المواقف الإنسانية هي المصنع الذي تشكل فيه غالبية حياة البشر.. كان أكثرها تأثيرًا في حياتي زيارتي إلى بيت الكاتب الدكتور عبدالرحمن صالح الشبيلي.. في أنحاء البيت تنتشر صور طلال ابنه -رحمه الله- تكاد ترى هيئته، وجلسته، ونوعية النظرة في عينيه. فقدان طلال مصاب عظيم في حياة أسرة الشبيلي، أصبحت أم طلال بعد وفاته نموذجًا للأمهات اللواتي يعانين أزمة فقدان الحبيب، صار الحزن دخانًا أسود يتجوّل في حيز الدار ويعم المكان، أصبحت أيامها رتيبة لا يبهجها إلاّ وجود أحفادها معها. تجري حوادث الحياة أمامها كأنها كابوس لا تستطيع له تبديلاً.. تعيش غربة شاملة.. وتتزايد أحزانها كلما نظرت في أعين أبناء طلال -رحمه الله- كلما تحدثت إليك تبادر إلى التحديق في صورة طلال المعلقة على الحائط.. طلال لم يكن ابنًا عاديًّا، إنما كان ابنًا يحفظ الطمأنينة والسعادة والفرحة والمحبة لأسرته.. كانت شمس الشتاء دافئة بالرياض، وكان هواء المساء باردًا ومنعشًا في يوم زيارتى الثانية لأسرة طلال الشبيلي -رحمه الله- كنت أتابع والدته وهي تتحدث، تبدو ضعيفة وواهنة، صورة طلال في بؤرة وعيها الكامل. تحدثني عنه وكأنها تعلم أن طلال معنا يشاركنا الحديث، كنت أشعر بحنين قاسٍ يعصف بها إليه، ويجعلها مولعة باستعادة تفاصيل حياته معها. أعود بتفكيري وهي تحدثني، وأنظر إلى صورته، لاحظت أن تنفسها بدأ يصبح عسيرًا، ونبضها أكاد أسمعه وهي تقول: إنه زلال حل بأنفسهم بفقدان طلال.. نعم يا أم طلال، ومَن يلومك في فقدانه؟! في لحظة الفقدان يتوحّد الألم، يسيل من جسد إلى جسد، تذكرتُ ما يقوله الزوّار في المواساة.. أعرف أنها تتعطل لغة الكلام في تلك المواقف في فقدان الغالي، كانت الدموع تتجمّع في أطراف السيدة زكية أبا الخيل والدة الفقيد طلال، تسيل منها بخط بارد ذي ملمس حنون؛ كانت زكية «قلبًا كسيرًا»، وكان الأسى والحزن في نبرات حديثها.. فقدان ابنها سبّب لها انكسار القلب، ومن الحزن الغامر.. هذه كانت الحقيقة الكاوية التي لمستها. إنها قصة من قصص المحبين، الذين عندما يفتقدون حبيبهم يمسكون بأطراف أثوابه، ويعيش الفقيد بينهم. [email protected]