التجربة الثرية لحزب العدالة والتنمية خففت إلى حد كبير من استبدادية العلمانية الأتاتوركية، وأحالت المجتمع التركي، أو تكاد، إلى مجتمع محكوم بعلمانية سيكولارية أدت إلى استقلال شؤون الحكم كشأن دنيوي بحت، عن الشأن الديني، وما نتج عنه من تساوي النظرة تجاه كافة الأديان والمذاهب كنت كتبت مقالاً بتاريخ (25/6/2011م) بعنوان: (تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا والقابلية للاستنساخ)، أشرت فيه إلى "أن نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، أغرى فئاماً من الكُتّاب والمحللين والمنظرين السياسيين بمد أشرعة تفاؤلهم نحو إمكانية نقل تجربته إلى جماعات الإسلام السياسي، عربية كانت أم غير عربية". وقلت "إن بعض أولئك المتفائلين لم يجد غضاضة في مد سقف طموحه إلى حد توقع فيه أن تتبنى أحزاب وجماعات ممعنة في استصحاب مفردات الإسلام السياسي، سواءً أكانت بالنسخة السنية كالإخوان المسلمين، أم بالنسخة الشيعية المبطنة ببطانة ولاية الفقيه كحزب الله، نفس تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، هكذا بجرة قلم، غير مدركين لجوانب الاختلاف بين السياقين اللذيْن يمارس فيهما كل من حزب العدالة والتنمية من جهة، وبقية الأحزاب الإسلامية من جهة أخرى، نشاطاتهما السياسية". كنت أعتقد حين كتابتي لذلك المقال أن هذا الأمر، أعني علمانية السياسة، مقابل حرية التدين، وبالجملة: حرية الاختيارات الفردية للسياسيين، كما في حال زعماء حزب العدالة والتنمية التركي، من قبيل المعلوم من إحداثيات السياسة المعاصرة بالضرورة، على الأقل لمن هم يقفون على هرم الأحزاب السياسية الإسلامية، ولذلك، كنت أبرر ما أثرته في المقال، بأني كنت أريد إيضاح بعض الحقائق الملتبسة لقطاع شعبي عريض لا يفرق بين الممارسات الفردية للسياسي، المحسوبة على اختياراته الشخصية المكفولة له كمواطن، وبين تعاطيه للسياسة في نظام علماني يقف على الحياد التام من الاختيارات الفردية لأفراد الشعب، إلا أن هذا الجهل بطبيعة هذا الفرق لا يقتصر، على ما يبدو، على الطبقة الشعبية، بل إنه يتعداه إلى القياديين أنفسهم. لقد أدركت ذلك من نوعية الاستقبال، والعبارات التبجيلية التي قابل بها زعماء الإخوان المسلمين رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) عند زيارته للقاهرة في الثاني عشر من الشهر الجاري، ثم عزوفهم عنه ومجافاتهم له وتبرئهم منه لمّا أفصح عن رؤيته العلمانية. فلقد قاد شباب الإخوان مظاهرة كرنفالية في مطار القاهرة احتفاءً بأردوغان، زوقوها بشعارات ترمز إلى الخلافة الإسلامية، على وقع إيحاء وجداني بأن أردوغان وحزبه ذا البطانة الإسلامية سيعيدون الخلافة العثمانية جذعة في تركيا، ثم يمدون جسورها فيما بعدُ إلى باقي البلاد الإسلامية. ويبدو أن قيادات الإخوان وشبابهم توقعوا أن يطل عليهم رئيس الوزراء التركي من الطائرة وقد تسمى ب"أردوغان الفاتح!"، ومرتدياً جبة وعمامة عثمانيتين، ومبشراً بأنه قرر نقل عاصمة الخلافة من أنقرة إلى اسطنبول بعد إعادة تسميتها إلى"الآستانة". لكن أردوغان فاجأ شباب الإخوان وشيبهم بما لم يكن في حسبانهم، فلقد دعا المصريين كافة إلى "إقامة دولة علمانية تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمذاهب". وبعد أن عرّف العلمانية ضمن المنظور التركي بأنها "تلك التي تتعامل مع أفراد الشعب على مسافة متساوية من جميع الأديان"، عاد فأكد على أن" الدولة العلمانية لا تعني دولة اللادين، وأن العلمانية الحديثة لا تتعارض مع الدين، بل يجب عليها أن تتعايش معه، معرباً عن أمله في إقامة دولة مدنية في مصر تقوم على احترام جميع الأديان والشرائح في المجتمع". تكمن المشكلة هنا في أن قيادات الإخوان، ناهيك عن جمهورهم، ربطوا بين تدين أردوغان الشخصي، مثلما هو تدين بقية أعضاء حزب العدالة والتنمية التركي، وبين إسلامية مفترضة في النظام السياسي التركي. فطالما أن الحزب إسلامي الجذور، وأعضاءه متدينون يؤدون الشعائر، وزوجاتهم محجبات، فالدولة والنظام السياسي في تركيا سيكونان، ولا بد، إسلاميين. هكذا كانت رؤية الإخوان والسلف، ومعظم مسيري الأحزاب السياسية الإسلامية، في جهل فظيع ومروع بالفصل التام الذي تقيمه الأنظمة العلمانية بين الاختيارات الشخصية للمواطنين، ومن ضمنهم من يقفون على رأس الهرم السياسي فيها، وبين السياسة كما يجب أن تمارس على قاعدة الحياد التام بين كافة الأديان والمذاهب والتيارات. كما كنت كتبت مقالاً آخر بتاريخ (18/4/2007م) بعنوان: (العلمانية وصف لا ينطبق على الأفراد)، رأيت فيه" أن العلمانية صفة للنظام السياسي في الدولة، إذ يقال: نظام حكم علماني، تمييزاً له عن نظام الحكم الثيوقراطي، ولا يصح بالتالي إطلاقها، أعني العلمانية، على الأفراد أو المنظمات". وخلصتُ في ذات المقال إلى أنه "لا مجال لوصف أي فرد أو منظمة أو جماعة ما بأنهم علمانيون". هذا الأمر جاء من ضمن ما أكد عليه أردوغان على هامش حديثه عن العلمانية، بقوله:"... أما الأشخاص فلا يكونون علمانيين، يستطيعون أن يكونوا متدينين، أو غير متدينين، فهذا شيء طبيعي". وبقوله عن نفسه: "أنا لست علمانياً، أنا رجل مسلم، لكني رئيس وزراء دولة علمانية". وبالمناسب، فهذا الخلط لا يزال يمارس لدينا على نطاق واسع، فمن السهل وصف فرد ما بأنه علماني، عطفاً على رأي له ربما فهم خارج نطاق سياقه، بل حتى في حال ذلك الفرد الذي يتبنى الدعوة إلى توطين العلمانية، لا يصح معرفياً أن يطلق عليه لقب"علماني". لقد ساد هذا الخلط الفظيع بيننا بشكل مفرط منذ الثمانينيات الميلادية، وتحديداً مع شيوع أدبيات الصحوة، فلقد كانت أنسب تهمة يطلقها الصحويون إذ ذاك على خصومهم، هي أنهم علمانيون، حتى لو كانوا لا يعرفون من العلمانية إلا اسمها. ولعل مما له دلالة على فهم أردوغان العميق لمدلول مصطلح العلمانية قوله: "مفهوم العلمانية ليس مفهوم رياضيات كأن نقول: (حاصل اثنين ضرب اثنين يساوي أربعة)، فتعريفات المفاهيم الاجتماعية تختلف فيما بينها، والعلمانية في المجتمع الأنغلوسكسوني لها مفهومها المختلف عنه في أوروبا، كما أن المفهوم التركي لها مختلف، وقد دفعنا ثمناً باهظاً من أجل ذلك المفهوم في تركيا". وهذا صحيح من الناحيتين: التاريخية والعملية، فالتجربة الأنغلوسكسونية للعلمانية (السيكولارية) كما هي مطبقة في ألمانيا وأمريكا وبريطانيا، تختلف من حيث الاشتقاق والمعنى المباشر، عن التجربة الفرنسية للعلمانية (اللائكية) مثلا، إلا أن ثمة رابطاً عضوياً يربط بينها جميعا، هو: ضمانها حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب، انطلاقًا من أن الدولة كيان مدني لا دين خاصاً به، وهي التجربة المطبقة حالياً في تركيا، خاصة بعد إغنائها بالتجربة الثرية لحزب العدالة والتنمية، تلك التجربة التي خففت إلى حد كبير من استبدادية العلمانية الأتاتوركية، وأحالت المجتمع التركي، أو تكاد، إلى مجتمع محكوم بعلمانية سيكولارية أدت إلى استقلال شؤون الحكم كشأن دنيوي بحت، عن الشأن الديني، وما نتج عنه من تساوي النظرة تجاه كافة الأديان والمذاهب. عطفاً على هذا المنظور الأردوغاني للعلمانية، فمن الطبيعي أن تستفز دعوته إلى تبني العلمانية، قيادات الإخوان، الأمر الذي دعاهم إلى الانقلاب عليه بعبارات حانقة، من أبرزها ما جاء على لسان المتحدث باسم الجماعة (محمود غزلان) من "أن تجارب الدول الأخرى لا تستنسخ، معتبراً نصيحة أردوغان تدخلاً في الشؤون الداخلية لمصر". وكذلك تحذير عصام العريان نائب رئيس (الحرية والعدالة!!) المنبثق عن جماعة الإخوان "من سعي تركيا للهيمنة على الشرق الأوسط"، وقوله: "نحن نرحب بتركيا، ونرحب بأردوغان كزعيم متميز من زعماء المنطقة، ولكننا نرى أن بلاده لا تستطيع لوحدها قيادة المنطقة أو رسم مستقبلها"، و"أن البلاد العربية لا تحتاج إلى مشاريع خارجية، فهذا يجب أن يأتي من داخل الأنظمة العربية". وهذه التشنجات الإخوانية متوقعة، فالعلمانية، كما عرّفها أردوغان، تقضي على الشعار الوحيد الذي يُبقي على الجذوة الإخوانية مشتعلة. ذلك أن سن دستور ينأى بالدولة بعيداً عن التدخل في الاختيارات الشخصية لمواطنيها، لا يبقي أي أثر للشعار الإخواني الأصيل: الإسلام هو الحل. إذ ستكون الشعارات الدينية والمذهبية حينها محظورة في عالم السياسة: ترشحاً وممارسة، وهذا ما يسقط الرهان الوحيد بيد الإخوان، وغيرهم من جماعات الإسلام السياسي. ويبدو أن مظاهر الطلاق البائن بين حزب العدالة والتنمية التركي ومجايليه في البلاد الإسلامية بدأت بوادرها منذ الآن.