يواجه الشعر الشعبي في السنوات الأخيرة، ومع ظهور المجلات الشعبية والمحطات التلفزيونية، والمسابقات الشعرية، امتحاناً صعباً عليه ان يجتازه ليثبت انه مثله مثل أي جنس أدبي له مكانته وأهميته ودوره في حقل الابداع الإنساني، في كل العصور وعند كل الشعوب، ومنذ ان اهتدى الإنسان إلى وسيلة اللغة ليعبر فيها عما يجيش في خاطره من أفكار ومعان. فاللهجة قادرة دائماً على ان تظل أداة ابداع وخلق فني مثلها مثل الفصحى تماماً، وتاريخنا في الجزيرة ماضياً وحاضراً يحفل بامثلة كثيرة لنصوص شعرية متجاوزة لغة وفكراً، ولدينا من الشعراء السابقين والمعاصرين اسماء مشرقة يمكن الاستشهاد بها في هذا الشأن. ولعل عيب بعض الشعر الشعبي السائد الآن، هو الانغماس المفرط في موضوعات المدح والمناسبات الاجتماعية، والمبالغة بالفخر الرخيص بالذات والانساب، وترسيخ مفاهيم متخلفة كالقبلية والنظرة القديمة للمرأة، وهذا أمر يجعل الكثير من المتابعين والمحبين للشعر الشعبي ينقسم إلى قسمين أو فئتين. الاول يرى في النظم باللهجة ابداعاً مساوياً للفصحى، إذا تخلى هذا النظم عن عيوب الشعر الشعبي الذي يغمر الساحة الآن والتي أشرت اليها آنفاً، اما الفريق الثاني فهو يقف موقفاً عدائياً متعنتاً من الشعر الشعبي على اطلاقه مردداً حججاً قديمة أثبت الزمن والعلم والتجربة والشواهد كلها بطلانها وعدم واقعيتها. ولست في مجال الدفاع عن الشعر الشعبي الذي ارى ان الخلاف حوله قد يستمر ولكنه ينبغي أن نعترف ان هناك شعراء موهوبين في هذا العصر وعلى مر العصور، حتى وان كانوا قلة ولكنهم يؤكدون لنا دائماً ان الابداع باللهجة ممكن وليس له حدود، وقد وظف الشعراء السعوديون المعاصرون كثيراً من أبيات الشعر الشعبي في كثير من قصائدهم باللغة الفصحى وتلك سمة من سمات توظيف خصائص البيئة في الشعر السعودي عند شعراء مثل سعد الحميدين وعلي الدميني وعبدالله الصيخان وعلي الثبيتي. فالشاعر الحميدين في قصيدة له بعنوان (هواجسنا) من ديوانه: (ضحاها الذي) يوظف أبياتاً شعبية تأتي في سياق غناء عازف الربابة في القصيدة ومنها: أعرف حروف الهجا بالرمز واكتبها عاقل ومجنون حاوي كل الاشكالي لكن حظي ردي والروح متعبها ما فادني حسن تأديبي مع أمثالي ويستحضر محمد الثبيتي في قصيدته: (فواصل من لحن بدوي قديم) بيتين للشاعر محسن الهزاني: كريم يانو بروقه تلألأ نو ورا نو وبرق ورا برقء قالوا: كما مبسم (هيا) قلت: لا لا بين البروق وبين مبسم (هيا) فرق وقارئ القصيدة الحديثة يدرك أهمية ما يسمى ب(التوظيف) هنا والدور الذي يؤديه في القصيدة، والأمثلة هنا هي للتدليل فقط على أن هناك نماذج من موروثنا الشعبي وفي الشعر خاصة تحمل من الثراء الفني ما يجعلها تمثل قيمة ابداعية لا تقل عن القصيدة المكتوبة بالفصحى. وتحتفظ ذاكرتنا الشعبية في الجزيرة بالكثير من الأبيات المفردة أو اجزاء من أبيات التي - مع مرور الزمن - وعدم وجود مصادر تدوين لها، لا نعرف مناسبتها ولا اسماء قائليها، كما لا نعرف ان كان قد انحدرت الينا من قصيدة طويلة أو مقطوعة قصيرة ومن ذلك هذا البيت: لا تحسبني يوم غنيت طربان (مير) اتسلى واطرد الهم عني وكلمة (مير) تعني (لكن) وبقية الكلمات معروفة. والقائل هنا يخبرنا انه لا يغني طرباً ولكنه يتخذ الغناء وسيلة ليذهب عنه ما يحس به من هموم، فهو انما يتسلى بالغناء عما اصابه كوسيلة تنفيس يطرد بها هذه المشاعر الحزينة التي انتابته، ولم يعد الغناء هنا تعبيراً عن حالة فرح أو بهجة، بل اصبح يؤدي وظيفة هي أقرب للعلاج النفسي منه إلى المتعة المعتادة العابرة التي نجدها في الغناء عندما نرفع أصواتنا مرددين اعجاباً وانتشاءً بلحن رائع واداء جميل، هنا تأكيد على ما يشبه الاحساس الفطري بالحاجة للايقاع والموسيقى كوسيلة والوسائل تخفف من حدة واثر مشاعر تتقد نارها في دواخلنا بفعل صروف الزمن وتقلبات الأحداث، وكل ذلك جاء في بيت شعر واحد استطاع ان يختزل المعنى في كلمات قليلة وبلاغة اختصارية، وصورة ممتلئة بالصدق وقريبة من ذهن الإنسان العادي رغم حمولتها الثرية من الدلالات والايحاءات النفسية والوجدانية، وهو واحد من الأمثلة على هذا الإرث الشعبي الممتد والزاخر بالكنوز.