ربما ليس ثمة حزب سياسي أثار في العقد الأخير كثيراً من الجدل والإشادة والنقد كحزب العدالة والتنمية التركي.. ذلك أن الأداء السياسي للحزب كان لافتاً ومثيراً لأطراف عديدة (خصومه في الداخل، حكومات عربية وغربية، حركات إسلامية، أحزاب علمانية، نخب ومثقفون وسياسيون). في الداخل الإسلامي ثار سؤال كبير عن مدى إسلامية حزب العدالة والتنمية التركي الذي ما فتئ قادته يكرّرون التصريح بأنه حزب علماني يميني محافظ.. ومع ذلك لا أظن أن ثمة متابعاً جيداً ومنصفاً لتاريخ ومسار الحزب وقادته إلاّ وسيصل إلى نتيجة واحدة مفادها: أنه حزب إسلامي صميم.. لكنه حزب مختلف.. حزب قادر على العمل بمهارة فائقة وفق مساحات الحركة المُمكنة والمتاحة، ويقوم بحساب خطواته جيداً قبل الإقدام على أي تحرك سياسي نوعي. بالنسبة لي.. فأنا لا أخفي إعجابي بتجربة الحزب الرائدة والاستثنائية.. وأعتقد أنها من أكثر التجارب الإسلامية تقدماً ورقياً؛ فقد استطاع هذا الحزب تجاوز الأطر التقليدية لحركة الإخوان المسلمين وترهّلها الفكري والتنظيمي، وصار أكثر انفتاحاً ومرونة وفهماً لتعقيدات الشأن السياسي، وأكثر قدرة على اقتناص الفرص لتحقيق أفضل نتائج ممكنة.. لذلك أعتقد أن أفضل ما يُمكن أن نصف به هذا الحزب إضافة إلى حركات إسلامية أخرى في العالم العربي هي أقل حضوراً على الأرض بأنه يمثل اليوم أحد أنجح تجارب (حركات ما بعد الإخوان). في السطور التالية سأحاول أن أحكي بإيجاز شديد شيئاً من الأسباب التي تدعوني للإشادة بتجربة هذا الحزب. في الوسط السياسي التركي لا يُسمح لأي حزب بالعمل السياسي إلاّ حين يكون ملتزماً بقواعد سياسية وفكرية محددة، على رأسها أن يعلن الحزب (علمانيّته) واحترامه لأسس الدولة الكمالية.. لذلك كان أمام حزب العدالة والتنمية -الذي تأسس في العام 2001م- خياران اثنان؛ إما أن يقبل بالتخلي عن صفة (الإسلامية) بحيث يُعلن أنه حزب علماني، وعندئذٍ سيستطيع المشاركة في الحياة السياسية. أو أن يُصِرّ الحزب على إظهار هويته الإسلامية، وعندئذٍ سيبقى أعضاء الحزب الذي لن يُسمح له بالتأسيس مجرد متفرجين على المشهد السياسي، دون المشاركة فيه. أي أن الحزب كان بين (خيار واقعي ضاغط) و (خيار مبدئي).. فإذا اختار الحزب الانخراط في (الخيار الواقعي) وذلك عبر تقديم بعض التنازلات المبدئية التي منها تنازله عن صفة الإسلامية، وما يتبع ذلك من تغييرات في برنامج الحزب، عندها سيكون باستطاعته أن يُشارك في الحياة السياسية ويحقق نتائج فعلية على الأرض، وسيسعى عملياً للتخفيف من غلواء العلمانية التركية وتوسيع هامش الحريات الدينية في المجتمع التركي.. وفي حال اختار الحزب التمسك ب (الخيار المبدئي) فإن غاية ما سيكون قد حققه هو (براءة ذمة)، ومن ثم الخروج من الملعب السياسي والاكتفاء بالجلوس على مقاعد المشاهدين الذين لا يملكون أدنى قدرة على تحقيق شيء من النجاحات على الأرض. وذلك بسبب ما ذكرته اشتراط النظام التركي إقرار كل الأحزاب السياسية بعلمانيّتها. ولأن حزب العدالة والتنمية يُدرك أنه يخوض لعبة سياسية، وأنه ليس جمعية حقوقية أو مؤسسة دعوية، لذلك فهو مسؤول عن (تحقيق نتائج) أكثر مما هو معنيّ ب (الصّدْع بالحق)، ومن ثم الجلوس خارج الملعب السياسي، قرر الحزب أن ينخرط في اللعبة السياسية وفق شروطها الصعبة. وفي الشريعة ثمة أدلة عديدة على مسألة العمل تحت لافتة (الاضطرار)، وبهدف تحقيق نتائج واقعية على الأرض.. ففي صلح الحديبية عمل الرسول -عليه الصلاة والسلام- بمرونة سياسية تهتم بالنتائج أكثر من اهتمامها بمبدئية اللحظة. فرضي بما اعتبره بعض الصحابة (تنازلاً) و(دنيّة في الدين) حين قرر عليه الصلاة والسلام العودة عن الحج في ذلك العام، وحين قَبِل بأن يُكتب اسمه المجرد في وثيقة الاتفاق متنازلاً عن صفة النبوة والرسالة. وكل ذلك من أجل مصلحة أكبر، هي تحقيق هدنة تساعد المسلمين على نشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية دون الانشغال بقتال قريش. وهو ما تحقق فعلاً، حيث تجاوزت أعداد من أسلم بعد الحديبية أضعاف الذين أسلموا قبله. وحين خرقت قريش الهدنة بعد ذلك بعام، كانت دولة المسلمين هي الأقوى في الجزيرة العربية دون منازع. وهو ما مهّد لفتح مكة. ولنا أيضاً أن نتأمل في قصة الصحابي الجليل عمّار بن ياسر.. حين رخّص له الرسول عليه الصلاة والسلام أن (يُعلن الكفر) تحت سطوة التعذيب، ثم نزل قوله تعالى (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) ليؤكد هذا المعنى.. فلنا عندئذٍ أن نتساءل: ما هو المكسب الذي سيلقاه عمار بن ياسر من إعلانه الكفر ومن شتم الرسول؟.. الجواب: حماية جسده من التعذيب. فإذا جاز لمسلم أن (يُعلِن الكفر)، وأن (يشتم الرسول) تحت سطوة الضرورة ومن أجل حماية شأن شخصي (جسد).. أفلا يجوز لحزب إسلامي تحت سطوة الضرورة أيضاً أن يُعلن أنه (علماني) من أجل حماية مصالح (أمة) وتوسيع مساحة التزامها الديني؟! وهذا ما يُسميه الأصوليون قياس الأولى. طبعاً الأدلة من نصوص الوحيين في هذا السياق عديدة. لكن ليس هذا مكان استعراضها. حزب العدالة والتنمية دخل الحياة السياسية في العالم 2001م.. وشارك في الانتخابات النيابية التي جرت بتركيا عام 2002م.. واستطاع الحزب بسبب الخبرة السياسية لقادته واستثماره للنجاحات السابقة لبعضهم في إدارة بعض المواقع كنجاح أردوغان في إدارة بلدية اسطنبول أن يحقق نجاحاً كبيراً في الانتخابات، حيث حصل على نسبة 32% من الأصوات، وبسبب نظام العتبة الذي يُسقط حق أي حزب في دخول البرلمان ما لم يحصل على 10% فأكثر من المقاعد النيابية استطاع الحزب أن يحصل على 64% من عدد مقاعد البرلمان. ومع كل هذا النجاح الكبير الذي حققه الحزب، إلاّ أنه لم تأخذه نشوة الانتصار، بل استطاع أن يتعامل بذكاء وواقعية مُبهرة أمام تعقيدات السياسة التركية؛ فهو يدرك تماماً أنه مازال محل توجس وقلق من مؤسسة الجيش التي قامت قبلاً بعدة انقلابات سياسية على حكوماتٍ سابقة حين تجاوزت الأحزاب الحاكمة الإطار الذي يرتضيه الجيش.. لذلك قرر الحزب أنه في مرحلته الأولى لن يُقدِم على أي خطوات في مسار (الحريات الدينية وتخفيف غلواء التطرف العلماني)؛ لأن ذلك سيُشكل استفزازاً كبيراً لمؤسسة الجيش، ويمكن أن ينتج عنه انقلاب عسكري، أو إقصاء دستوري من الحياة السياسية.. لهذا فَهِمَ الحزب أن الوقت مبكر جداً للإقدام على هكذا خطوات حسّاسة. لذلك قرر الحزب أنه خلال فترته النيابية الأولى يجب عليه أن يعمل على مسارين اثنين لا ثالث لهما: الأول: كسب ثقة الشارع التركي وتوسيع شعبية الحزب وسط الجماهير. والثاني: تحجيم صلاحيات الجيش وتقليل مساحة تدخلاته بالسياسة. ولتحقيق نتائج جيدة في هذين المسارين، أدرك الحزب أن ليس ثمة مدخل لتحقيق المسار الأول (زيادة شعبيته في الشارع التركي) أفضل من (الاقتصاد) والعمل على تحسين الوضع المالي، ورفع متوسط دخل المواطن التركي.. وأنه ليس ثمة مدخل لتحقيق المسار الثاني (تحجيم الدور السياسي للجيش) أفضل من السعي للانضمام للاتحاد الأوروبي الذي من أهم شروط الانضمام إليه ألاّ يتدخل الجيش في الحياة السياسية. في المسار الأول عمِل حزب العدالة والتنمية بدأب على تطوير المنظومة الاقتصادية في تركيا، وإيقاف شبكة الفساد التي نخرت الاقتصاد التركي لعقود طويلة. واستطاع خلال أربعة أعوام فقط أن يُخرج تركيا من أزمتها الاقتصادية الخانقة، أن يُحقق نمواً اقتصادياً استثنائياً مقداره 7% بعد أن كان الاقتصاد التركي متوقفاً عن النمو لسنين طويلة. واستطاع الحزب أن يرفع متوسط دخل الفرد التركي من (2800 دولار في العام 2002م إلى 5500 دولار) في العام 2006م أي الضِعف ، وأن يُخفّض التضخم الذي نخر الاقتصاد التركي، وأثقل كاهل المواطن من نِسَب فلكية (بلغت عدة مئات بالمئة) إلى 9% فقط. واستطاع أن يرفع المعدل السنوي للاستثمارات المالية الأجنبية في تركيا من أربعة مليارات سنوياً إلى أكثر من خمسة وعشرين مليار دولار سنوياً. هذا النجاح الاقتصادي والسياسي المُبهر رفع من شعبية الحزب خلال أربعة أعوام لتزداد بنسبة 50% عمّا كانت عليه في العام 2002م (من 32% إلى 48%)، على الرغم من أن الوسط السياسي التركي معروف بعمق الأيديولوجيا، وشدة الولاء الحزبي الذي يحد بدوره من قدرة أي حزب على الامتداد الجماهيري بهذا الشكل الكبير. وفي المسار الثاني استطاع الحزب ولأول مرة في التاريخ السياسي التركي أن يحقق تقدماً ملحوظاً على مسار انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي؛ فقد استطاع الحزب أن ينتزع موافقة الاتحاد على تحديد جدول زمني لمفاوضات الانضمام، وكان هذا الأمر مطلباً مُلحاً أخفقت في تحقيقه كل الحكومات التركية السابقة.. وبسبب هذا التقدم تضاءل نفوذ الجيش السياسي، وأصبح أكثر حرجاً في تدخلاته بالشأن العام، فضلاً عن استعداده للقيام بانقلاب عسكري على حكومة مُنتخبة؛ لأنه في حال فعل الجيش ذلك وأقدم مثلاً على انقلاب عسكري، فهذا يعني أنه هو المُتسبب الوحيد في إحباط الحُلُم التاريخي لتركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو أمر لا يطيق الجيش أن يتحمل تبعاته. وبعد أن حقق الحزب هذا التقدم المُبهر على هذين المسارين، واستطاع أن يحقق انتصاراً كاسحاً في انتخابات عام 2007م، وشكل إثر هذه الانتخابات الحكومة بمُفرده ودون تحالفات حزبية، قرّر أولاً أي يسير على ذات المسارين (تحسين الاقتصاد لكسب الشعبية.. والتقدم على مسار الاتحاد الأوروبي لتحجيم دور الجيش). ولأن الحزب أدرك أنه الآن في وضع أفضل مما كان عليه في العام 2002م، وأن إقصاءه عن الحياة السياسية لن يكون خياراً سهلاً. قرر حزب العدالة والتنمية أن يفتح في عمله السياسي مساراً ثالثاً هو في غاية الحساسية؛ لأنه مرتبط بمواجهة مباشرة مع الجيش ومع القوى والأحزاب العلمانية المُتشددة، وهو موضوع (إصلاح النظام السياسي التركي). بعد قرار الحزب بالإقدام على خطوات أكثر جرأة في حراكه السياسي، دخل أولاً بمواجهة شرسة وحساسة جداً مع مؤسسة الجيش ومع القوى العلمانية في موضوع انتخاب الرجل الثاني في العدالة والتنمية (عبد الله غول) لموقع رئاسة الجمهورية. وذلك لأن موقع الرئاسة يمتلك صلاحيات دستورية كبرى، على رأسها تعيين قادة الجيش وقُضاة المحكمة الدستورية. لذا رفض الجيش بصرامة تعيين عبد الله غول، وكان من أسباب الرفض التي أعلنها الجيش إضافة إلى الخشية من هيمنة حزب العدالة والتنمية على المشهد السياسي التركي هو رفضه لرمزية وصول سيدة محجبة هي زوجة عبد الله غول لتكون السيدة الأولى لتركيا، وهي سابقة في الحياة السياسية التركية.. ومع كل هذا الرفض، إلاّ أن الحزب أدار معركته الشرسة بكثير من المهارة والحِرَفيّة، واستطاع بعد جهود وتكتيكات وتحالفات أن ينتصر بها، وأوصل عبد الله غول إلى سدة الرئاسة التي كانت دوماً حجر عثرة أمام أي مشروعات تطويرية للحزب. ثم دخل الحزب في مواجهة ثانية مع مؤسسة الجيش والقوى العلمانية حول موضوع وجوب تعديل الدستور، وقد رفع الحزب في هذه المعركة شعاراً ذكياً هو (مزيد من الحريات للشعب التركي)، وتحت شعار الحريات سيضمن الحزب مزيداً من الحريات الدينية التي كانت مرفوضة سابقاً.. لأن الدستور الذي كان معمولاً به حتى تاريخ هذه المعركة السياسية هو الدستور الذي وضعه الجيش بعد انقلابه على الحكومة التركية عام 1980م، حيث حكم قائد الانقلاب كنعان ايفرين كرئيس للبلاد لمدة سبعة أعوام، وصاغ دستوراً يمنح صلاحيات واسعة للجيش، ويقمع كثيراً من الحريات الدينية والسياسية.. واستطاع حزب العدالة والتنمية بعد معركة سياسية شرسة أيضاً أن ينجح في تعديل كثير من مواد الدستور لتسمح بمزيد من الحريات وعلى رأسها الحريات الدينية للشعب التركي. ثم دخل الحزب في معركة سياسية ثالثة كانت هي الأكثر حساسية، وذلك لرمزيتها الشديدة، وهي معركة (الحجاب).. حيث استطاع الحزب بعد معركة سياسية كبيرة أيضاً أن يرفع كل التشريعات التي كانت تمنع النساء المُحجبات من الدخول إلى الجامعات والعمل في الدوائر الرسمية.. ولكن الجيش والقوى العلمانية أُصيبا بتوتر شديد جراء ذلك، وقرّرا الرفض العملي لتطبيق القرار على الرغم من إقراره في البرلمان، وبدأت جولة لتصعيد الموقف تجاه الحزب، وذلك عن طريق رفع لائحة اتهام إلى المحكمة الدستورية العليا تتهم حزب العدالة والتنمية بأنه ينوي إقامة حكومة دينية، إضافة إلى تُهم أخرى عديدة (لائحة الاتهام كانت تتجاوز السبعمائة صفحة!!). وكان حزب العدالة قلقاً من المحكمة الدستورية التي كان جميع قضاتها من المُعينين قبل وصول عبد الله غول إلى الرئاسة لأن الرئيس هو من يوقع مراسيم تعيين قضاة المحكمة الدستورية وغالبية هؤلاء القضاة من المحسوبين على العلمانية المتشددة.. لكن الحزب الذي كان مُهدَّداً بالحلّ من قِبَل المحكمة الدستورية، استطاع أن يُقدم بعض التنازلات والتسويات، وأفلت من قرار الحل الذي كان سيشكل ضربة كبيرة له. كل هذه المعارك السياسية التي أدارها الحزب، كان يقتحمها وهو يعرف تماماً (هامش المُمكن والمُتاح)، ويُدرك أبعاد المعركة وطبيعتها مقارنة بتوازنات المشهد السياسي المحلي والدولي، وبمدى امتداده الكبير في الشارع التركي، وبمدى علاقاته الجيدة بالحكومات الغربية، وكلها عوامل تزيد من قوته وثِقله في الوسط السياسي.. ولكنه يدرك أيضاً واقعية المشهد السياسي التركي الذي مازال اللاعب الرئيس فيه هو الجيش، ومازالت العلمانية فيه خطاً أحمر لا يمكن الاقتراب منها. ولأن قيادة الحزب تعرف تماماً "هامش المُمكن"، اتخذ قائد الحزب رجب طيب أردوغان مواقف مُشرّفة وهجومية تجاه إسرائيل في حربها الأخيرة على قطاع عزة.. وكان في مواقفه تلك يتصرف بذكاء واضح، حيث كان يوجّه أشد النقد لإسرائيل، لكن في ذات الوقت يتعمد أن يحمل هذا النقد بعض الإثارة للنرجسية التركية، فيقول مثلاً: كيف تجرؤ إسرائيل على ضرب قطاع غزة وكانت قبل ذلك قد وافقت على الوساطة التركية؟! يجب أن تتعامل إسرائيل مع تركيا على أنها دولة عظمى.. وقال مرة: نحن أحفاد العثمانيين الذين أداروا العالم، لا نقبل أن تتعامل معنا إسرائيل بهذا الشكل.. إضافة إلى تصريحاته العديدة التي انتقد فيها إسرائيل بشدة دون أن يثير حفيظة الجيش التركي، لكونه ضرب على وتر (النرجسية الطورانية) وعظمة الدولة التركية. وكان من آخر الخطوات الجريئة لأردوغان في هذا السياق، قراره بمنع إسرائيل من المشاركة في المناورات العسكرية التي كانت مُعدة سلفاً بين تركيا وإسرائيل وأمريكا وإيطاليا، إضافة إلى دول أخرى من حلف الناتو فوق الأراضي التركية.. وهو ما سبب غضباً أمريكياً وإيطالياً فضلاً عن الغضب الإسرائيلي تجاه هذا القرار.. فهددا بانسحابهما من هذه المناورات وإلغائها إذا لم تتراجع تركيا عن قرارها.. ولم يتراجع أردوغان.. فألغيت المناورات. واستمرت القيادة التركية تتعامل بشكل حازم وحادّ مع إسرائيل، وخاض أردوغان كثيراً من المعارك السياسية ضد الكيان الصهيوني، مثل انتقاده الشهير للرئيس الإسرائيلي من على منصة منتدى (دافوس)؛ فقد اتهم شيمون بيريز والجيش الإسرائيلي بأنهم قتلة الأطفال. إضافة لقيامه بغضب من المنصة حين رفض مدير المنتدى إتاحة المجال له لإكمال انتقاده للوحشية الإسرائيلية.. ومثل إصراره على مشاركة حركة حماس في المؤتمر الذي حصل في أوروبا لمحاولة حل مشكلة الحرب على قطاع غزة، حتى إن أردوغان قال: إذا لم تحضر حماس، فسنكون نحن من يُمثل حماس في المؤتمر. وعندما سأله الصحفي والكاتب فهمي هويدي في حوار معه بأن إسرائيل كانت تخترق على الدوام الأجواء التركية.. قال أردوغان: كان ذلك قبل حكومة العدالة والتنمية.. فسأله هويدي: وماذا في حال كررت إسرائيل ذلك الآن؟.. عندها أجاب أردوغان بغضب: عندئذٍ ستجد منا رداً مزلزلاً. أيضاً يمكن أن نذكر في هذا السياق موقف أردوغان الشُجاع والمُشرّف عندما رُشِّحت الدنمرك كي تكون رئيسة لحلف الناتو لمدة عام، فوافق جميع أعضاء الحلف باستثناء تركيا التي اعترضت على رئاسة الدنمرك والنظام الداخلي للحلف ينص على وجوب موافقة جميع الأعضاء بالإجماع لأنها أهانت مشاعر المسلمين بالرسوم المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أردوغان إنه لن يوافق إلاّ بعد أن تعتذر الدنمرك للمسلمين، بل وطلب ثمناً سياسياً آخر من الوسيط الأمريكي نظير موافقته؛ فقد قال له: ويجب أيضاً أن تكون زيارة الرئيس أوباما الأولى إلى العالم الإسلامي هي لتركيا.. لما في ذلك من إضافة مهمة للرصيد السياسي التركي.. وبالفعل تحقق له ما أراد. أيضاً يلحظ المتابع أن في ثنايا تجربة العدالة والتنمية عموماً وأردوغان بالتحديد كثيراً من المواقف التربوية والوجدانية التي تستحق التقدير.. فحين سئل أحد الصحفيين أردوغان ذات مرة عن موقف نجم الدين أربكان من حزب العدالة والتنمية حين اتهمهم بالعمالة والخيانة، وأطلق عليهم عدة أوصاف عنيفة، ثم قال الصحفي في ختام سؤاله: فكان أن قمتم أنتم أيضاً أي حزب العدالة والتنمية بانتقاد أربكان.. عند ذلك يروي الصحفي أنه في هذه اللحظة احمرّ وجه أردوغان، وقال بلغة يشوبها الغضب والحزن: نحن لا يمكن أن ننتقد أستاذنا.. أربكان أستاذنا وله الحق في أن يقول عنا ما يشاء.. ونحن لا يمكن أن نردّ عليه.. فليس من تربيتنا أن نُسيء إلى مُعلمينا.. بل أنا أحاول الاطمئنان على صحته دوماً وأتصل عليه بشكل شهري. أيضاً القصة الشهيرة التي حصلت بين أردوغان وعبد الله غول.. ففي بداية تأسيس الحزب ومشاركته في الانتخابات النيابية الأولى، كان رجب طيب أردوغان ممنوعاً من العمل السياسي بموجب أمر قضائي لمدة خمسة أعوام، لا تنتهي إلاّ في أواخر 2003م.. لذلك قاد عبد الله غول حزب العدالة والتنمية في الانتخابات، وبعد فوز الحزب صار عبد الله غول رئيساً للوزراء. وبعد حصول حزب العدالة والتنمية على أغلبية برلمانية استطاع البرلمان أن يرفع الحظر السياسي عن رجب طيب أردوغان.. وعندها واجه الصحفيون عبد الله غول وسألوه: أنت المؤسس الحقيقي للحزب، وصاحب تاريخ سياسي طويل، ولكن ماذا لو دخل أردوغان إلى البرلمان بانتخابات فرعية، فمن سيُصبح رئيساً للوزراء؟ عند ذلك أجاب عبد الله غول بسرعة تثير الإعجاب: بكل بساطة سأتراجع خطوة إلى الوراء.. أردوغان هو رئيس الوزراء. وبعد هذه الحادثة بخمسة أعوام، وبعد الانتخابات النيابية الثانية عندما حل موعد الاستحقاق الرئاسي، قرر حزب العدالة والتنمية ترشيح عبد الله غول رئيساً للدولة، ولكن الجيش والقوى العلمانية رفضت بشدة، خاصة أن زوجة عبد الله غول كانت محجبة، وهذا يعني أن تكون السيدة الأولى في تركيا مُحجبة، وهو أمر لم يحصل منذ تأسيس الجمهورية عام 1924م. ولكن الحزب دخل في مواجهة مع الجيش والقوى العلمانية، ووصل الأمر إلى حد أن القوى الرافضة وافقت على أن يكون رئيس الدولة من أعضاء حزب العدالة والتنمية، ولكنها وضعت فيتو على اسم عبد الله غول تحديداً، وقالوا للحزب: اختاروا أي شخص آخر غيره.. ولكن أردوغان قرر الوفاء لرفيق النضال الذي تراجع له عن رئاسة الوزراء دون تردّد، رامياً ببراغماتيته المعتادة في سلة المهملات، غير عابئ بتهديدات العسكر وتوحش القوى العلمانية.. لذلك قال أردوغان بحزم: لن يكون الرئيس القادم سوى عبد الله غول.. وبالفعل، تحقق له ما أراد.. ووصل غول إلى سدة الرئاسة.. غول الاقتصادي النظيف، والسياسي المتمرس، استطاع الوقوف على قمة هرم الجمهورية التركية، وتحت قدميه تلظت كل القوى العلمانية من الغيظ والحنق وهي ترمق هذا الإنجاز المبهر لأبناء الحركة الإسلامية النجباء، دون أن تسعفها الحيلة والقوة لوأد هكذا نجاح. في تجربة حزب العدالة والتنمية التركي الكثير الذي يمكن أن يُحكى، ولكنني رغبت فقط في أن أشير باقتضاب إلى بعض مكامن القوة في هذه التجربة، والتي إن استمرت بهذا النجاح فستكون دون شك نموذجاً مُلهماً للحركات الإسلامية الأخرى، وتجربة إسلامية تستحق الإشادة والدراسة، لِكَون هذه التجربة تعتمد على مبدأ سياسي مهم هو (تحقيق أكبر قدر من النجاح على الأرض)، وفق حسابات المُمكن والمتاح سياسياً، ودون الإقدام على ارتكاب قفزات رعناء وغير محسوبة، قد تودي بكثير من نجاحات تلك التجربة. بالطبع إنني حين أستعرض تجربة حزب العدالة والتنمية التركي فأنا لا أدعو لنقل تلك التجربة بحرفيتها إلى العالم العربي؛ لأن المناخات السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية تحوي كثيراً من مواطن الاختلاف.. ولكنني أدعو إلى استلهام ذات (العقل السياسي) الذي يعرف طبيعة المطالب الاستراتيجية وطبيعة تكتيكات المرحلة، ويُدرك متى يتقدم ومتى يتراجع، متى يُعارك ومتى يُسالم.. أنا أدعو لاستلهام هذا (الدينمو الفكري) كي يشتغل في منطقتنا ودولنا وفق ظروفها وتعقيداتها السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية.