عرف عن كثير من شعراء الفصحى كتابتهم للقصيدة النبطية، ولكن هناك من شعراء الحداثة الجادين المعاصرين من حمل النفس الشعبي وهم الشعبوية، كما أن هناك من وظّف أبيات من الشعر الشعبي داخل النصّ الحداثي، وكذلك هناك من استخدم المفردة الشعبية ضمن القصيدة الحداثية، وحين نتمعّن في شعراء الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين الذين حملوا نفس الأجواء الشعبية نجد السعودي محمدالثبيتي(1373-1432ه/1952-2011م) -رحمه الله- فلو تمّعنا في قصيدة "تغريبة القوافل والمطر" لوجدناها تحمل ذلك النفس الشعبي؛ ولنقرأ مقتطفاً منها: وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ المُسْتَطَابَةْ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ مَمْزُوجَةً بِاللَّظَى وقَلِّبْ مواجعنَا فوقَ جَمْرِ الغَضَا ثُمَّ هَاتِ الرَّبَابَةَ هاتِ الرَّبَابةْ: أَلاَ دِيمَةً زَرقاء تَكتَظُّ بإلدِّمَا فَتَجْلُو سَوادَ الماءِ عَنْ ساحِلِ الظَّمَا كما أن هناك من شعراء الفصحى الحداثيين من ضمّن نصوصه أبيات من الشعر النبطي كما أسلفت، ولعلنا نستشهد بقصيدة "أيها الولد البدوي" للشاعر سليمان الفليّح (1950-2013م) -رحمه الله- الذي قال مضمّناً قصيدته البيتان الأولان للشاعر النبطي محمد العبدالله العوني (1836-1922م) -رحمه الله- وهي تحوي عدد من الألفاظ الشعبية، وقد نشرتها الشقيقة مجلة اليمامة في العدد 916 في1/12/1406 ه: أيها الولد البدوي إئتنا بالربابة .. وغن لنا "ياطويل البقا" ماينحي الكآبة: راكب فوق حر يذعره ظله مثل طير كفخ من كف قضابه ماحلى فزته والخرج زاه له والمبارك على متنه تثنى به نقتسم تمرتنا . . ونقاسم كل شقي بهذا الزمان عذابه ونختط مااختط بالسيف أسلافنا بالكتابة ونردد معاً : "من خط درباً واضحاً للمعالي لازم على الشدات تضرب ركابه" كما نجد من شعراء الحداثة من ضمّن قصيدته مفردات شعبية، ومنهم عبدالله الصيخان (و1956م) الذي يعدّ من أهم شعراء الحداثة الذين برزوا في الثمانينات الميلادية، كما نلاحظ عدداً من قصائده تحوي ألفاظاً شعبية استشهد بها عدد من أصحاب الرسالات العلمية اطلعت عليها بنفسي، حيث وضعت ضمن عناوين تتحدث عن توظيف اللفظ الشعبي في النص، ومن ذلك ما ضمّنه في قصيدته "هواجس في طقس الوطن": قهوة مرّة وصهيل جياد مسومة، والمحاميس في ظاهر الخيمة العربية .. راكة في الرمال وفي البال، كيف المطاريش إن زهّبوا للرواح مطيّ السفر؟ وكيف هي الأرض قبل المطر؟! كنت أقرأ تلك النصوص السعودية، وذلك التوظيف للموروث الشعبي، للشاعر والكاتب والمترجم العراقي فضل خلف جبر (1960م)، وقد عرفته جاداً في كتابة النصوص الحديثة عبر دواوينه: حالما أعبر النشيد - بيروت 1993م، آثاريون - عمّان 1997م، من أجل سطوع الذهب - المنامة 2001م، طق إصبع – بيروت 2011م، لكن فضل خلف في ديوانه "مدري ياهو – تباريح ما بعد وقوع الفأس في الرأس" ! الصادر عام 2013م يوظّف نظرية قد تبدو غريبة بعض الشيء، فلا هي من ضمن النفس الشعبوي لدى الثبيتي، ولا من ضمن توظيف الأبيات الشعبية لدى الفليّح، ولا من ضمن توظيف المفردات الشعبية لدى الصيخان، بل هي توظيف الحشو الشعبي الذي لا معنى له في اللهجة المحكيّة إلى أن يجعل له معنى ورمزاً إيحائياً، وليس مجرّد نقاط مكان تلك الكلمات الدارجة، كما عند البحريني علي الشرقاوي (و 1948م) في قصيدة "معيوف صاحب النخلة" من مجموعة "مائدة القرمز": بلد يابلد الخرائط واسعة بقراك وترعاك عين البنك وصمت الفراغ الذي ... وغسيل الدماغ الذي ... والذي والذي .. وضيّعت العدد ! بل إن فضل خلف يوظّف تلك المفردات التي هي في المفهوم الشعبي مجرّد حشو إلى مفردات لها معنى عند توظيفها في نصوصه الفصيحة، وهي نصوص ساخرة كتبها على غير عادته في دواوينه السابقة، هذا إذا تجاوزنا نصّه المشابه لنص الشرقاوي الذي جاء بعنوان "طرقتك ياباب" : وكنتُ كلّما طرقتك، ياباب كنتُ كلّما طَرقتك ... كنتُ كلّما ... كنتُ ... أشعرُ كأن داخلي يكادُ يخرجُ وخارجي يكادُ يدخلُ وأنا أمسكُ بعروتك ضارعاً كمأزومٍ يقصدُ باب الحوائج ! فهو يوظّف المفردات والجمل الشعبية المتداولة في العراق الشقيق، ولكن لفت نظري مفردة "شِسْمَه" التي يكررها كثير من الشعوب العربية التي تقع أراضيها على ضفاف الخليج العربي وما جاورها، نقرأ ذلك في قصيدة "حكاية الحاج شمسه العراقي": ليس مهمّاً من يكون الحاج شِسْمَه العراقي والمهم أنه من عشيرة البو شِسِمْها المعروفة رجلٌ في مقتبل العمر قد يكون خمسينياً أو ثمانينياً على الأرجح إلتقيتُهُ هنا أو هناك لا فرقَ، لا فرقَ إطلاقاً فكلّنا مَدْري شِيسَمُّونَّه في النهاية وإن بتفاوت وهذا لا يؤثّرُ على سياقِ الشِسْمَه الذي نحنُ بصَدَدِه أبداً ! الحاج شِسْمَه نَشِطٌ ودائب الحَرَكة يخرجُ يومياً، بعد ارتشاف دلّة قهوةٍ كاملةٍ ليتجوّل في شوارع ديربورن وسدني وكراكاس ونيودلهي وأمستردام ثم يتّجهُ مثل سوبرمان إلى شوارع لندن ومالمو وويلنغتون وكوبنهاغن لا يتوقف الحاج شِسْمَه عن تثبيت عقالهِ وعباءَتهِ ولا يتوقفُ عن الاستماع لأخبار العراق من مذياعهِ اليدويّ وهو يواصلُ تقدّمهُ متبختراً مثل جنديّ في ساحة عرضاتٍ حالماً بطبق رطبٍ برحيٍّ وما عون لبنٍ بارد وفنجان قهوةٍ يردُّ الروحَ * * * وماذا بعد يا حاج شِسْمَه؟ لستَ أوّل من أصيب بالسرطان ولا آخر من يكون والمهم أن تثبّت عقالكَ وعباءَتَكَ في شوارع مالمو أو أمستردام أو كوبنهاغن ديربورن أو لندن أو سدني أو ويلنغتون لا تدعْهُ يغلبكَ يا حاج شِسْمَه تذكّر المثلَ الشعبيَّ المثل الذي كنتَ تردِّدهُ في أوقات الشدّةِ قد لا يشفيك من السرطانِ لكنّهُ حتماً سيخفِّف من وطأةِ البلاءِ بهِ كان الثلجُ يهطلُ بشدّةٍ ذاتَ يومٍ كئيبٍ حين غادر الحاجُّ شِسْمَه المستشفى عقالُهُ لا زال مُثبّتاً كما العباءة ويدُهُ اليمنى مُتدلّيةٌ من الكفن هكذا أرادها في وصيّته لتُحيّي القلوبَ التي اصطفّت لوداعِه في جميع شوارعِ الدنيا ! وفي قصيدة "سيرة شخصية للسيّد مدري ياهو" قال فيها: لا أحد يملك الحقيقة، كل الحقيقة، مثل السيّد مدري ياهو عن حقيقة السيّد مدري ياهو ! سليمان الفليّح عبدالله الصيخان محمد الثبيتي فضل جبر