هبطت الطائرة في مطار القيصومة؛ تنفض الهواء البارد من على المدرج، كأن السماء تربت على كتفي، عدت بانطباعات، بعضُها خاصة وأخرى عامة عن تلك المنطقة، إنسانًا وتاريخًا، وما طفق الهاجسُ يراودني من جديد لأُعيدَ الكرّة لزيارة حفر الباطن! قابلت "وعاد" إحدى نساء حفر الباطن، تجدها على بعد خطوتين، تهطل عطرًا وعسلاً، وماسًا وكلامًا جميلاً، وتدور في المكان.. تدور وتدور على شكل القلب وخارطته.. ما أصغر الكلمات في حضرة صمتها.. وعيناها تقفان قبالتي، وصوتها يسد المكان، وأنا أقف بجانبها تترجم بعض حديثي إلى لغة إشارة لبناتنا الصماوات، فتنْزلك تلك الوعاد من نفسها منزلةُ مَنْ لم يفارقها أبدًا: محبةً وأُلفةً وتقديرًا! كان لقاءً جميلاً لعبَ فيه الودُّ التلقائيُّ دورَ الوسيطِ في تجْسيرِ المسَافة بيننا وبين فاقدي السمع في المنطقة.. أستحضر كلماتها وشغفها وحبها لخدمة فاقدي السمع، فتقول: سأقيم ناديًا ومصنعًا ومعهدًا لتأهيل الصم في منطقتي.. وتضيف: أنا لا أقول: إن هذه الأحلام لا تؤرقني تحقيقها، فتلك الأحلام -التي تجتاحني أحيانًا في الليل كالمطر- سخية وقاسية؛ ترتجف منها حتى أصابعي كالأغصان. ما أقوله في النهاية: إن لديَّ حلمًا أسعي إليه في منطقتي... وصرتُ أتصرّف مع أيامي كمن يربي الألوان في مغارة، أضرب لنفسي موعدًا مع "وعاد"، لألتقي مع حلمي، وأدخل في أعماق نفسي بهدوء وطمأنينة، أنجزتُ بعض الأحلام المستحيلة على إمكانيات منطقتنا، كنت أخشى الإقدام عليها خوفًَا من الفشل، لكني أحمل همًّا ثقيلاً، ووجعًا في الروح، وأملاً بحجم التلال لتحقيق أحلامي. كلما تشرق الشمس في منطقتي أشعر بها، وكلما تغرب أنظر إليها. كنت أعصر روحي كإسفنجة بحرية تقطر أملاً، كلما تحدثت مع تلك المرأة.. وكأن الله أرسل لي هذه السيّدة لتقول لي: إن ما سمعته من قبل حلم، وإن هذه الحياة لن تكون فعل محبة ما لم نغير ما بأنفسنا، وأن ذلك عسير جدًا، إلا أنه القرار الفاصل بين أن نعيش حياة المؤمنين، أو نعيش حياة البائسين. في ظل التفاؤل الأكثر استدامة وتعاقبًا في كل آمال.. "وعاد" المرأة التي تحب وتمنح.. وحقيقية في أحلامها لمنطقتها.. آن الأوان يا "وعاد" أن أعترف لك بأن تلك (العائشة) التي كانت تتقمص دور الآلة الثابتة القوية أمامك.. يغزوها الحزن اليوم كقبيلة تغطي الكون، وتنظر في الأفق؛ فلا تجد إلا القليل لتحقيق احتياجات فاقدي السمع في بلادي. [email protected]