أنبأ تجاذب القوى السياسية المدينية في الأقاليم المختلفة للجزيرة العربية عن الإحساس بمعنى «الدولة»، فبينما كان الشريف حسين بن علي مشغولاً بثورته على الأتراك؛ كانت نجد جذلى بفتوحات أميرها عبدالعزيز بن سعود (1293 - 1373ه/ 1876 - 1953م) ومحاربته لخصومه السياسيين، وإرسائه للعلامات الأولى لدولته، ولا سيما «توطين البادية» فيما عُرف، تاريخياً، بحركة «الإخوان» التي أنشئت في عام 1330ه/1912م، وكان محمد بن علي الإدريسي (1293 - 1341ه/ 1876 - 1923م) في جنوب الجزيرة العربية قد أنشأ إمارته الصغيرة في صبيا، وشرع، بعد أن أجلى الأتراك، يقيم أضرباً أولى للإصلاح والإدارة، في صورة واضحة قُصد منها الاستقلال عن هيمنة الدولة العثمانية التي كانت في تلك المدة، في الهزيع الأخير من تاريخها، فأنشأ الشريف حسين بن علي، نتيجة عدد من الأحوال السياسية، يغازل سُدَّة الخلافة، ممنياً نفسه بحلم دولة مشرقية كبرى تشمل الجزيرة العربية بكاملها، وبلاد الشام والعراق، وكان لإعلانه نفسه «ملكاً» على الحجاز أولى الدلائل على فكرته تلك، وساقه ذلك الحلم إلى الاصطدام بالقوى السياسية في الجزيرة العربية، وبالأخص أمير نجد، في تلك المدَّة، عبدالعزيز بن سعود، الذي بات يشعر بصعوده التاريخي، وتوفره على قوة «الإخوان» الضاربة في الصحراء، إضافة إلى جملة من الدواعي الاقتصادية والسياسية التي جعلته يقرأ كذلك ملامح دولته الكبرى التي حلم بها، وها هو ذا على مرمى حجر منها. بضمّ الحجاز عام 1343ه/ 1924م إلى حظيرة الدولة السعودية، اختلف وضع الجزيرة العربية، وعرفت معنى «الدولة» التي كانت نوياتها الأولى تضرب في أعماق الحجاز، في الإدارة الحكومية، والمجالس البلدية، وشبكة الاتصالات، ورموز السلطة كالجيش والشرطة التي تجذَّرت فيه منذ العهد العثماني، وكان طبيعياً أن يضفي كل ذلك معنى رمزياً بدا واضحاً في إطلاق لقب «مملكة» على الحجاز، وأن يكون الجالس على كرسي الحكم «ملكاً»، وأن تضفى معالم الدولة على السلطة وأدواتها في صورة لم تكن معروفة قبل ذلك. ولعلّ من اللافت للنظر أن يكون دخول الأجزاء العظمى من الجزيرة العربية إلى معنى «الدولة الحديثة» في عام 1924م، العام الذي هوى فيه حلم الخلافة، وسقطت فيه الدولة العثمانية، وكأن الجزيرة العربية التي ولد فيها شكل «الخلافة» تأبى إلا أن يُولد فيها شكل «الدولة الوطنية الحديثة» غير بعيد عن حدث «الخلافة»! كان مولد «الدولة» الذي تم بضم الحجاز، حدثاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً أعلن القطيعة مع «ما قبل الدولة»، وخاصة النزعات البدوية التي كانت تهتبل الفرصة للانقضاض على أي بادرة من بوادر الاستقرار المديني، نزولاً على شروط الاقتصاد البدوي القائم على الغزو والنهب، وكان من شروط الانتماء إلى معنى «الدولة» بث رموزها في جنباتها، ومن ثم إنشاء الملك عبدالعزيز في أثناء دخوله مكةالمكرمة صحيفته «أم القرى: 1343ه/ 1924م»، وتأسيسه «المجلس الأهلي: 1343ه/ 1924م»، ف«مجلس الشورى: 1345ه/ 1926م)، و«المعهد العلميّ السعوديّ: 1346ه/ 1927م»، و«إدارة المعارف العامة: 1344ه/ 1926م» و«المعهد العلمي السعودي: 1346ه/ 1927م»، وإرسال البعثات التعليمية الجامعية الأولى إلى الخارج (1346ه/1927م)، لتسهم بعد حين، في توسيع محيط الطبقة الوسطى التي ستسعى إلى بث ألوان من الإصلاح في أوصال الدولة والمجتمع. ويمكن القول: إنَّ مولد الدولة الحديثة في الجزيرة العربية دفع بها وبنخبها إلى الثقافة الحديثة التي لم يكن لها من أثر كبير قبل ذلك، ومن ذلك أن «علاقة الواقع الاجتماعي بمولد الثقافة الحديثة في المملكة العربية السعودية، تبدو جلية، في أن هذه الثقافة لم تتألف ولم تظهر إلا حين انتقلت هذه المنطقة من الوطن العربي، إلى وضع «الدولة» الوطنية المعاصرة، فلم تكن هذه المنطقة بحاجة إلى ظهور «المثقف الحديث» في ظل انتماء علاقات الإنتاج المادية والثقافية إلى قوى العصور المتأخرة. فبينما كان عدد من البلدان العربية يعيش تجربة الدولة الحديثة، بقواها الاجتماعية الجديدة، وأحوالها الاقتصادية القوية، ومؤسساتها السياسية والمدنية، كانت الجزيرة العربية مشدودة - بعلاقات إنتاجها البدائية وقراها الاجتماعية التاريخية - أنماط اجتماعية وثقافية لا تنتمي إلى العصر الحديث، ولم تظهر معالمها الأولى إلا مع إعلان الدستور العثماني (1326ه/ 1908م)، فإعلان الثورة العربية الكبرى (1334ه/ 1916م)، ثم ضم الحجاز إلى نجد وتوحيدهما، مع معظم أقاليم الجزيرة العربية، في المملكة العربية السعودية (1344 - 1351ه(/ 1924 - 1932م)». وكان من ملامح الانفصال عن الثقافة التقليدية، في صورتها «المسجدية»، أن يصدر ولمَّا يمض على دخول الملك عبدالعزيز إلى الحجاز نحو سنج، أول كتاب أدبي حديث في المملكة، بل في الجزيرة العربية، وهو كتاب «أدب الحجاز: 1344ه/ 1925م»، الذي أصدره محمد سرور الصبَّان (1316ه - 1391ه/ 1899 - 1972م)، وضم شعراً ونثراً لطائفة من الأدباء الحجازيين الشبّان، نزعوا في آثارهم تلك إلى الانتماء إلى المفهومات الحديثة في الأدب والفكر، وأعلَوا من قيم «الفردية» و«الحرية» التي هي بعض مخايل الفكر اللبرالي والنزعة الرومنسية التي كانت ذائعة في مصر وبلاد الشام والمهجر. وبينما تمثل الأدباء الشبان الذين ضم آثارهم هذا الكتاب آثار التيارات الفكرية والأدبية الحديثة - أنحوا باللائمة على ما بين أظهرهم من ألوان للثقافة القديمة التي كانت رائجة في الحجاز، بل شددوا من انتقادهم لتلك الثقافة، وبلغ من ذلك أن حمَّلها محمد سرور الصبَّان - كبير ذلك الجيل تبعة تأخر الحجاز وخروجه من التاريخ:« أقدِّم بين يدي القارئ الكريم صفحة فكرية وجيزة من شعر الشبيبة الحجازية ونثرها لهذا العهد، ولأول مرة في التاريخ الأدبي لهذه البلاد بعد فترة طويلة وقرون كثيرة قضى بها سوء الطالع لهذه الأمة ولهذا الوطن أن يكون علم الأدب فيها غريباً والأديب مبتذلاً طريد الأمراء وأعوانهم من الذين قالوا إنهم علماء. وكأن العلم كل العلم عند القوم قشور من الخلافات المذهبية والفروضات الفقهية وتعمُّق في فهم الخصومة القائمة والضرب المستمر بين زيد وعمرو، وأمَّا ما عدا ذلك من بقية العلوم الأدبية وغيرها فلغو والاشتغال بها عبث!. وخفوا يسيرون في ركب الشعر الرومنسي، والأفكار القومية التي طعموها من ثدي الثورة العربية الكبرى، وكانت الآثار الشعرية والنثرية التي انطوى عليها ذلك الكتاب حداً يفصل ما بين زمنين: زمن النهضة والتقدم، وزمن التقليد والانكفاء على الذات، فلم يكن من شأن أولئك إلا أن يصيخوا أسماعهم إلى واقع خُطى الثقافة الحديثة التي تأثَّل عودها في المشرق العربي والمهجر، وظهرت مخايلها فيما انتهجه أولئك الشبان الذين ألفت جمهرتهم طبقة جديدة تختلف عن النخب التقلدية في مدن الحجاز، فهم نتاج تكوين تعليمي أكثر انتماء إلى العصر، حيث اختلف معظمهم إلى المدارس الوطنية الحديثة في جدةومكةالمكرمة، وبخاصة مدرسة «الفلاح» التي أُنشئت في جدة عام 1323ه/ 1905م، وفي مكةالمكرمة عام 1330ه - 1912م، وبثت وغيرها من المدارس الوطنية في روع الناشئة أضرابا من المشاعر الوطنية والقومية، ودفعت بالمبرزين منهم إلى العب من حياض الثقافة الحديثة.