أنا مستلقية على أرجوحة من الشباك، في شرفة غرفتي بفندق ميرادور، مذكرتي مفتوحة فوق ركبتيّ، تسطع الشمس فوقها، ولا أنا أملك أي رغبة للكتابة. الشمس، الأوراق، الظلال، الدفء، جميع هذه الأشياء حية إلى درجة تخمد كل حواسي، وتهدأ خيالي. هذا هو الكمال. لا حاجة للوصف، لا حاجة للحماية. هذا أبدي، إنه يغمرني، إنه كامل. السكان الأصليون هنا لم يتعلموا بعد من الرجل الأبيض اكتشافه للسفر بعيدًا عن الحاضر، قدرته العلمية على تحليل الدفء إلى مواد كيميائية، قدرته على تلخيص البشر إلى رموز. اخترع الرجل الأبيض النظارات، والتي تجعل الأجسام تبدو قريبة جدًا أو بعيدة جدًا، اخترع الكاميرات، المناظير، اخترع الأجسام التي تضع الزجاج بين الحياة والرؤية. إنها الصورة التي يسعى للحصول عليها، وليس النسيج، الدفء الحي، القرب البشري. هنا في المكسيك لا يرى السكان سوى الحاضر. هذه الطائفة من الأعين والابتسامات تثير النشوة. في نيويورك يبدو الناس وكأنهم لا يريدون رؤية بعضهم. فقط الأطفال هم من ينظرون بفضول ودون خجل. يا لتعاسة الرجل الأبيض، يتجول ضائعًا في تملّكه المغرور لبعد تصبح فيه الأجسام غير مرئية للعين المجردة، وكأن التحديق فعل وقح. هنا أشعر بأنني متجسدة وأشعر بحيازة جسدي بشكل كامل. إقليم جديد من اللذة. خضرة أوراق الشجر ليس كأي خضرة؛ إنها أعمق، إنها مطلية ورطبة. الأوراق أثقل وأكثر امتلاءً، الأزهار أكبر. تبدو مرسومة بالعصارة، تبدو أكثر حيوية، وكأنها لا تحتاج إلى أن تغلق ثانية في وجه الصقيع، أو حتى في وجه ليلة باردة. وكأنها لا تحتاج إلى النوم. على الشاطئ جاءت نحوي طفلة تركت مجموعة من الأطفال وفي يدها قارب صغير مصنوع من الأصداف. أرادت أن أشتريه منها. كانت تبدو أصغر من عمرها، بالضبط كمجسم مصغر لطفلة، كما هم الأطفال المكسيكيون دائمًا، كائنات مشكّلة بنعومة وبأيادٍ وأقدام صغيرة وأعناق ضامرة، لينة، هشة، وجذّابة. في كل مكان توجد غيتارات. حالما يبتعد غيتار ما، يأخذ مكانه صوت غيتار آخر، لتستمر هذه الشبكة من الموسيقى التي ترتفع بالإنسان في رحلة تنقذه من الحزن، وتعلقه في مملكة من الاحتفالات. احتفالات. حفلات. عطلات. تنفجر بالألوان والسعادة. احتفالات جماعية. طقوس. أعياد هندية وأعياد كاثوليكية. أي سبب يكفي هنا لإقامة احتفال. حتى الفقراء يعرفون كيف يتأنقون في مدينة من قصاصات الأوراق الملونة الراقصة في الريح. ماذا حدث للفرح في أمريكا؟ الأمريكيون في الفنادق يقضون كل وقتهم في الشرب قرب أحواض السباحة. الرجال يذهبون لصيد طائر النحام، يطلقون عليه النيران للمتعة. أو يذهبون لاصطياد الأسماك ويزنون غنائمهم ليربحوا الجوائز. أعين المكسيكيين مليئة بالحياة الملتهبة. يجلسون القرفصاء وبجانبهم سلال مليئة بالفواكه والخضروات مرتبة بحس تصميم جميل، بفن زخرفي متناغم. أوتار من الفلفل الحار معلقة بالأعمدة الخشبية. رائحة الزعفران، وإيقاعات شاغال الملونة، ملابس الغسيل المعلقة كلافتات تتدلى من النوافذ، وفي الحدائق. الحرارة تسقط من السماء كلحاف من الصوف. حتى الليل يأتي دون أن تتغير درجة الحرارة، أو نعومة الهواء. بإمكانك أن تثق بالليل. هنالك إيقاع للطريقة التي تحمل بها النساء جرار الماء على رؤوسهن، وللطريقة التي يمشين بها ويوازنّ ثقل الجرار. هنالك إيقاع للطريقة التي يحملن بها أطفالهن ملتصقين بشالاتهن، وسلالهن ممتلئة بالفواكه. هنالك إيقاع للطريقة التي يسحب الصيادون بها شباكهم في المساء، وللطريقة التي يسير بها الرعاة خلف أغنامهم وأبقارهم. في الليلة الأولى استحممت واغتسلت بسرعة، خشية أن لا يستمر جمال الليل ونعومته المخملية، كنت أخشى إن تأخرت، تحوّله إلى برد وإلى قسوة. السماء الفسيحة تبدو كلوحة قماشية غير محدودة، لا يستطيع البشر جلب الصور لها من ذاكرتهم، لأنهم سيكونون خارج النطاق مع البحر اللانهائي، والسماء اللانهائية والنجوم، والتي تبدو أقرب وأكبر. إذن الذاكرة غائبة، متلاشية. أستلقي الآن على الكرسي مسترخية لأراقب مشهد الغروب والفصل الأول لليل. الطبيعة قوية جدًا ومخدرة لدرجة إبادتها للذاكرة. النادي الليلي في الفندق، يستضيف فرقة جاز تعزف مع عدد من الراقصين، ولأن همس البحر يحمل بعض النغمات الزائدة بعيدًا، فإن نقرات الطبول تصبح أكثر روعة، كقلب ضخم يستمر بالنبض. الجاز موسيقى الجسد. الأنفاس القادمة من النحاس. إنها أنفاس الجسد، وأنفاس الأوتار، العويل والأنين أصداء لموسيقى الجسد. إنه اهتزاز الجسد الذي يتموج من الأصابع. إنه اللغز المحجوب، لا يعرفه إلا من يعزفون الجاز، كأنه لغز حياتنا السريّة. ولا نعطي للآخرين إلا ارتجالًا هامشيًا منه. أشعر بأنني في وطني هنا في المكسيك، لأنني تعلمت الإسبانية عندما كنت في الخامسة من عمري، هذه الحيوية تذكرني بطفولتي في إسبانيا، الغناء يذكرني بخادمتنا كارمِن، التي كانت تغني طوال اليوم خلال عملها. الفرح في الشوارع، رقص الأطفال، الزهور على الشرفات، الجدران البيضاء المغسولة، النوافذ الخضراء، وفرة الزهور، حيوية المارة، كل هذا يذكرني ببرشلونة وهاڤانا. أدركت أنني بعد أن قضيت سنوات من حياتي في أمريكا، تعلمت أخيرًا أن أخفف عاداتي وطريقة لباسي. مازلت أتذكر ذلك لأن أقربائي الكوبيين أرسلوا لي ذات مرة بعض الملابس -والملابس في كوبا كانت كما في المكسيك، احتفاليّة الطابع-، ارتديت فستانًا مخمليًا أحمرَ وذهبت لعملي كعارضة عند أحد الرسامين، لا أستطيع أن أنسى التعبير الذي طرأ على وجهه عندما رآني أرتدي ذلك الفستان عند التاسعة صباحًا. السير بوزن ثقيل على حذاء من الكعب العالي، هو ما تفعله الكوبيات والإسبانيات أيضًا، ابتساماتهن العريضة، هدايا قهر الحزن والقلق، النزعة الدائمة للسعادة، كل هذا مألوف بالنسبة لي ودافئ ومريح.