جاءت المخاوف والبلبلة واسعة النطاق حول انفلونزا الطيور وأخطارها الفعلية والمحتملة لتسلط الضوء مجددا على معضلة سوق الدواء العالمي، هذه المعضلة التي تدفع البشرية فاتورة باهضة لها، إنما بنعومة ودون ضجيج، بل ودون ادراك الكثير من العامة. وهذه الفاتورة لا تترجم فقط في دفوعات نقدية متعاظمة تسددها الحكومات وعامة الناس ، بل كذلك في تداعيات صحية تقترب بعض حالاتها من صورة الكارثة. ومن لديه بعض الوقت للوقوف على بيانات شركات الأدوية الرئيسية في العالم، كما هي منشورة حاليا في مواقعها على شبكة الأنترنت، سيجد أرقاما فلكية في الأرباح الصافية، وأكثر منها تلك المصنفة ضمن التوسع الأفقي، بل تكاد تفوق ميزانية بعض دول آسيا وأفريقيا. وفي الولاياتالمتحدة، على سبيل المثال، ظلت شركات الأدوية تحقق النسبة الأعلى من الأرباح بين كافة الصناعات الأخرى ، وذلك بعد احتساب نفقات البحوث والتنمية وكافة النفقات الأخرى. وقارن هامش ال 17٪ من الأرباح الذي حققته أكبر عشر شركات أميركية لصناعة الدواء في العام 2002 بمتوسط ال 3,1٪ الذي حققته أكبر خمسمائة صناعة في ذلك العام، طبقا لمجلة «فورشن». وفي العام 2003 هبطت صناعة الدواء للمرة الأولى هبوطاً طفيفاً من المركز الأول إلى المركز الثالث فيما يتصل بالأرباح، لكن أرباحها ظلت كبيرة جدا بالأرقام المطلقة. وثمة عوامل عديدة تقف خلف هذا التوسع الجنوني في صناعة الدواء على الصعيد العالمي، منها سهولة تراخيص الإنتاج وعدم الالتزام بمبدأ الابتكار كشرط للحصول عليها، ومنها الانفتاح الدرامي للاسواق، وسهولة تسويق أدوية الشركات الكبرى في العالم الثالث دون ضغوط جمركية، حيث تحميها قوانين التجارة العالمية. وهناك سبب ثالث يتمثل في الانتشار المتزايد للأمراض الفيروسية المعدية وأمراض الاكتئاب، وتلك الناجمة عن العادات الغذائية الضارة. ويجب ملاحظة أن القدر الأعظم من الإنتاج الجديد لصناعة الدواء ليس من العقاقير الجديدة، بل مجرد تغييرات محدودة لعقاقير متواجدة أصلا في السوق ،ولذا يطلق عليها عقاقير مقلدة أو بديلة. وأغلب العقاقير الأكثر مبيعاً اليوم لها أصل يرجع إلى ثمانينات القرن العشرين أو حتى ما قبل ذلك. وعلى سبيل المثال، فإن العقار الأكثر مبيعاً في العالم وهو عقار «ليبيتور» من إنتاج شركة فايزر، هو الرابع من ستة عقاقير من ذات النوع تستخدم لتخفيض نسبة الكولسترول في الدم. وتوجد الآن مجموعات كاملة من العقاقير المقلدة أو البديلة، وليس هناك من الأسباب الواضحة ما يجعل المرء يرى أن أيا منها أفضل من الآخر. وفي الأعوام الستة منذ 1998 وحتى 2003، صنفت إدارة الأغذية والأدوية في الولاياتالمتحدة (FDA) 78٪ من 487 عقارا طرحت في الأسواق في تلك الفترة على أنها ليست أفضل من الأدوية المتواجدة أصلا. وفضلاً عن ذلك، فإن 68٪ من تلك العقاقير لم تكن حتى من مركبات كيميائية جديدة، بل كانت مجرد عقاقير قديمة في أشكال أو تركيبات جديدة. وحيث إن الأهداف الربحية هي الحاضر الأكبر في مقاربة سوق الدواء العالمي، فإن كثيراً من الشركات قلما تتفحص بعمق طبيعة التفاعلات العكسية المحتملة للمنتج الدوائي وتأثيره على سلامة المستهلك.وعلى هذا فإن الأطباء المُعالِجين يواجهون على نحو يومي أسئلة حول أي من العقاقير ينبغي عليهم أن يصفوه، لكن أساس البينة التجريبية، التي يستند الطبيب إليها في اتخاذ هذا القرار، ضعيف إلى حد كبير. وثمة حقيقة متلازمة مع مسألة طرح العقاقير، وهي أن كافة العقاقير، علاوة على الفوائد التي قد تحققها، تلحق الضرر ببعض المرضى. ومن هنا فإن الموافقة على استخدام عقار ما يتطلب الحرص في وزن وتقدير التأثيرات المرغوبة وغير المرغوبة.وتتفاوت هذه الأحكام وفقاً للجهة التي تصدرها، سواء كانت شركة أدوية تستفيد من المبيعات، أو مريضاً يواجه خطر التعرض لتأثيرات عكسية خطيرة. ومن المعروف أن ما يزيد على نصف العقاقير الحاصلة على موافقة تتسبب في إحداث تفاعلات عكسية خطيرة لم تكن معروفة وقت حصولها على موافقة الجهات التنظيمية أو الرقابية. وطبقاً لبعض التقديرات، يموت في الولاياتالمتحدة في كل عام نحو مائة ألف مريض بسبب تفاعلات عكسية خطيرة للعقاقير. وإذا ما صحت هذه التقديرات فإن الموت بسبب العقاقير يحتل المركز الرابع أو الخامس بين الأسباب الرئيسية للوفاة (وفقاً للأسلوب المستخدم في تقدير معدل الوفيات).فضلاً عن ذلك فإن تكاليف المستشفيات السنوية المباشرة المترتبة على التفاعلات العكسية للعقاقير تصل إلى مليارات الدولارات، وهذا التقدير لا يشمل المعاناة التي تتسبب فيها هذه التفاعلات ، والتي قد لا تؤدي إلى الوفاة أو دخول المستشفى . وفي حادثة لها دلالتها، سَمحت (FDA) في آذار مارس من العام 2001 لشركةِ التكنولوجيا الحيويةَ (NitroMed) بالشروع في تجربة طبية شاملة لما وصف بأنه « العقار العرقي الأول» . وكانت التجربة في حد ذاتها الأولى على الإطلاق التي « تقتصر على الرجالِ والنِساءِ من السودِ الذين يعانون من قصور بالقلب ». كان العقار (BiDil) مصمما لعلاج أَو منع قصور القلب الاحتقاني من خلال رفع مستويات أكسيد النتريك المنخفضة أو المستنفدة في الدم. ولقد كان مصمما في الأصل لتستفيد منه قاعدة سكانية عريضة، ولم يكن للعرق أو الجنس صلة بتوظيف هذا العقار. لكن الدراسات السريرية المبكرة لم تكشف عن أية نتائج ذات قيمة، وصوتت اللجنة الاستشارية التابعة (FDA) بأغلبية تسعة أصوات مقابل ثلاثة ضدّ الموافقة على العقار. بيد أن العقار (BiDil) ظهر فجأة من جديد كعلاج لفئة عرقية بعينها. ومما يزيد من أهمية هذا الحدث أنه بالتركيز فقط على السود، فقد أصبحت التجارب الطبية الجارية الآن بلا أهمية تذكر فيما يتصل بالنتائج المقارنة وفقاً للاختلافات العرقية المزعومة بين البشرِ. والحقيقة أن شركات الأدوية الكبيرة تنفق قدراً ضئيلا من الأموال على البحوث والتنمية ، أقل كثيرا مما تنفقه على التسويق والإدارة، بل وحتى أقل كثيرا مما يتبقى لها من أرباح. ففي العام 2002 على سبيل المثال، حققت أكبر عشر شركات أميركية في مجال صناعة الدواء مبيعات بلغت 217 مليارا من الدولارات. وطبقاً للأرقام التي أعلنت عنها هذه الشركات فقد أنفقت 14٪ من عائدات المبيعات على البحوث والتنمية، لكنها أنفقت 31٪ على التسويق والإدارة. وتجمع أغلب شركات الدواء بين تكاليف التسويق والإدارة في تقاريرها السنوية، لكن إحدى الشركات صرحت بأن 85٪ من صافي عائدات مبيعاتها ذهب للتسويق. وتنكر صناعة الدواء في تصريحاتها العامة هذه الحقيقة من خلال احتسابها لأربعة أنشطة فقط باعتبارها من أنشطة تسويقية ، هي زيارات المبيعات للأطباء، وقيمة العينات الدوائية المجانية، والدعاية المباشرة الموجهة إلى المستهلك، والإعلان في المجلات الطبية. لكن الحقيقة أن ميزانية التسويق تشمل ما يزيد كثيرا على هذه الأنشطة الأربعة، وربما كانت جهة الانفاق الأكثر أهمية هي «تعليم وتدريب» الأطباء (أو تلقينهم كيفية وصف المزيد من الأدوية والعقاقير). وفي نموذج للمعضلات الدائرة، شهدت الشهور الأخيرة جدلا واسعا حول العقاقير المستخدمة في علاج الاكتئاب لدى الأطفال والمراهقين. ومع أن عددا قليلا من العقاقير تم التصريح باستخدامها في هذا المجال ، إلا أن معدلات وصف هذه العقاقير للمجموعة العمرية التي يقل سنها عن 18 عاما قد ارتفعت بنسبة 60٪ تقريبا خلال العقد الماضي، مع تعاطي ما يزيد على مليون من الأطفال والمراهقين لما يسمى ب«مانعات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية» (SSRI). ولكن من ناحية أخرى، فقد أدت المخاوف بشأن أمان استخدام هذه العقاقير وأعراضها الجانبية بين الأطفال والمراهقين، بما في ذلك ارتفاع معدلات الانتحار، إلى إثارة انتباه الجهات الرقابية والتنظيمية في العديد من الدول.وبعد مراجعة كل التجارب ذات الصلة التي أجريت على الأطفال، فقد أكدت هيئة مراقبة منتجات الرعاية الصحية والأدوية في المملكة المتحدة، أن مخاطر استعمال كل مانعات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية (باستثناء الفلوكسيتين)، قد تجاوزت الفوائد المرجوة منها، وأن هذه المنتجات لا ينبغي أن توصف كعلاج جديد لمرضى الاكتئاب الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما. ومنذ وقت قريب، بادرت (FDA) إلى وضع تحذير على كل بطاقات العقاقير المضادة للاكتئاب، لكنها عجزت عن تقييد استخدام أي من هذه العقاقير.ولقد حدث هذا بعد تفويض من قبل الإدارة بإعادة تحليل بيانات الأمان الخاصة بكافة التجارب التي أجريت على أحدث العقاقير المضادة للاكتئاب، حيث أظهرت نتائج إعادة التحليل تزايد خطر الميل إلى الانتحار (سلوك انتحاري واضح، أو التفكير في الانتحار) وتزايد خطر السلوك العدواني الناشئ عن العلاج أو الاهتياج بين أولئك الذين عولجوا بهذه الأدوية. وفي مثال آخر ، يمكن التذكير بانه حين تم تقديم الفئة الجديدة من مسكنات الألم التي أطلق عليها «مثبطات ال كوكس-2»، لم تكن الجهات التنظيمية، و لا الأطباء، و لا المرضى، يدركون أن هذه العقاقير قد تتسبب في إحداث أزمات قلبية وصدمات. ولقد عانى عشرات الآلاف من المرضى الأبرياء، وربما ما يزيد على هذا، من التفاعلات العكسية لهذه العقاقير قبل أن يتم سحب أول عقارين من هذه الفئة من الأسواق. وهناك صعوبة خاصة تتمثل في إرجاع تفاعل عكسي إلى عقار بعينه إذا ما كانت الواقعة الطبية شائعة بين المجموعة العمرية للمستخدم أو بين المصابين بالحالة الخاضعة للعلاج. ولأن خطر الإصابة بالأزمات القلبية مرتفع بين الأفراد الأكبر سنا، فقد استغرق الأمر ستة أعوام للربط بين «مثبطات ال كوكس-2» و ارتفاع خطر الإصابة بالنوبات القلبية إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف بين العديد ممن كانوا يعانون من آلام في المفاصل تتطلب العلاج بمسكنات الألم. وإن ما يضاعف معضلة سوق الدواء في العالم اليوم هو بيئة الأمراض كثيرة التشعب والتعقيد، فقد أصبحت العديد من البلدان مبتلاة بعبء مرضي مضاعف، و أصبح لزاماً على الدول النامية التي لا زالت تكافح سوء التغذية وأمراضا مثل الملاريا، والسل (الدرن الرئوي)، وانفلونزا الطيور والإيدز ، أن تكافح علاوة على ما سبق تفشيا لأمراض القلب والأوعية الدموية، وداء السكري، والبدانة، فضلاً عن معدل مرتفع للغاية من حالات الإصابة بضغط الدم العالي وارتفاع نسبة الكولسترول في الدم. إن العديد من الدول، خاصة النامية منها، تواجه اليوم عواقب التغييرات الكبيرة التي طرأت على أسلوب الحياة: تعديلات في الأنظمة الغذائية، وانخفاض مستويات ممارسة الأنشطة البدنية، وزيادة في استهلاك التبغ. وعلى هذا فليس من المدهش أن تتسبب أمراض غير معدية، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية، والبدانة، وداء السكري، والسرطان في قتل حوالي 33 مليون نسمة حول العالم في كل عام، وتتسبب في حوالي 60٪ من إجمالي الوفيات. والحقيقة أن هذه الأمراض مسؤولة عن 50٪ تقريبا من عبء الأمراض على المستوى العالمي. ومن المتوقع بحلول العام 2020 أن يرتفع إسهام هذه الأمراض لتصبح مسؤولة عن 73٪ من كل الوفيات و60٪ من عبء الأمراض على مستوى العالم. وعلاوة على ذلك فإن أكثر من 60٪ من هذه الوفيات تتركز في العالم النامي، حيث أصبحت الأمراض غير المعدية تصيب ضحاياها في مرحلة عمرية أصغر على نحو متزايد. كذلك، تؤدي الضغوط التي تفرضها المدنية المعاصرة إلى تفاقم الأمراض النفسية، فلسنوات عدة كانت العقاقير المضادة للاكتئاب أكثر فئات العقاقير تحقيقا للربح في كثير من الدول، فمضادات الاكتئاب هذه لا تستخدم لعلاج حالات الاكتئاب الشديد، بل إنها تستخدم أيضا وعلى نطاق واسع لعلاج أنماط كثيرة من الخلل، كالقلق الاجتماعي، وتوتر ما بعد الإصابات، والقلق العام، والوسواس القهري، وأنواع الخلل المتعلقة بالغذاء، والاضطرابات الجنسية، واكتئاب ما قبل الطمث لدى النساء. وكثير من حالات الخلل هذه كان يعتقد ذات يوم أنها نادرة، بل وحتى لا وجود لها. ولكن بمجرد أن تنتج إحدى شركات الصيدلة «علاجاً» لخلل نفسي ما، فإنها تحقق ربحاً ماليا خياليا من خلال حرصها على جعل الأطباء «يشخصون» ذلك الخلل أو العلة بأكبر قدر ممكن. وقد يتسبب هذا في تحويل ما كان ينظر إليه ذات يوم باعتباره انحرافاً إنسانياً بسيطاً ، كالخجل أو الضيق أو الانقباض ، إلى مشكلة تتطلب تدخل الطب النفسي. وكلما زاد عدد من يتم إقناعهم بأنهم يعانون من خلل يمكن علاجه بالأدوية، كلما ارتفعت مبيعات شركات صناعة الدواء. أخيرا، فان شركات الأدوية وجدت إحدى ساحات انتعاشها في التكاثر المضطرد للأمراض الفيروسية المعدية مثل الفيروس المسبب لمرض الإيدز (نقص المناعة المكتسبة) لدى البشر، والإيبولا لدى البشر والغوريلا، وفيروس غرب النيل، وانفلونزا الطيور، والفطريات وحيدة الخلية لدى الحيوانات البرمائية، وحمى الكلاب لدى سباع البحر. وعلى الرغم من ذلك، فالأمراض المعدية الجديدة ليست نادرة بالمطلق، بل إنها نتاج طبيعي للانتشارالجغرافي المرتبط بتغييرات بيئية واسعة النطاق.إنها جزئيا من صنع البشرية وطموحاتها غير السوية. إن الأمراض تتكاثر، و شركات الأدوية تبتعد عن الإبداع والابتكار يوماً بعد الآخر. فهي تعيد تركيب ذات العقاقير القديمة، فتحصل على براءات اختراع وحقوق بيع شاملة جديدة، وتعتمد على مهاراتها في التسويق لإقناع الأطباء والمرضى بأنها تصنع المعجزات. إن العالم معني بالدفاع عن سلامة وجوده عبر السعي الجاد للسيطرة على الأمراض، وإعادة توجيه صناعة الدواء، والبحث العلمي المرتبط بها، كي تغدو هذه الصناعة أكثر استجابة للتحديات القائمة.