سيكون من ضحايا شارلي إيبدو الكثير من المسلمين، بعد ترسيخ هذا الحشد الهائل من الكراهية والعداوة والشعور بالخطر من كل مسلم.. وربما اصبح « المسلم « مشروعاً ارهابياً اذا لم يكن إرهابيا حقيقياً في نظر الكثيرين من الغربيين، خاصة اولئك الذين لا يرون في الاسلام سوى عدو يهدد كياناتهم وثقافتهم وحرياتهم!! لم تهتز فرنسا لحادثة كبرى منذ عقود.. كما اهتزت للحادثة الارهابية التي طالت باريس، وقد اصبحت حادثة شارلي إيبدو العنوان الابرز الذي سيدور حوله جدل كبير داخل اروقة السياسة الاوروبية. " كلنا شارلي إيبدو" هكذا ظهرت عناوين الصحف الباريسية بعد تلك الحادثة.. وإذا كان التنديد بالارهاب عمل اخلاقي ومبدئي.. والمنطقة العربية تعيش أكبر ويلاته وآثاره ولازالت تحصد نتائجه.. إلا ان الاندفاع خلف ظاهرة " كلنا شارلي إيبدو" لن يكون سوى نوع من تأجيج الكراهية ايضا.. فقد تم رصد أكثر من ستين عملا يصنف ضمن دائرة العنف والكراهية ضد المسلمين في فرنسا منذ تلك الحادثة.. وقد ظهر العدد الاخير للصحيفة الساخرة ليؤكد على الخط المستمر في الاستهانة بالرموز الاسلامية، والتأكيد على تلك الحرية التي لا قانون لها عندما تطال شخصية رسول الاسلام، ما يخلق المزيد من المرارة في نفوس المسلمين اينما كانوا. الحرية لها قانونها ايضا. والرسوم المسيئة للإسلام ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.. هل ستظل في اطار حرية تجلب لفرنسا واوروبا المزيد من العداء والاحقاد، بما يسمح للمتطرفين ومن يستفيد منهم في توظيف هذه الظاهرة لنقل المعركة لأوروبا؟! سيكون هذا السؤال الذي على اوروبا ان تجيب عنه؟! لن يكون على حساب الحرية، ان يجرم المساس بعقائد الاخرين على ذلك النحو الساخر والمتواصل، ولا أن تكون موضعا للسخرية والحشد الكاريكاتوري. ألا تمنع دول غربية مختلفة العنصرية أو ترديد الشعارات النازية أو التعبير عن التضامن مع تنظيمات متطرفة وارهابية. ألا تجرم فرنسا "معاداة السامية"، وهو أي تعبير يفسر على أنه كراهية أو عنصرية ضد اليهود، ألم يطرد أحد كتاب صحيفة شارلي إيبدو "موريس سينيه" في عام 2009 بسبب سخريته من زواج جين ساركوزي من فتاة يهودية، ألم تتم محاكمة الكاتب بتهمة معاداة السامية حينها!! لماذا على المسلمين ان يعتذروا عما اقترفته يد 3 إرهابيين يحملون الجنسية الفرنسية.. بينما هناك 6 ملايين مسلم فرنسي يعيشون ويعملون وينتجون ويرفضون العنف والارهاب، ولم يقفوا مع اولئك ولم يدعموهم او يدافعوا عنهم او يسهلوا مهمتهم.. لماذا هذه الضغوط المتوالية لوضع الاسلام في خانة الادانة ووضع المسلمين في خانة المشتبه بهم، والذين عليهم ان يكفروا عن تلك الجريمة فقط لان الفاعلين مسلمون.. دون النظر في تعقيدات المشهد والدوافع، وقراءة سيناريوهات الصراع بين العديد من القوى، عبر استغلال تلك المشاعر وتلك العقول الخارجة من جحيم اليأس الى فضاء الوعد، وما اكثر من استُغلت وما اكثر ما وظفت لخدمة اهداف لا علاقة بها بعقيدة ولا شرعية.. قدر ما هي جزء من عملية صراع لا يتورع عن استغلال تلك الحالات لتبادل الضرب تحت الحزام وتبادل رسائل التهديد بين الفينة والاخرى. سيكون من ضحايا شارلي إيبدو الكثير من المسلمين، بعد ترسيخ هذا الحشد الهائل من الكراهية والعداوة والشعور بالخطر من كل مسلم.. وربما اصبح " المسلم " مشروعا ارهابيا اذا لم يكن ارهابيا حقيقيا في نظر الكثيرين من الغربيين، خاصة اولئك الذين لا يرون في الاسلام سوى عدو يهدد كياناتهم وثقافتهم وحرياتهم!! احتضن الغرب مسلمين هاربين من ديارهم - طوعا وكرها - رافضين لنظم البغي والظلم والاستبداد.. وقد توفرت لهم بكفاءتهم مراكز وحضور في تلك المجتمعات ومارسوا مهنا واعمالا برزوا فيها. ولم يجدوا في ظل بيئة قانونية عادلة او تلتمس العدل والانصاف سوى الترحيب طالما كان هؤلاء يعملون وينتجون ويفيدون تلك المجتمعات ولا يؤثرون في حياتها او يستهدفون ثقافتها... إلا أن ما حدث خلال السنوات الماضية من عمليات ارهابية، ربما يترتب عليه آثار من التضييق على هؤلاء، وبمن يرغب من العرب او المسلمين الهجرة الى اوروبا وامريكا من اجل الاستفادة من فرص التعليم والعمل والاقامة تحت سقف يحترم حريات الناس ويقدر انتاجهم.. ويحقق بعض احلامهم. لن يكون الاسلام بحاجة لمثل هؤلاء الارهابيين للدفاع عن قيمه. الضرر البالغ سيطال المسلمين اينما كانوا في تلك الديار، حتى لو خرجوا مع المتظاهرين يرفضون ويستنكرون تلك الاعمال ويدينونها. وقد نرى كيف ان حجم الكراهية سيتسع في اوروبا على حساب قيم المساواة والحرية. وسيظهر من القوانين ما يجعل اللجوء الى تلك البلدان عملا محفوفا بالمخاطر والحواجز والقيود. وكل هذا يمكن ادراك آثاره.. إلا أننا أيضا نعاني منذ سنوات من عمليات بشعة وقتل طائفي وعمليات ارهابية تستهدف التقويض.. ألسنا اولى بأن نشكو للعالم من ارهاب اصابنا في منطقة كانت املا في الانعتاق من الظلم والاستبداد والنظم القاتلة الى حقل القتل الجماعي والطائفي والتدمير الشامل. ادانة العنف والارهاب والذي اصبح اليوم يستدعي الاسلام، حتى اصبح الربط بينهما في الذهن الغربي تلقائيا.. انما يستدعي ايضا التذكير بأن الغرب يكيل بمكيالين وهو يتغاضى عن ارهاب وربما يدعمه، بينما يصاب بالكرب الشديد ويتباكى على الحريات عندما يصاب في عقر داره بشرارة صغيرة مما نعاني منه ونكتوي بناره منذ سنوات. عندما فجر "تيموثي ماكفي" مركزا تجاريا في اوكلاهوما في 29 ابريل 1995 وقتل 186 شخصا، كان البحث مركزا على شخصيته وظروف نشأته والمشكلات النفسية التي كان يعاني منها.. وكان هناك تفهم لنوع من المسيحية التي يؤمن بها "ماكفي" تستند الى تفسير متطرف لا علاقة له بالتيار المسيحي الرئيسي في الغرب. وعندما قتل "اندريس بيرنغ برفيليك" وهو شخصية معادية للمسلمين المهاجرين في اوسلو، وفي هجوم على مخيم صيفي لحزب العمال في 22 يوليو 2011،.. وقتل حينها 85 شخصا بينهم كثير من المسلمين، وعلى الرغم من انه يوصم بفهم متطرف للمسيحية، فقد كان هناك بحث مستفيض لظروف نشأته وابعاد مؤثرة ساهمت في تكوين شخصيته المتطرفة وافكاره القاتلة. دعونا ايضا نرَ من هو "احمدي كوليبالي"، الذي شارك في العملية الارهابية ضد شارلي إيبدو وقُتل في المتجر اليهودي.. فمثله مثل أقرانه في ضواحي كبرى المدن الفرنسية، انحرف كوليبالي باكرا، ولجأ مرات عدة إلى السرقة، ولم يتردد أحيانا في ارتكاب عمليات سطو مسلح، وأُدين على خلفية إحدى هذه العمليات بالسجن لمدة ست سنوات عام 2002. عام 2010، رصدت الأجهزة الأمنية لقاءات واتصالات هاتفية بين كوليبالي وشخص يدعى جمال بغال. إذن نحن امام ثلاثة عناصر أسهمت في صناعة هذه الشخصية: الفقر والبؤس واليأس، العلاقة بجمال بغال (الشيخ والمريد)، الايمان بفهم متطرف لإنقاذ الذات من مأزق الاحباط والقهر. لماذا يتم الفصل بين تلك المؤثرات، ويتجه الاعلام الغربي فورا لتحميل الاسلام والمسلمين جناية الفعل، دون النظر في تلك العلاقات والظروف المعقدة للمتورطين؟ كان دو فيلبان رئيس وزراء فرنسا السابق الاكثر اقترابا من قراءة الوقائع التي قادت الى مأزق فرنسا مع الارهاب.. عندما قال: إن تنظيم الدولة الإسلامية هو "الطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية".. معتبرا أن التدخل العسكري في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي ساهم في "تضاعف أعداد الجهاديين الإرهابيين الذين كانوا بضعة آلاف وأصبحوا يعدون نحو ثلاثين ألف مقاتل". وأضاف أن هذا التنظيم "يكشف عن الإرهاب الحقيقي ويبرئ المسلمين من هذه الأعمال الإجرامية". كما طالب الغرب بالوقوف أمام الحقيقة المؤلمة التي شاركوا بقوة في صنعها!! إلا ان دو فليبان لا يقول ايضا أن المسألة ابعد من هذا. ففي اليوم الذي قرر المنتصرون في الحرب العالمية الاولى غرس الكيان الاسرائيلي في قلب المنطقة العربية.. كان لزاما على أوروبا ان تتصور كيف ستكون حالة الصراع بعد عقود. كان عليه ان يقول أيضا إن هذا الاحتلال والعدوان الوحشي الاسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني الذي قتل عشرات الالاف وهجر مئات الالاف وزرع كل عناصر التوتر والكراهية.. إنما كان يسهم في نشوء حالة واسعة من القهر والاحباط والشعور بالظلم.. وهكذا ظهرت تنظيمات تجد لها اليوم صدى وحضورا في مجتمع عربي يائس!! يعيش كابوسين، نظم الاستبداد والقهر والافقار والفساد التي تحظى بدعم الغرب.. وكابوس الاحتلال الاسرائيلي الغاشم.. الذي لازال يدعمه هذا الغرب، وها هي فرنسا ترحب برئيسه الملطخة يداه بدماء الاطفال والنساء والابرياء.. وهو يندد مع المتظاهرين بالإرهاب!! لمراسلة الكاتب: [email protected]