينها كان يلقي دروسه ويدعو الناس في مسجد عكاش بجده - كما ورد في (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مئة عام)- إلى أن عين عضواً بمجلس الشورى من عام 1350ه، إلى العام الذي يليه - كما ذكر الدكتور عبدالرحمن الزهراني في كتابه (مسيرة الشورى). الشيخ أحمد القاري نشأته ولد الشيخ أحمد بن عبدالله القاري ب(مكةالمكرمة) عام 1309ه، وحفظ القرآن الكريم وجوده على يدي والده شيخ القراء الشيخ عبدالله القاري، والتحق بالمدرسة الصولتية ب(مكةالمكرمة) وتلقى علومه بها، وكان متميزاً بين صحبه وأقرانه، وإضافة إلى مواظبته على حضور وتلقي الدروس بالمسجد الحرام، فقد عرف بحرصه على الانقطاع للعلم، كما كان لنبوغه المبكر تأثيره في نفوس أساتذته، حتى إنّه انضم إلى سلك المدرسين بالمدرسة وهو طالب بها، وكان هذا التقليد من الوسائل التشجيعية التي تتبعها المدرسة الصولتية مع تلاميذها النابهين. وينحدر الشيخ من أسرة عرفت واشتهرت بشغفها بالعلم والتعليم، فوالده الشيخ عبدالله القاري كان شيخ القراء ب(مكةالمكرمة)، إلى جانب اشتغاله بطلب العلم في المسجد الحرام والمدرسة الصولتية، وكان أستاذاً لمئات التلاميذ، وعمه الشيخ عبدالرحمن بن محمد القاري كان من العلماء المشهود لهم بالفضل، وكان مدرسًا بالمدرسة الصولتية، وقد سافر إلى (الهند) لنشر علم القراءات والتجويد فمكث بها طيلة حياته وأخواه حامد بن عبدالله القاري والشيخ محمود بن عبدالله القاري وهما كذلك من رجال التعليم. ولاه الملك عبدالعزيز إعداد مرجعية معتمدة للقضاة يُستقى منها الأحكام من جميع المذاهب أمين الفتوى كان الشيخ أحمد قد درس بالحرم المكي ثم بالمدرسة الصولتية عام 1334ه ثم عين معاوناً لأمين الفتوى ب(مكةالمكرمة) عام 1336ه، وفي عام 1339ه تم تعيينه عضواً بهيئة التدقيقات الشرعية، إلى جانب عمله السابق، بعدها تولى القضاء في مدينة (جدة) عام 1345ه، كما عين -رحمه الله- مدرساً للعلوم الدينية بمدارس الفلاح، وحينها كان يلقي دروسه ويدعو الناس في مسجد "عكاش" ب(جدة) - كما ورد في (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية في مائة عام - إلى أن عين عضواً بمجلس الشورى من عام 1350ه، إلى العام الذي يليه -كما ذكر الدكتور عبدالرحمن الزهراني في كتابه (مسيرة الشورى)-، كما عين في ذات العام 1350ه رئيساً للمحكمة الشرعية الكبرى ب(مكةالمكرمة)، وفي سنة 1357ه عين عضواً في رئاسة القضاء حتى وفاته. تمكن من العلم كان القاري وفق وصف الباحث والمؤرخ محمد بن علي مغربي يرتدي الجبة والعمامة الألفي الحجازية، ومن تحتها الشاية وهي زي العلماء في ذلك الزمان، ثم تحول إلى العباءة والغترة بدون عقال وهو زي رجال الدين في العهد السعودي، مبيّناً أنّ هناك علاقة شخصية تربطه بالشيخ أحمد القاري، حيث كان أحد تلاميذه ومعرفته به عن قرب خلال النصف الأول من الأربعينيات بمدرسة الفلاح ب(جدة)، وكان يدرس العلوم الدينية بالفصول العليا من المدرسة، وتبدأ من السنة السابعة إلى التاسعة، إضافة إلى الأصول والتفسير. وأشاد مغربي بذكاء الشيخ أحمد القاري وتمكنه من العلم ومهابته، حيث لا يجرأ الطلبة على إزعاجه، كما أنه ذو شخصية محببة تجمع بين الوقار واللطف، موضحاً أنّ الطلاب كانوا يشعرون أن للشيخ شخصية مستقلة، فلم يكن يخالط نفسه ببقية الأستاذة، وإنما كان يأتي في الوقت المحدد للحصة ومن ثم يجلس في غرفة الانتظار مع كبار المعلمين أو يجلس لوحده، مضيفاً: "وتبدو عليه أمارات الاتزان في حركاته وفي حديثه في غير اعتداد بالنفس أو تعال على الآخرين"، وكان الشيخ القاري يتقاضى مرتباً ضخماً من مدرسة الفلاح مقداره (15) جنيهاً، وذلك كان أعلى مرتب تصرفه المدرسة، وبعد الأزمة المالية التي مرت بها مدرسة الفلاح، قدم مبادرته للعمل تطوعاً دون مقابل واستمر على ذلك، علماً بأن الشيخ القاري لم يكن صاحب تجارة أو صاحب عمل، إنما وهب حياته للعلم حتى وصل إلى القضاء. اهتمامه بطلابه ويسرد المؤرخ مغربي رحمه الله قصة أول حصوله على عمل حيث لقي الشيخ أحمد القاري ذات يوم وهو في طريقه إلى مدرسة الفلاح، بينما هو في طريقه إلى مالية (جدة) إذ كان يعمل "ملازماً"، والملازم تحت التجربة ويتدرب للالتحاق بوظيفة حكومية شاغرة لاحقا ولا يتقاضى مرتباً، فأوقف الشيخ القاري للسلام عليه، واستفسر الشيخ عن سبب انقطاعه عن المدرسة، حيث أوضح له مغربي رغبة أهله في حصوله على عمل، وبعد فترة قابله مرة أخرى، وشفع له بوظيفة معاون لمأمور الحوالات، وكانت هذه أول وظيفة يحصل عليها الشيخ محمد علي مغربي، وكان سنه آن ذاك دون الخامسة عشر سنة، ويشيد باهتمام الشيخ القاري بتلاميذه وحسن تعامله معهم. مجلة الأحكام الشرعية في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، أنشئت في تركيا المحاكم النظامية، ونقل إليها بعض اختصاصات المحاكم الشرعية، ولم يكن قضاة هذه المحاكم من الفقهاء المتمرسين بالفقه، فأمرت (إدارة سلطانية) كما يطلقون عليها بتأليف لجنة من مشاهير الفقهاء برئاسة وزير العدلية لوضع هذه المجموعة، وأتمت اللجنة عملها في ثماني سنوات، وقد وضعت اللجنة مجموعة من الأحكام منتقاة من فقه المذهب الحنفي، ورتبت مباحثها على الكتب والأبواب الفقهية المعهودة، وقد جاءت في (1851) مادة، وعندما ضم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أقليم الحجاز عام 1343ه، دعا القضاة في منطقة الحجاز بأن يكون لهم مرجع معتمد للقضاة يعتمدون عليه غير مجلة الأحكام العدلية العثمانية، فأمر بتكوين لجنة فقهية لتأليف ذلك، وعهد إلى خيار العلماء والفقهاء في ذلك الزمن هذه المهمة، فنشط الشيخ القاضي أحمد بن عبدالله القاري لهذه المهمة العظيمة، وألف كتابه (مجلة الأحكام الشرعية)، إلاّ أنّه عين في عام (1350ه) رئيسا للمحكمة الشرعية الكبرى ب(مكةالمكرمة)، فانشغل بالعمل عن طباعتها وإخراجها، وتوفي -رحمه الله- قبل إصدارها بحلتها النهائية، فقيض الله تعالى الشيخ الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان -عضو هيئة كبار العلماء- لتحقيقها وإخراجها بداية هذا القرن، وهي تعد مصدراً ومرجعاً شرعياً للعلماء والفقهاء والقضاة، وذات فائدةٌ عظيمةٌ للقضاة والمفتين، إذ لا غنى عنها عند الرجوع للأحكام الفقهية. وقد جعل مجلته حذو مجلة الأحكام العدلية العثمانية مراعياً ترتيب الموضوعات وفق ترتيب الحنابلة، مضيفاً إليها كتاب الوقف، وقد استخلصها من الكتب المعتمدة في المذهب الحنبلي، كما استخلص مجموعة من القواعد الفقهية من كتاب القواعد لابن رجب الحنبلي، واشتملت على (2382) مادة، وواحد وعشرين كتاباً، ويعلق مغربي على هذه التجربة المتفردة مفيدا بأن هذا العمل الجبار يضطلع به عادة جماعة من أفاضل وكبار أهل العلم وكل منهم يختص بنواحٍ معينة، ويتفرغ كل عالم وفقيه لجانب فقهي واحد كأن يختص أحد بأمور التجارة والبيع والشراء بمختلف أنواعه، وآخر في العقار والشركات والمسائل الأخرى. تقويم المجلة وعلق العالمان الفاضلان الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان والدكتور محمد إبراهيم أحمد علي اللذان قاما على مراجعة وتحقيق مجلة الأحكام الشرعية، مبيّنان أنّ الملك عبدالعزيز -رحمه الله- اعتزم تأليف لجنة من خيار العلماء المتخصصين لوضع مجلة للأحكام الشرعية تستقي الأحكام من جميع المذاهب الشرعية بما تراه في صالح المسلمين مدعمةً بأقوى الحجج، ولكن الملك تيقن أن هذا الأمر يقتضي الوقت الطويل والجهد الكبير، فاكتفى بتعيين المراجع الشرعية التي يرجع إليها في القضاء بين الناس، وبين المحققان تحت عنوان (تقويم المجلة)، أنها أول عمل علمي حديث في الفقه الحنبلي، حيث استطاع المؤلف من خلاله صياغة المواد والأحكام وحبك عباراتها في صورة يمكن اعتبارها قاعدة قانونية. وأكدا أنّ المجلة بما لها وما عليها تجربة رائدة في المذهب الحنبلي وعمل جليل في الفقه الإسلامي، والمجلة سفر ضخم يتكون من (679) صفحة، ويحتوي على (21) كتاباً شملت الأحكام الشرعية للبيع، وأنواعه، وأحكامه، والإجارات وأنواعها، والوديعة، والحجر، والإكراه، والصفح، والإبراء في الشركات، وفي القضاء، والشهادة، وخلافها، وكل كتاب من هذه الكتب يحتوي على فصول كثيرة صيغت فيها مواد الأحكام الشرعية في تفصيل وتحقيق عظيمين، وبلغ مجموع المواد التي صيغت فيها الأحكام (2382) مادة. ويذكر أن المجلة الشرعية التي ألفها الشيخ أحمد بن عبدالله القاري -رحمه الله- كانت حبيسة خزانته حتى توفي -رحمه الله-، فقام أخوه العالم الفاضل الشيخ حامد بن عبدالله القاري بحفظها والمحافظة عليها حتى آن لها الظهور، وقامت "تهامة" بطبعها وإخراجها للناس ينتفعون بها في كل زمان. وفاته توفي الشيخ رحمه الله في مساء يوم الأربعاء التاسع من شهر شعبان عام 1359ه بمدينة الطائف، وفقاً لما ذكرته صحيفة أم القرى في عددها رقم (821) وذلك بعد معاناة مع المرض، ودفن في المقبرة الملاصقة لمسجد ابن عباس، ولم يكن حينها قد بلغ سن الخمسين من عمره، وعلى الرغم من صغر سنه إلا أن موروثه العلمي وإنتاجه الفكري ودروسه المحفوظة والمدونة لدى طلابه في مكةالمكرمة ومدينة (جدة) وكافة مناطق وبلدان المملكة، ظلت علامة بارزة وفارقة تميزه عن بعض معاصريه وأقرانه، حيث عرف -رحمه الله- بانقطاعه لخدمة العلوم الشرعية والقضاء وهو ما حفظه له تلاميذه الذين تقلد العديد منهم مناصب رفيعة في السلم القضائي والتعليم بشقيه العام والعالي. طلاب العلم في المدرسة الصولتية تولى القاري القضاء في جدة مدرسة الفلاح التي عمل بها القاري طلاب في المدرسة الصولتية