أعرب عدد من أساتذة اللغة العربية عن إشاداتهم باختيار «اللغة العربية منطلقًا للتكامل الثقافي الإنساني» محورًا لفعاليات مؤتمر الوزراء المسؤولين عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، معتبرين أن هذا الاختيار يكشف مدى الاهتمام الذي توليه الحكومات في الدول العربية، واستشعارها لما تواجهه اللغة العربية من هجمات ومحاولات الإقصاء من المشهد الحضاري والثقافي، مبدين تطلعهم إلى أن يخرج المؤتمر بتوصيات مهمة تسهم في إنقاذ واقع اللغة العربية، وتؤكد حضورها على المستوى العالمي. وفي هذا السياق يقول الكاتب سعد بن سعيد الرفاعي إن: اللغة العربية لغة إنسانية عالمية بامتياز؛ فقد كفل لها القرآن خلودًا أبديًا فهي باقية بقاء القرآن ومحفوظة بحفظه، ومن هنا فإن أي تجسير للتكامل الإنساني والثقافي حتمًا سيتطلب حضورها كلغة حية. بيد أن اللغة العربية تواجه مخاطر عديدة منها التغريب، والانحياز للغات فرض الواقع الاقتصادي والرأسمالي حضورها وسيادتها، وكذلك تفشي العامية وسيطرتها على المنابر الإعلامية، وكذلك ضعف المناهج التعليمية للغة وعدم مواكبتها. ويضيف الرفاعي: أتصور أننا إذ ما أردنا أن ننطلق نحو تكامل ثقافي وإنساني فلا بد من تكامل الجهود المؤسسية المعنية بخدمة اللغة العربية فيما بينها؛ أولًا كالمجامع ومركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية ووزارتي التعليم العالي والعام والجامعات ومراكز اللغة العربية والتعريب والترجمة الأخرى من خلال منظومة عمل متناغمة تصدر عن إستراتيجية متفق عليها للوصول إلى أهداف واضحة ومحددة؛ الأمر الذي يتطلب جهودًا مكثفة وتواصلًا مستمرًا حتى يتحقق التكامل فيما بيننا أولًا لننطلق إلى بعد إنساني عالمي بلغة قوية حاضرة في ثقافتنا بما يليق بها وبنا؛ إذ لا يمكن أن يسوق الإنسان لغته وهو مهزوم من الداخل وما لم نعتز بلغتنا عملًا وقولًا وانتماء حقيقيًا متجذرًا في دواخلنا فلن نعبر نحو الآخر بلغتنا وثقافتنا!!. ولعل فكرة مجمع اللغة العربية السعودي تجد طريقها للتنفيذ، وأثق أنه سيحظى بدعم قد لا يتوفر لمجمع آخر ومن مختلف المستويات. ويختم الرفاعي بقوله: وأخيرًا فإن وزارات الثقافة معنية بدراسة آليات حضور الفعل الثقافي بلغة عربية سليمة بعيدًا عن العامية المستفحلة والمستأثرة بمساحات واسعة من الحضور والانتشار. اهتمام سياسي ويقول الدكتور عبدالرحمن بن حسن المحسني، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك خالد: اللغة أي لغة تنمو بعاملين أولهما من ذاتها وقدراتها وبنياتها. والثاني من الاهتمام السياسي المحيط بها.. ولنا في اللغات الإنسانية الحية الآن مثل كاللغة الإنجليزية والفرنسية التي ترعاها الأنظمة السياسية المهيمنة في العالم مما أدى إلى تسيدها على غيرها.. وفي يومنا تعيش اللغة العربية في رأيي منعطفًا مهمًا حيث بدأت السياسات العربية تلتفت لها وتلتف حولها وتستشعر قيمتها وكينونتها ودورها في حفظ الهوية من جهة وفي حفظ المعطيات الفكرية والثقافية من جهة أخرى، وبدأنا نشاهد اهتمامًا سياسيًا عربيًا على أرض الواقع؛ ففي الإماراتالمتحدة - وهي معروفة بتنوعها الفكري والاقتصادي - صدر قرار قبل فترة يلزم بالعربية في المعاملات الاقتصادية. وفي المملكة العربية السعودية يرعى خادم الحرمين الشريفين العربية شخصيًا من خلال مركز الملك عبدالله الدولي لخدمة اللغة العربية، وفي المغرب العربي حراك كبير يتصل بالعربية، وغيرها من شعوب العربية. هنا أصبحت العربية لا تغنى بقدراتها الذاتية فحسب بل تحظى برعاية سياسية ستسهم قطعًا في استعادتها مكانتها كلغة يتحدثها قرابة المليار على مستوى الكون، وما هذا المؤتمر إلا داعم للخطط السياسية العربية التي تدعم تمكين العربية، وينتظر صدور توصيات تتصل بآليات تقريب العربية من شعوبها وإقناعهم بقيمها وقيمتها، كما ينتظر أن تلتفت المنظمات العربية إليها بقرارات تعيد للغة العربية دورها البنائي. لا هوية من دونها ويربط الدكتور ياسر أحمد مرزوق، أستاذ الأدب الحديث المساعد في قسم اللغة العربية بجامعة تبوك، بين اللغة والهوية في سياق قوله: الحديث عن اللغة العربية حديث عن هوية، حديث عن أداة راقية في التواصل؛ فهي قدر الإنسان، وعالمه. بها تصنع المجتمعات، من معجمها ومن نحوها ومن مجمل أدبها تبنى الثقافات؛ فلا نشدان لحضارة من دون النهوض باللغة، وبالتالي فلا هوية من دونها. ماضيًا إلى القول: إن اللغة هي الركن الذي يستمد منه المجتمع قوته إن أحسن وفاقًا معها، وأفسح لها مجال المشاركة الفاعلة، أفرادًا وجماعات ومؤسسات وأنظمة؛ فلا وفاق أو توافق من غير اللغة التي هي اللسان المعبر، والواجهة المضيئة. اللغة هي الأم التي ترعى ناطقيها، وتتجاوز كثيرًا عن تقصيرهم وتجاوزاتهم، وتحنو على نخبها ولا تحرمهم عطاءها، وجميل أسلوبها. واللغة بشكل عام، والعربية على وجه الخصوص وتأكيدًا على مبدأ ارتباطها بالهوية لها أثر كبير في بناء شخصية الفرد وتفكيره وأسلوبه، وبها يعبر عن فكره، ورؤيته للعالم من حوله، وبغيرها إنما يفقد أهم مقومات وجوده، وصدق الشاعر الأمير أمين آل ناصر الدين: لكل قوم لسان يعرفون به إن لم يصونوه لم يعرف لهم نسب خالصًا إلى القول: وبعد؛ فإن لغتنا العربية اليوم تعيش مأزقًا خطيرًا إن لم يتدارك ذلك الغيورون المخلصون لها. إن عليهم أن يخلصوها من تعقيدات أضرت بها، ومن مؤسسات تخلت عنها. تخيروا العاملين المجدين الذين يحملون همها، افسحوا لهم المجال ليبثوا لسانها في أوساط الناشئة وفي مؤسسات المجتمع؛ فباللغة ومن اللغة تتقدم الأمم، وتبني حضاراتها. حالة إنسانية متكاملة ويشيد الدكتور بدر بن علي المقبل، العميد المشارك للأنشطة الثقافية بعمادة شؤون الطلاب رئيس قسم الدراسات الإنسانية بكلية العلوم والمهن الصحية جامعة الملك سعود بن عبدالعزيز للعلوم الصحية - الرياض، بتناول موضوع اللغة العربية في هذا المؤتمر بقوله: إن الالتفات للغة العربية في هذا التجمع الوزاري عالي المستوى يؤكد شعور وزراء الثقافة العرب بأن اللغة العربية لم تعد مجرد أداة تواصل لقضاء حوائج الناس وتسيير حياتهم. لقد لمس المسؤول قدرة اللغة العربية على خلق حالة إنسانية متكاملة داخل أي منظومة بشرية، ووجد أنها قادرة على قيادة الرأي العام وتحقيق التكامل في الرؤى إذا ما استثمرت إمكاناتها واستغلت في خدمة أهداف محددة. فلا يخفى أن اللغة العربية تمتزج بشكل كبير بالهوية الذاتية التي تشكل شخصية الفرد العربي ومن ثم تنعكس على هوية مجتمعه، ومما يدل على ذلك أن الاهتمام باللغة والهوية يشيع في المنعطفات أو المفاصل التاريخية في حياة المجتمعات، وهي منعطفات تاريخية ليست من نوع واحد، فقد تكون منعطفات حضارية إيجابية تثب فيه الجماعة نحو الحضارة والتقدم، وقد تكون سلبية تتعرض فيه الأمة للانكسار، وتغزوها رياح التشتت والانطماس، والغياب عن ساحة الفعل والتأثير. وفي الحالتين يلتفت المسؤول في المجتمع إلى (اللغة) للبحث في تأثيرها واستغلال إمكاناتها. ويؤكد هذا إجماع المهتمين بالفكر والثقافة على أن اللغة الأم هي الوعاء الحامل لهما؛ لذا فإن الاهتمام بها وتجويدها يعد خطوة في سياق الارتقاء بهذين العنصرين المهمين لأي مجتمع بشري، حيث يصعب تصوّر فكر أو ثقافة يتميزان بالتفرد والإبداع والنضج دون أن يكون خلفهما أداء لغويّ ناضج ومتمكن من أدواته. وأملنا أن يخرج المجتمعون برؤى وتوصيات تصب في خانة الارتقاء باللغة بأدوات إبداعية جديدة؛ لتقوم بدورها على الوجه الذي يتوقعه الجميع.