img src="http://www.al-madina.com/files/imagecache/node_photo/12_350.jpg" alt="الباحث التركي جول: الإسلام يطالبنا ب“العلمانية المؤمنة"" title="الباحث التركي جول: الإسلام يطالبنا ب“العلمانية المؤمنة"" width="319" height="300" / في ظل الإخفاقات التي منيت بها محاولات النهضة العربية منذ أواخر العهد العثماني ظل العرب يتلفتون يمينًا وشمالًا بحثًا عن مخرج أو طرف حبل يمسكون به لعله يقودهم إلى أفق نهضوي أوسع وأرحب، ومنذ أكثر من عقد داعبت إنجازات تركيا «النهضوية» خيالات العرب وطرحت عليهم من جديد أسئلة النهضة وثنائياتها التي أعاقت تقدمها منذ أكثر من قرن، «التجربة النهضوية» في تركيا كما هو عنوان كتاب ضيفنا أعاد طرح العديد من الأسئلة من قبيل مكانة الدين في المشهد السياسي والاجتماعي، ودور التيارات الدينية في الصراعات السياسية، ومدى ملاءمة مصطلح «العلمانية» للبيئات الإسلامية والعربية على وجه الخصوص خاصة ما وصفه ضيفنا ب»العلمانية المؤمنة».. حول هذه القضايا وغيرها مما ورد في كتاب «التجربة النهضوية التركية» الصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات تحاور (الرسالة) المؤلف والباحث التركي محمد زاهد جول، فإلى تفاصيل الحوار: أستاذ جول تتكلم عن النهضة التركية وكأن لها عقودًا من السنين، بينما هي عمرها لم يتجاوز ال 15 عامًا، أليس وصف التنمية هو الأقرب والأدق؟ صحيح؛ نعم الأجدر تسميتها بالتنمية إذا كان المقياس يعتمد على قياس الزمن المستغرق فقط، أما إذا كان المقياس يعتمد على الأعمال المنجزة بالنظر إلى ما سبقها من إنجازات، أو ما أنجز في دول أخرى ناهضة في سنوات أطول، فإن ما تم إنجازه في السنوات الماضية من حكم حزب العدالة والتنمية يمكن أن يطلق عليها نهضة متكاملة، كما بيناه في كتاب التجربة النهضوية التركية. إذا كان ذلك كذلك، فبماذا تميزت التجربة التركية الحديثة في عهد «العدالة والتنمية» خاصة أنها أخذت بأساليب التحديث الغربية؟ ما تميزت به التجربة التركية الحديثة في عهد العدالة والتنمية أنها أشركت الإنسان التركي في مشروع النهضة دون أن تستثني مواطنًا واحدا عن قصد، وعملت على جعل الإنسان التركي منتميًا إلى المشروع النهضوي بقدر انتمائه إلى المواطنة التركية، فلا يكفي استيراد أساليب التحديث الغربية وجعل النخبة والمنتفعين هم من يتولون إقامة النهضة، كما كان يحصل في الماضي، أو في بعض الدول. النهضة التركية ما الأساس الفكري الذي قامت عليه «النهضة التركية» قياسًا بغيرها من النهضات مثل «النهضة الأوروبية» التي قامت على أسس أهمها مركزية الإنسان والعقلانية والعلم وغيرها من الأسس؟ النهضة الأوروبية التي قامت على مركزية الإنسان ضد الإيمان هي نهضة عرجاء، أو لنقل هي نهضة ناقصة، ولذلك تدرك الآن مدى ضياع الإنسان فيها، وما بني عليها من عقلانية هي أبنية مادية خاوية على عروشها مهما ارتفعت بالبنيان أو التقدم التكنولوجي، لأن سعادة الإنسان لا تتحقق إذا فقدت الاطمئنان الروحي والعقلاني معًا؛ ولذلك فإن النهضة التركية قامت على تفعيل الإنسان التركي وأخذ دوره في التعليم والبناء العقلي والعلمي، ودون إبعاد الدين من حياته الخاصة ولا حياته الاجتماعية ولا السياسية كما فعلت العلمانية الغربية الصلبة. لكن «النهضة التركية» -أستاذ جول- مبنية على زعامة شخصية «أردوغان» بما يملكه من كاريزما وقدرات سياسية، كما أن هناك تخوفات من انشقاقات داخل «العدالة والتنمية» بعد تخلي أردوغان عن رئاسة الوزراء، هل هناك ضمانات على استمرار قوة وحيوية هذا الحزب الذي يقود النهضة الحالية في تركيا؟ لا شك أن شخصية رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان شخصية كاريزمية فائقة، ولكنها لو كانت وحيدة لما حققت كل هذا النجاح، لأن حزب العدالة والتنمية هو نتاج تفاعلات ثقافية وفكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية تفجرت في العقدين الأخيرين قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة السياسية، فبعد انقلاب 1980م الذي قام به العسكر ضد حكومة تركية منتخبة بإرادة شعبية، أدرك الشعب التركي أن الانقلاب الثالث في تاريخ الجمهورية كان موجهًا ضد إرادته وتغييراته الاجتماعية والسياسية التي وصلت إليها البلاد في تلك المرحلة، فلم يكن انقلابا عسكريا ضد انقلاب عسكري، وإنما كان انقلابًا عسكريا ضد إرادة الشعب التركي، ومن تلك اللحظة أخذ الشعب التركي يغير من تفكيره، ومن مناهج إصلاحه الداخلي ومن فهم معادلات التغيير العالمية وبالأخص بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وعدم حاجة الغرب إلى تركيا كالسابق، فاختار الشعب التركي أن يعتمد على نفسه، وانفتاحه الداخلي ومصالحته مع ذاته وهويته الحضارية، أي أن مشروع النهضة هو مشروع الشعب التركي، وقد حظي الشعب التركي بشخصية تاريخية تقود مشروعه النهضوي. ولا فائدة من الحديث عن انشقاقات في الحزب أو غيره، لأن الحزب مُطالبٌ بعد دورته الانتخابية الثالثة أن يجدد دماءه وعناصره ورجاله وقادته بالطريقة التي أخرج فيها قيادته الحالية، وفي هذا السياق ينبغي الإشارة إلى الدستور الجديد المقترح والذي سوف يجعل من النظام الجمهوري التركي نظامًا رئاسيًا شبيهًا بالولايات المتحدة وليس مثله، بحيث تزيد صلاحيات رئيس الجمهورية على حساب صلاحيات رئيس الوزراء، وهذا التغيير من المأمول أن يجعل الجمهورية التركية أقدر على قيادة المرحلة القادمة بكل ما تحمله من تحديات وطموحات، وأول رئيس للجمهورية التركية منتخب بشكل مباشر من قِبل الشعب سيكون في الغالب رجب أردوغان، والأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان سيكون لها الفاعلية أكثر من الآن وبالأخص في المراقبة والتفتيش وفي صناعة القرار، إذ إن النظام الحالي يخول للحزب الحاكم الآن تشكيل الحكومة ودور السلطة التنفيذية ودور السلطة الإجرائية والتشريعية، وهو الأمر الذي يجعل من أي حزب سياسي حاكم شبه مطلق الصلاحيات، الأمر الذي يفتح أبواب الفساد بشكل أو آخر، بل ويدفع إليه، وهو الأمر الذي يرغب أردوغان تجاوزه في ظل النظام الجديد. القوى الدينية هل لك أن تعطينا توصيفا مختصرا للقوى الدينية المختلفة في تركيا وتأثيرها على الواقع السياسي والاجتماعي؟ أولا هناك حقيقة يجب التسليم بها، وهي أن القوى الإسلامية في تركيا نسبة جميعها لا تتجاوز في أحسن الأحوال 15% فقط من المشهد السياسي، أعني بذلك أن جميع الإسلاميين باختلاف مشاربهم واختلافاتهم، ومن كان يؤمن بمشروع الإسلام السياسي ومن لا يؤمن به فهم لا يشكلون إلا 15% بالمائة، الأمر الذي دفع إسلاميي تركيا إلى تجديد الخطاب والوعي السياسي، ولمسنا ذلك واقعًا في الأرض في سنة 94، عندما خاطب الإسلاميون الجماهير وللمرة الأولى بخطاب يتجاوز النخب والإسلاميين، إلى خطاب جماهيري وطني شمولي، وهنا ربما يكمن الفرق بين الإسلاميين في تركيا والعالم العربي، إذ إن النهضة في تونس والإخوان في مصر وصلوا إلى السلطة بأصوات الإسلاميين، بخلاف حزب العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد بقيادة توجهاتها إسلامية إلا أنها منتخبة من غالبية ساحقة غير إسلامية، نعم ربما يقال إن بعض الجماعات الإسلامية والمجموعات الدينية لها تأثير نسبي في الحياة العامة، ولكن يجب أن يقال إن هذا لا يقتصر على الجماعات الإسلامية، فإننا نشاهد أن التنسيقيات والنقابات ومجموعات الأعمال، وكذا مجموعات البنوك ورجال الأعمال، ومؤسسات المجتمع المدني لهم تأثير في الحياة السياسية والاجتماعية، والتقسيم في تركيا ليس على أساس من يؤمن بالإسلام السياسي ومن لا يؤمن، إذ إن الجدلية ليست دينية ولا فكرية ولا مذهبية، وإنما من يستطيع أن يقدم للشعب التركي مشروعًا نهضويًا متكاملًا يكسب ثقة الجماهير من كل الطبقات الاجتماعية ومن كل المستويات الأكاديمية ومن كل الرؤى الدينية والمذهبية أولًا، وأن يكون هذا المشروع قابلًا للتطبيق والنجاح والانجاز الفعلي ثانيًا، ولذا فإن نجاح حزب العدالة والتنمية في كل الانتخابات السابقة وعلى مدى ثلاثة نجاحات متوالية ساحقة في الانتخابات البرلمانية لم يعتمد على أصوات أتباع حزب العدالة والتنمية، وهو لم يدخل الانتخابات على أساس دعم أعضائه له فقط، وإنما على أساس أنه حزب الشعب التركي، وحزب المواطن التركي، وحزب النجاح التركي، وحزب التقدم الاقتصادي التركي، وحزب المصالحة الداخلية التركية، دون إهمال لمخاطبة أي مواطن تركي مهما كانت جذوره القومية سواءً كانت تركية أو كردية أو عربية أو غيرها، وإنما هو حزب الشعب التركي وفق الرؤى التي قدمها للشعب التركي في برامجه الانتخابية، والتي التزم بتطبيقها بعد الفوز الأول والثاني والثالث، ولذلك كان يفوز دائما بأصوات الأغلبية وليس بأصوات القوى الإسلامية فقط. يلاحظ على القوى الدينية؛ طرق صوفية أو جماعات دينية أو مؤسسات أو غيرها، أنها تنأى بنفسها عن الصراع السياسي وربما تكتفي بالدعم الخفي، هل هذه تعد ميزة للتيارات الدينية المختلفة مما يجعل كثيرا من الأحزاب يخطب ودها، وتصبح أكثر فاعلية؟ لن نكرر جواب السؤال السابق، لأن مفهوم القوى الدينية في تركيا له وقع خاص غير وقعه في الوطن العربي، فهي لا تنتخب على أساس أيديولوجي مذهبي ديني، وإنما على أساس من تثق بصدقه أولًا، ومن تثق بحرصه على تركيا القوية ثانيا، ومن تظن قربه من المواطن التركي العادي، أي القائد المتواضع والمؤمن والأمين، والقوى الدينية وأمثالها يكمن تأثيرها هذه الأيام من خلال أوقافها ومؤسساتها المدنية ومجوعات الأعمال التي لها ارتباط بها، وهي نفس القدرة التي تتواجد لدى القوى الأخرى تقريبًا. يبدو أن تركيا لم تشهد صراعًا دينيًا بين «القوى المحافظة» و»القوى الإصلاحية» إن جاز التعبير، بل يبدو المشهد الديني أكثر انسجامًا بين مختلف الفصائل الإسلامية، إلى أي مدى هذا صحيح، وكيف ساهم ذلك في نهضة تركيا؟ الصراع بين القوى المحافظة والقوى الإصلاحية كان على أشده في بداية القرن الماضي العشرين، عندما كانت القوى المحافظة تدافع وتقاتل من أجل إبقاء تركيا في أنماط العيش التراثي العثماني، وهذه القوى لم تكسب المعركة في ذلك الوقت، وكذلك لم تنجح القوى الإصلاحية في المعركة، لأن الخلافة ألغيت وأقيمت الجمهورية التركية الكمالية عام 1924م، وبعدها ولمدة ثلاثة عقود لم يكن يسمح للقوى المحافظة ولا الإصلاحية بالظهور الاجتماعي ولا السياسي، وبعد الخمسينيات وإعلان الدستور التعددي، أي الذي سمح بالتعددية السياسية الحزبية لأول مرة على أساس علماني غربي من ناحية التطبيق، اضطرت الأحزاب الإصلاحية العلمانية التركية بالاهتمام بالقوى المحافظة ومطالبها الدينية والاجتماعية، وبقي الحال على هذا النحو حتى ظهرت في مطلع السبعينيات القوى الإصلاحية في مقابل الديكتاتورية العسكرية والقوى العلمانية المتشددة والمغلقة، حتى ظهور حزب العدالة والتنمية في مقدمة القوى الإصلاحية الإسلامية. الدين والدولة هل يروج النموذج التركي لنموذج علماني لا يتعارض مع الدين وإنما يتصالح معه؟ رغم أن «العلمانية» كمصطلح وخلال التجارب التاريخية محمل بأفكار عدائية للدين أو على الأقل منحية له عن الحياة في أحسن أحوالها؟ هذا سؤال جوابه يطول ويحتاج إلى مقالات موسعة لتوضيحه، لكن وباختصار مفهوم العلمانية حمال أوجه وله معان كثيرة، ونحن نختار منها مفهومه الأصلي يوم ظهوره في الغرب، وليس ما نقل وترجم إلى اللغات الإسلامية وبالأخص اللغة العربية، فأصل الكلمة الدنيوية وهي بالمصطلح الانجليزي (السيكيولارية)، وفي الفرنسي (اللائكية)، وكلاهما يعني الدنيوية هذا من الناحية النظرية. ومن ناحية التطبيق أبعدت النظام الكنسي في أوروبا عن ممارسة صلاحيات الحكم الدنيوي، وهذا ليس بالضرورة أن يطبق في كل البلدان ومع كل أصحاب الأديان، وإذا كان ولا بد من تطبيقه تقليدًا للغرب، فالأحرى أن يطبق حيث يكون تطبيق الدين عندهم مشابها للتطبيق الكنسي المسيحي في أوروبا في ذلك الوقت، أي أن يكون القياس على أساس العلة المشتركة والنتائج المرجوة وإلا فلا، ومن هنا ليست العلمانية الانجليزية مثل العلمانية الفرنسية من ناحية التطبيق، ومن باب أولى ألا تكون العلمانية التركية مثل العلمانية الأوروبية من ناحية التطبيق، ولذلك فعلمانية تركيا في القرن الحادي والعشرين ليست علمانية تركيا في القرن العشرين من ناحية التطبيق. لكنك طرحت عبارة «العلمانية المؤمنة»، هل لك أن توضح ما هي هذه العلمانية؟ أليست هي التي تقصي الإيمان والدين فكيف تتصف به؟ العلمانية المؤمنة هي التفكير بالدنيا عقليًا، فقد عرفت العلمانية بأنها الدنيوية، أي أن نعيش الدنيا بعقولنا، وهذا المطلب وهو أن نعيش الدنيا بعقولنا هو مطلب ديني وإيماني في الإسلام، أي أن الإسلام يطالبنا بالعلمانية المؤمنة، ولذلك نطالب بالعلمانية المؤمنة. التجربة التركية والعرب دعني أنتقل إلى محور الاستفادة من التجربة التركية عربيًا؛ من ضمن الخلافات الجوهرية بين المجتمع التركي والعربي أن المجتمعات العربية مبنية في الأساس على القبائل والعشائر وامتداداتها التاريخية وانعكاساتها القيمية والأخلاقية، هل هذا برأيك يشكل عائقًا أمام نقل التجربة والاستفادة منها؟ العشائر والقبائل هي أوعية طبيعية وفطرية تحفظ الأسر والأنساب والأصهار، ولذلك طالب القرآن الكريم باحترامها وفرض صلة الأرحام لها، ولكنها ليست أوعية عقلية ولا دينية، لذلك استثمرها الرسول عليه الصلاة والسلام في نصرة الحق والدين بعد أن علمها الكتاب والحكمة، فالدين هو الذي يهدي للتي هي أقوم وليس الانتماء القبلي ولا العشائري، فإذا تعارضت العشائرية مع الدين، فإن السلوك العشائري حين يكون ضد الحق لا يعد رابطة طبيعية ولا فطرية، لذلك فإن العشائرية المؤمنة هي الحل إذا اصطدمت العشائرية بقيم النهضة الصحيحة. دعوت في كتابك إلى تجديد الفكر الإسلامي، هل يمكن أن ينتعش الفكر الإسلامي إذا كانت المجتمعات الإسلامية تعاني أزمات اقتصادية وانسدادات سياسية، ألا ينمو الفكر مع نمو هذه المجالات؟ تجديد الفكر الإسلامي لا يتوقف على التجديد في جانب واحد دون آخر، وبالتالي فإن تجديد الفكر الإسلامي ينبغي أن يتضمن التجديد الاقتصادي مثل التجديد الفكري والاجتماعي والسياسي، أما إذا تعرضت المجتمعات الإسلامية إلى حصار اقتصادي لكي لا تنهض ولا تقوى على مقاومة أعدائها، فإن التجديد الفكري يكون عزيمة كبرى على الصبر وتحمل الصعاب حتى يتم التغلب على أداء الشعوب المستضعفة، وقد قيل إن الحرة لا تأكل بثدييها، ونقول إن الأمة الإسلامية الحرة لا تستسلم لجوعها ولا لتجويعها.