الفنون تشكل الوعي، تحفظ ذاكرة الأمة، وتعيد إنتاج القيم بعيداً عن الخطابة والمباشرة، بالمؤثرات الصوتية والبصرية، والمسرح أبو الفنون كما يقولون، لأنه يستوعب كل الفنون خلال العرض المسرحي، الغناء والرقص والموسيقى، ومع أن دور المسرح للتسلية والمتعة الا أنه يتكفل بتوثيق العلاقة مع المتلقي بوسائل الإبهار والدهشة واللغة المفعمة بالقوة والجمال، ومن خلال النصوص الجيدة، والأداء المتقن، والإخراج المبدع يمكن أن يعبر المسرح عن المشكلات الاجتماعية والصراعات الطبقية والأيديولوجيات والإشكالات الاجتماعية كي يستطيع الإنسان أن يدرك واقعه ويفهم العالم من حوله. لا تستطيع أن تدرك أهمية المسرح الاجتماعية والثقافية والسياسية وأنت بعيد عنه، أي لم تمارس تجربة مشاهدة مسرحية، ومتعة التواجد داخل مسرح ضمن جموع المشاهدين، يسري بينكم التأثير المباشر لمايحدث على خشبة المسرح، في جو من الإبهار والدهشة والإعجاب والمرح، فترتفع الأكف في موجة من التصفيق وكأن مشاعرك تسللت الى كفيك فجأة، وكأنك تفرغ همومك ومشاكلك وأحزانك وتخرج من المسرح نقياً خالياً إلا من الصور وحركة الممثلين والراقصين وتستعيد كلماتهم وقفشاتهم ثم تدرك أن وقتك لم يذهب هباء بل أصبحت أكثر فهماً لواقعك ومشكلاته. عندما وقفنا نحيي الممثلين والراقصين والراوي والمخرج في مسرح ( كركلا ) في بيروت لم ندرك أننا أمضينا قرابة الثلاث ساعات في استعراضات راقصة وحكاية نعرفها جيداً لكنها قدمت بشكل جديد ورؤية مختلفة.المسرحية من ثلاثة فصول، مستوحاة من القصة الشهيرة ( ألف ليلة وليلة ) وموسيقى ( رمسكيكورساكوف ) وإيقاع ( بوليرو دي رافيل ) وتلاقح بين الحضارات الموسيقية وتزاوج الآلات الغربية والشرقية لتحمل حكايا الماضي الى الحاضر في براعة وروعة وكأنك في عالم لا يتوقف عن الحركة، بين مشاهد تتغير، وراوٍ يحكي التاريخ مع المؤثرات البصرية وحركة الراقصين والأزياء التراثية، والبصر لا يكل ولا يمل أو ( ماتقدر تغمض عينيك ) هي هذه الحقيقة التي عشناها في مسرح كركلا. الحوار عنصر مهم في الدراما لكنه في المسرح يمكن الاستغناء عنه بصيغ مختلفة، كحركة الراقصين والمناظر والموسيقى وشاعرية المشاهد وصوت الراوي يمزق الستائر المسدولة على مفاصل الحكايا فيرفع وتيرة الدهشة والإبهار كمسرحية ( كان يا ما كان ) على مسرح كركلا. فرقة كركلا فرقة لبنانية مختصة في الموسيقى المسرحية، قدمت عروضها حول العالم، أسسها عبد الحليم كركلا الموسيقار اللبناني عام 1968م مستوحياً أعماله المسرحية من مسيرة بدوي في الصحراء، ثم أسس مؤسسة كركلا التي تضم مسرح الأيفوار، ومركز كركلا للأبحاث التراثية، وابنته أليسار تدير فرقة الرقص، ويقوم بإخراج الأعمال المسرحية ابنه إيفان كركلا. الفصل الثالث يعود بنا الى عصرنا من خلال سهرة شعبية في ( الكارفان سراي ) شاعر شعبي وغناء هدى حداد وصوتها الرخيم أشجانا وأطربنا. كان حضور هذه المسرحية ضمن برنامج زيارة الوفد النسائي السعودي السياحية للبنان، لم أكن أتوقع أن المسرح بتلك الروعة، وان السيدة كركلا أعدت لنا استقبالاً رسمياً حافلاً طرزته بنخبة من سيدات السفارة السعودية على رأسهم السيدة أم فيصل حرم معالي السفير على العسيري في لبنان، ولم أكن أعلم أننا كنا بحاجة الى تلك الأجواء المسرحية التي نفتقد وهجها وبهجتها، فنهرع الى حجز مقاعدنا في المسرح عندما نسافر الى دولة تحتفي بالمسرح كمصر أو لبنان، حتى في مصر فقد المسرح بهجته بعد أن تحول الى تهريج وقفشات مخلة أتمنى أن يستعيد عافيته بعد أن تعافت مصر. في كل عيد، ومع كل إجازة، يتردد سؤال واحد: أين نذهب، وكيف نقضي الوقت في متعة حقيقية، بعيداً عن المطاعم، التي تطفح بالأسر، والجلوس فيها يحتاج الى حجز، والحجز يحتاج الى واسطة، أو رشوة مسؤول الحجز، كي يمكّنك من الفوز بمكان، تلتم فيه أنت وأفراد العائلة لتناول وجبة عشاء،غداء، أو حتى إفطار العيد بعد أن أصبح الافطار البيتي عبئاً على ربة الأسرة. المدن تتسع، وأعداد السكان في تزايد، والشباب أغلبية ساحقة، وبحاجة الى منافذ تستقطب رغباتهم، وتنمي معارفهم وترتقي بذائقتهم الفنية، بعد تخمة الغث الدرامي والكوميدي الذي استهلك أوقاتهم وشوش معارفهم ولم يسهم في أي إضافة معرفية أو فنية أو ترفيهية بل مزيد من الكآبة والسخف والسطحية، ربما لذلك يسافر السعوديون في كل إجازة مهما كانت قصيرة، إلى دبي والبحرين، رغم أن الأجواء الحارة هناك في الصيف وعيد الفطر لا تقل عن أجوائنا، ولا توجد مسارح، لكن على الأقل بامكانهم الذهاب الى السينما التي تجدها مكتظة والحجز بالطوابير ومعظمهم من ربعنا. لماذا لا نستفيد من هذه التجارب الفنية الراقية والمهمة كتجربة كركلا، هذه المسرحية التي حضرناها عرضت عاماً ونصف في بيت الدين وهو مركز ثقافي، لأن العمل ثقافي تراثي راقٍ أمكنه أن يعرض في مركز ثقافي ويستمر عاماً ونصف، واستطاع عبد الحليم كركلا أن يقدم ملحمة زايد والحلم التي تحكي مسيرة الشيخ زايد. عندما خرجنا من المسرح تساءلنا: متى نستطيع أن نشاهد عملا كهذا في بلدنا دون أن نضطر للسفر من أجل متعة حضور مسرحية أو الذهاب الى قاعة سينما؟! [email protected]