ما كُتب عن صلاح نصر شيء .. وما كتبه في مذكراته وما حوته رسائله شيء آخر تماما يختلف عما كتب عنه، فقد كتب عن أشهر رئيس مخابرات عربي أطنان ممن الورق الحافل بالحقائق والحافل أيضا بالزيف والادعاء والكذب..، وكان صلاح نصر يعلق على كل ذلك بعبارة واحدة : «مشكلتي أنني أسست جهاز مخابرات حديثاً ومتطوراً جدا في دولة من دول العالم النامي». وقد التقيت بابنه طبيب العيون الشهير هاني صلاح نصر وتحدثنا كثيرا عن والده وتصفحنا رسائله.. وكان سؤالي الأول لهاني عن فنانة أعتز بها كثيرا وهي النجمة الراحلة سعاد حسني، حيث سألته عن علاقتها بالمخابرات فقال لي إنها فعلا كانت مجندة في المخابرات المصرية ولكنها كانت عميلة مخابرات «فاشلة» تكلف بالمهمة فلا تكترث بها وتهتم بأمورها الشخصية.. وفي الحلقة المقبلة معلومات دقيقة وغريبة يرويها الدكتور هاني صلاح نصر. أما هنا فسوف نعرض لجزء من الرسائل الخاصة جدا التي لم تنشر من قبل لصلاح نصر.. ويأتي تكوين شخصيته من خلال البيئة التي نشأ فيها فهو من أسرة ريفية هي أسرة «النجومي».. وقضى أغلب حياته في المدينة، لكنه كان يتردد على قريته في الصيف وقد حكى والده عن أصول أسرة النجومي بأنها نزحت من الجزيرة العربية بعد الفتح الإسلامي، واستقر بها المقام في حي شبرا البلد، ونزل آخرون ببلدة «أو ليلة» مركز ميت غمر.. وأسرة النجومي تنتمي لقبيلة عربية تدعى «خزامة»، وحين جاءت إلى مصر عرفت باسم أسرة الشويخ نسبة إلى الشيخ محمد الخزامى المدفون في ضريحه ببلدة أوليلة وملحق بالضريح مسجده الذي أقيم مكان منزل الأسرة بعد انتقالها للإقامة بقرية سنتماي حسب رواية صلاح نصر في الجزء الأول من مذكراته «الصعود» حيث يقول «وحدث أن أحد الأجداد نقل إقامته إلى قرية «سنتماي» لأن الاتصال بالأرض الزراعية المملوكة له في سنتماي أسهل اتصالا بها من (أوليلة)، ولا يزال فرع من الأسرة يقيم بقرية (أوليلة) باسم أسرة زايد، أما الذين نزحوا إلى سنتماي فظلوا يحملون لقب الشويخ. ويتابع «وفي عهد محمد علي ظهرت حركة مقاومة له في المنطقة لتمنعه من ارسال جنود مصريين لمحاربة إخوانهم المسلمين في الغزوات التي شنها محمد علي في بلاد العرب وسوريا والسودان ،وكان أحد زعماء حركة المقاومة جدنا سيد أحمد هلال الشويخ، وتحصنت حركة المقاومة في بلدة كفور نجم من أعمال مديرية الشرقية.. واستمرت الحركة حتى انتهاء حروب محمد علي عام 1840، فعاد الجد سيد أحمد إلى سنتماي وعرف منذ ذلك التاريخ باسم سيد أحمد النجومي». ولد صلاح نصر في 8 أكتوبر 1920 في قرية سنتماي ، وكان والده أول من حصل من قريتهم على تعليم عال، وعمل مدرساً حتى أحيل إلى المعاش عام ,1951. أي قبل ثورة يوليو بعام التي لعب فيها صلاح نصر دورا بارزا.. كان صلاح أكبر أخوته لذا كان مميزا كابن بكر بالنسبة لأبيه وأمه.. وتلقى صلاح تعليمه الابتدائي في مدرسة طنطا الابتدائية وتلقى تعليمه الثانوي في عدة مدارس نظرا لتنقل أبيه من بلدة لأخرى فقد درس في مدارس طنطا الثانوية، وقنا الثانوية، وبمبة قادن الثانوية بالقاهرة.. ونشأ في طبقته الوسطى وأمضى طفولته وصباه في مدينة طنطا.. وكان يرى حرص أبيه وأمه على الصلاة والصوم فحرص عليهما.. وكانت أول هدية حصل عليها من أبيه كاميرا تصوير ماركة «نورتون» ثمنها اثنا عشر قرشا عام 1927. وهناك حادثتان أثرتا في مسار حياته وبقيتا في ذاكرته حتى رحيله في بداية الثمانينيات حيث يقول «في مرحلة دراستي الابتدائية أذكر حادثاً كان له تأثير مباشر على مسلكي فيما بعد إذ حضر إلينا في مدينة طنطا من القرية بعض أبناء عمومتي الذين كانوا في سن الشباب ، ليشاهدوا مولد السيد أحمد البدوي على عادة أهل الريف.. وتعلقت بهم - وكنت في العاشرة من عمري - لأصحبهم إلى ساحة المولد.. ووافق أبي ومنحني خمسة قروش وبالطبع شاهدنا الألعاب المعروفة في الموالد.. وعند لعبة «الأطواق» وقفت أتأمل الناس وهي تقذف أطواقا صغيرة على هدايا وضعت على منضدة وقررت أن أجرب حظي فربحت هديتين، وفرحت بهما.. ولما عدت إلى المنزل رآهما أبي في صباح اليوم التالي، وسألني كيف أمضيت الليلة السالفة.. فما أن ذكرت له لعبة الطوق، حتى نهرني وأخذ يشرح لي أن هذا هو الميسر بعينه الذي حرمه الله .. وبأسلوب تربوي لا يزال عالقاً في ذهني حتى اليوم، أخذ يشرح لي في بساطة مضار هذا السبيل. وكان لهذا «الدرس» أثر كبير في حياتي فلم أقرب هذا الأمر طوال حياتي. ثمة حادث آخر انطبع في ذهني طوال سنوات عمري.. ففي السابعة من عمري رأيت أبي وأمي تذرف عيونهما الدمع.. فاستبد بي شيء من خوف وقلق ، ووقفت أمامهما واجماً.. وسألت أمي عن سبب بكائهما فردت في أسى.. سعد باشا مات.. عدت فسألتها في سذاجة: أهو قريبنا؟ وتدخل أبي في الحديث فقال إنه قريب كل مصري وكل مصرية.. سألته ببراءة الأطفال : وكيف كان ذلك؟.. قال أبي محاولا أن يشرح لي بأسلوب بسيط: سعد باشا زغلول رئيس المصريين، وهو المسؤول عنهم جميعا، وعن حمايتهم من الإنجليز المحتلين بلادنا، والذين يسلبون خيراتنا، ويجعلوننا نسير في حياتنا وفقا لمشيئتهم . وبالطبع لم أفهم أبعاد ما يريد أن يقوله أبي فعدت أسأله: أليس لدى هؤلاء الإنجليز خيرات ليسرقوا خيراتنا؟ أجاب والدي: لو قابلك صبي أكبر منك سنا وأقوى منك بنية واغتصب مصروفك اليومي عنوة فماذا تفعل؟ قلت: سأحاول أن أسترد منه نقودي. قال والدي: قد لا تستطيع استرداد نقودك منه لأنه أقوى منك، وهؤلاء الإنجليز مثل هذا الصبي الذي سلبك مصروفك عنوة.. قاموا بالهجوم على مصر غدرا، وأقاموا على أرضها رغم أنف المصريين، وبدأوا ينهبون خيراتنا من حبوب وقطن وكل ما تنتجه أرضنا ليستمتعوا بها. قلت: إذن فهم لصوص . أجاب والدي: لا يختلفون عن اللصوص في شيء». وتأثر صلاح نصر كثيرا بأمه التي ماتت وهو في السابعة عشرة من عمره، وكانت قد تجاوزت الثلاثين بقليل، وصدم صدمة كبيرة برحيلها.. كان ينتظر نتيجة دراسته الثانوية، وكانت أمه على فراش المرض حين جاءها سعيدا وقال لها إنه نجح فقالت له: الحمد لله.. الله معك. وبعد عدة دقائق فارقت الحياة.. وفي عامي 1935 و1936 كان صلاح يدرس في محافظة قناجنوب مصر وتعرف كثيرا على الصعيد وبهرته أسوان والأقصر ودندرة وأدفو وكوم أمبو، وبعد عام في قنا عاد مع والده إلى القاهرة لينهي دراسته الثانوية ويلتحق بالكلية الحربية في دفعة أكتوبر عام 1936 ولم يكن والده مرحبا بدخوله الكلية الحربية ومرت في هذا الوقت أحداث عديدة عاصرها صلاح نصر وتأثر بها ومنها نشوب الحرب العالمية الثانية والوزارة الائتلافية ووزارة حسين سري وحادث 4 فبراير عام 1942 والأحكام العرفية وانقسام الوفد وكتابة مكرم عبيد للكتاب الأسود ضد النحاس وإقالة وزارة النحاس واغتيال أحمد ماهر ثم قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين وحرب 1948 وعودة الوفد للحكم.. كانت الحياة السياسية في مصر مضطربة في ذلك الوقت، والشباب ثائر يبحث عن دور، وكان صلاح نصر صديقاً لعبد الحكيم عامر منذ عام 1938 أثناء دراستهما في الكلية الحربية، وفي أحد لقاءات عامر ونصر، فاتحه عامر بالانضمام إلى تنظيم الضباط الأحرار فتحمس صلاح نصر للفكرة وانضم إلى التنظيم، وكان جمال عبد الناصر يدرس لهم مادة الشؤون الإدارية في الكلية الحربية.. وليلة ثورة 23 يوليو عام 1952 قاد صلاح نصر الكتيبة 13 التي كان فيها أغلب الضباط الأحرار.. وعينه عبد الناصر في 23 أكتوبر عام 1956 نائبا لرئيس المخابرات وكان علي صبري مديرا للمخابرات، وكان زكريا محيى الدين مشرفا على المخابرات والمحرك الفعلي لها لانشغال على صبري بإدارة أعمال مكتب عبد الناصر، ثم عينه رئيسا للمخابرات في 13 مايو عام 1957 وعين علي صبري وزيرا للدولة وزكريا محيى الدين وزيرا للداخلية.. وهكذا بدأ صعود صلاح نصر فتم اعتقاله وقدم استقالته ثلاث مرات.. وكانت الاستقالة الأولى نتيجة استقالة المشير عامر عام 1962 لأن صلاح نصر انحاز للمشير على الرغم من أن صلاح نصر كان وسيطا نزيها في التعامل بين الصديقين ناصر وعامر وهو الذي أقنع عامر بالعودة حسب رواية هاني بن صلاح نصر والاستقالة الثانية كانت بسبب قضية الأخوان المسلمين حيث كان عبد الناصر يريد أن يوكلها للمخابرات العامة، وبعد 1967 أصيب صلاح نصر بجلطة وبعد شفائه كان عبد الناصر يريد أن يوكل إليه مسؤولية وزارة الحربية ورفض لأن صلاح نصر كان قد قرر ألا يضع نفسه في أي مكان كان يشغله عبد الحكيم عامر ، فطلب عبد الناصر من صلاح أن يقترح عليه اسماً، فاقترح عليه الفريق عبد المحسن مرتجى. وفي رسالة كتبها صلاح نصر إلى زوجته يوم السبت 20/1/1968 وتنشر للمرة الأولى .. وقد كتبها في الساعة الثانية عشرة ظهرا يقول فيها : زوجتي الغالية فلذات كبدي أهلي وأحبائي حبي الكبير ينبعث بكل إيمان وصدق لكم جميعا.. وروحي ترفرف عليكم جميعا ،وبعد، فقد حدث ما كنت أتوقعه منذ قررت الاعتزال عن العمل . وكأن الله سبحانه وتعالى قد كشف عني الحجاب فعرفت الصديق من العدو والوفي من الانتهازي .. إنه مهما حاول البشر أن يؤذي المؤمن فالله يعلم ما في النفوس ولكل امرئ ما نوى.. لست أول من افترى عليه في الأرض، ولكن إيماني بالله سبحانه وتعالى ورضائي بحكمه هو عقيدتي التي لا يمكن أن يزحزحها إنسان على البسيطة. لقد أخطأت خطأ جسيما في حقكم فاغفروا لي .. لقد ضحيت بإسعادكم وراحتكم طوال العشرين سنة الماضية في سبيل محاولاتي للعمل لأبناء هذا الوطن ، لقد كانت العبارة التي قلتها أثناء العملية وأنا بالبنج منذ 3 سنوات والتي عرفتموها من الأطباء وأظنكم تتذكرونها : «إنني أعيش لأسعد الثلاثين مليوناً.. ومستعد اضحي بحياتي لهم». إن تاريخ أبيكم مهما حاول أحد النيل منه فلن يستطيع، ومهما نبحت الكلاب المسعورة، فالتاريخ لا يمكن أن يزيف وهناك من المؤمنين من سيكتبون الحقيقة، أما عن المنافقين الذين يعيشون على السحت والذين يأكلون على كل مائدة مبررين تصرفاتهم فلهم يوم الحساب حيث لا يشفع فيه جاه ولا مال ولا بنون.. غفر الله لهم أجمعين. الحمد لله .. لم أكن أسمع نصائحكم من أن ارحم نفسي من العمل.. ولكي لا يضيع ذلك.. فأنا لست مهتما بأي شيء لأنني أعرف موقفي تماما.. ولكن كان يؤذيني أن يقابل إخلاصي وتفانيّ بنكران وعدم اكتراث . ثم ما لبثت ونظرت بعمق فتذكرت من قراءاتي أن ذلك ليس بغريب أو جديد وهكذا سنة الحياة. هناك من تغريهم الحياة، فالوسادة الناعمة تغري الكثيرين على أن يفقدوا مبادئهم لينعموا ويتمرغوا .. ولكن حينما تبلى الوسادة يصبحون لا شيء.. ما أجمل أن تعرف النفس حقيقتها قبل أن تحاسب الآخرين.. لم يصلني المحامي حتى ساعة تاريخه.. أرجو محاولة الاتصال بي كما أرجو أن تأخذوا إذنا للأولاد لأراهم قبل الجلسة.. وأعتقد أن جمال عبد الناصر لن يمانع في ذلك. أرجو إرسال بذلتين أخريين ومعهما كرافتات تناسبهما.. كذلك الأشياء التي طلبتها من قبل.. وعدد اثنين علبة بخور وبن وقميصين بأساور وزراير ، طقم لهما.. وشاي وسكر.. وختاما لكم جميعا حبي وإخلاصي صلاح نصر.. ويبدو أن جدران المعتقل ولياليه القاسية قد أنسته فأكمل : لقد تصدق للأولاد بالزيارة وكذا المحامي فيمكنكم الاتصال بالسيد علي نور الدين لأخذ التصريح وأرجو أن يكون ذلك قبل الجلسة». كان صلاح نصر يفيض بالأسى بعدما كانت له شخصيته ومكانته وقيمته وإذا به يجد نفسه خلف أسوار السجن والأسى واضح من رسائله إلى أسرته فقبل هذه الرسالة بعشرة أيام كتب يوم الأربعاء 10/1/1968 في الساعة الثانية عشرة ظهرا أيضا إلى أسرته : زوجتي العزيزة فلذات أكبادي أهلي وأحبائي الحمد لله الذي لا يضر مع اسمه داء، ولا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء .. أما بعد فقد وصلني خطابكم الأخير والذي أحسست أنكم كنتم قلقين حتى وصلت الخطابات السابقة ، ولكنها لم تكن غلطتي وما دامت وصلت الخطابات لكم فنشكر الذين أرسلوها .. طبعا كان تهمني أن تصلكم معايدتي في موعدها ولكن هناك شيئاً أقوى من الورقة ومن هذه السطور وهو أن روحي وقلبي معكم دائما. أنا بخير والحمد لله ولا ينقصني شيء سوى أن أطمئن عليكم دائما رعاكم الله وحفظكم من تقلبات الزمان وبطش شرور الدنيا الزائلة. تأكدي يا ابنتي سلوى العزيزة من أن أبيك المجاهد صلاح نصر موقفه في أي شيء واضح وضوح الشمس في كبد السماء.. وأنا المؤمن المستعد أن أواجه أي كيد وأن أرد على كل حاقد وحاسد. أما أنت يا محمد فأرجو أن تجتهد في دروسك وتبذل أقصى جهدك وأن تعدني في خطابك القادم بذلك ، ولعلني أسمع ما يسرني عن تقدمك في الدراسة. سلامي لك يا ناجح وأرجو أن تكون رجل العائلة في هذه الظروف، وأنت نعم من يعتمد عليه، أما أنت يا هاني فقد سرني إيمانك الراسخ ورجولتك المبكرة، وشد حيلك يا حمادة .. وقبلاتي لك يا سهير.. سلامي وقبلاتي لكم جميعاً فرداً فرداً .. كل الأشياء التي جاءت في الخطاب الأخير والخطابات السابقة وصلتني ما عدا التليفزيون . أرجو أن ترسلوا لي أجندة كبيرة وواحدة صغيرة لعام 1968 وبخور، وبن على أن يكون ناعما وكرافتتين كحلي. ختاما لكم تمنياتي وقبلاتي وإلى اللقاء». وكتب في جانب الخطاب: إذا كان لديكم أو لدى الوالد عصا وجيهة أتوكأ بها كما كان موسى عليه السلام يتوكأ على عصاه فارجو إرسالها والطاقية الاستراكان السوداء». صلاح نصر ( بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة)