ومنذ أن أحجمت عيوننا عن الدموع، جفّت ينابيع السماء من خيراتها، وأمسكت أنوارُ التجلياتِ، وغيوثُ الإلهامِ عن الهطول.. فلا ورد ينبت، ولا زهر.. وباتت الأنوار تنحدر من السماء متعثرةً، والنسيم يهب بين الحين والآخر منهَكًا.. سكان السماء لَهْفى إلى أنّات أهل الأرض ونحيبهم.. والرحمة التي تريد أن تتحوّل إلى سحائبِ بُشْرَى، تستغيث الأجفانَ دموعها. كما بكى "ذهني" قائلاً: كأنّ رياضَ الوردِ اشتعلتْ فيها النيرانْ، واستلبتْ الحيّةُ السوداءُ عرشَ سليمانْ، واستعرتْ بالأنينِ حتى ذابت أحشاءُ العاشقينْ، وتحوّلتْ أيامُ الوصالِ إلى غمٍّ وهجرانْ... ومَن يدري، فلعلّ الأرواحَ الطاهرةَ التي ترفرفُ في السماءِ، تترقبُ تدفقَ الدموعِ من عيوننا لكي تناجيَ الغيومَ وتستحثّها على الهطولِ. ومَن يدري، فلعلّ عيوننا تفيضُ بحارًا من الدموع إزاء ما ألمّ بنا من نوازل ومهمّات، فتمتلئ للتوّ آفاقِ الملكوت بسحائب محمّلة بالرحمةِ الواسعةِ، وتنتبه السحائب إلى أخطائنا ومعاصينا، تجرفها أمواجُ الدمع المتدفقة من أجفاننا، فإذا بها تهللُ فرحًا، وتتألقُ ابتهاجًا، وتغني أناشيدَ الربيعِ، ثم تنهمرُ علينا بالرحمةِ والبركاتِ. ومَن يدري، فلعلّ سكانَ السماء، شأنهم في ذلك كشأننا، حينما نأخذُ ماءَ الوردِ فنضمّخ به وجوهنا وعيوننا في ذكرى الميلاد النبوي السعيد.. مَن يدري؟ فلعلّهم يستبقون قطراتِ الدمعِ التي تستروِح بها النفوسُ الملتهبة بالهجران، يمسحون بها وجوههم، ويكحلون بها عيونهم، ويضمونها إلى صدروهم على أنها أعزُّ هديةٍ قُدمت إليهم. إن أخطاءنا وذنوبنا قد طاولت الجبالَ في تعاظمها.. وإنّ حالةَ الأسفِ ودموعَ الندمِ التي تبدو علينا أحيانًا، يغلبُ عليها غُلْواءُ الرياءِ والسمعةِ.. فلا أثرَ للمعاناةِ المؤرِّقةِ في نفوسنا.. وأغلب بكاءاتنا ذات طابع دنيوي، ومشوبة بالعصيان. ومن ثم فنحن لا نحتاجُ اليومَ إلى شيءٍ قدر احتياجنا إلى دموعٍ من الندمِ تُذرَف لِتنقّينا من الأدران التي علقت بنفوسنا منذ قرون. فعسى أن نطرقَ بابَ التوبةِ بها، ونعودَ لنبني سنواتنا البائدة من جديد. إنّ آدمَ -عليه السلام- لما ضخّم "عثرته" في عينيه وكبّرها، حتى بلغت ضخامة قمة "إيفرست"، لم يلجأ إلاّ إلى الدموع لكي يذيبها ويدمّرها عن بكرة أبيها. لقد كان مثل شجرة "العود" تحترقُ رويدًا رويدًا لتغمرَ المكانَ رائحة شذية، إذ لم يلبث أن اضطرمت النيران في أحشائه، فراحَ ينتحبُ بدموعٍ حرّى، ويتلوّى بأنّاتِ الندامة حتى ارتقى إلى سماء القبول، وصار محطَّ أنظارِ الملائكةِ والملأ الأعلى. وعندما انقشعت الغمةُ وانتهت "المكابدة"، أصبح كلُّ يومٍ جديدٍ يشرقُ عليه بأبهى بشائر العفو، وأزهى تهاني الغفران. بعد أن اجترحت أيدينا ما اجترحت من الآثام، وبعد أن عانينا ما عانينا من الجفوة والحرمان، أرى أنه لا يبدو لنا سوى مخرج واحد؛ وهو أن نترصد شواطئ الخلوات المتفتحة على التجليات، ونسبل ستائر الليالي السوداء على رؤوسنا، ثم نخرّ على جباهنا ساجدين منتحبين، لا يرانا أحدٌ، ولا يسمعنا سوى السميع البصير. تعالوا بنا نبكِ ونتلهف على نقضنا لعهدنا، وانهدام وفائنا، وعجزنا المتصل عن إخلاص أعمالنا، وشرودنا ذات اليمين وذات الشمال أثناء سلوكنا، والتواء خطنا، وانحراف استقامتنا، وعدم توفيتنا حقَّ المقام الذي بوَّأَنا الباري عز وجل، وحقَّ المكانة التي تَوّجَنا بها، وعدم وقوفنا موقفًا مشرِّفًا قويًّا يوازي المنن والأيادي التي كُرِّمنا بها.. أجل، دعونا نبكِ أيضًا على كلِّ مَن أساءَ التصرّفَ مثلنا.. بكاءً لم يشهد بمثله الأوّلون والآخرون، حتى يعجبَ أهلُ السماءِ الذين كان البكاءُ ديدنهم، فيسكبوا دموعهم إغاثةً لدموعنا، ويرفعوا أنينهم استجابةً لأنيننا منذ اليوم. أجل، نحن لم نَقدُر المكانة السامية التي كُرّمنا بها حقّ قدرها، ولم نصمد في مواقعنا بعزمٍ صادقٍ، ووعي نافذٍ، وإخلاصٍ عميقٍ. لقد انحلّت الأيدي المتماسكة، وهجرَ الحبيبُ ديارنا، وعصفت رياحُ الخريفِ برياضِ الورودِ فأبادتها، واكتوت أحشاءُ البلابلِ بلهيبِ الفاجعة، وأخذت تشدو بآهاتٍ محرقةٍ، وتبكي بأنّاتٍ ملتاعةٍ... أجل، غاضت الينابيعُ، وجفّت الجداولُ، وباتت الأشواكُ تنذرُ بالهولِ في كلِّ مكانٍ، ونعيبُ البومِ يمزقُ أرجاءَ الأرضِ والسماءِ. آنَ الأوانُ لكي نتحدثَ بلسانِ قلوبنا، وننثرَ قطراتٍ من إكسير الدمعِ على وحشتنا وغربتنا، فننهي عهدَ التصحّرِ المميت. لقد منَّ اللهُ علينا بألطافٍ جليلةٍ مثل الوجود والحياة والحس والشعور والإدراك.. ورسم لنا آفاقًا ومسالكَ للحياة تتناسبُ مع ما جهّزَنا به من مواهب وطاقات. بيد أننا بددنا كلَّ شيءٍ، وأسرفنا في ذلك إرضاءً لأهوائنا الطائشة، ورغباتنا الجامحة، فأخذنا نتدحرج القهقرى، ونتراجع عن المرتقى الذي شُرِّفنا به، ونهوي إلى قاع النزوات، وإذا بنا ننحطّ بالمستوى الإنساني الرفيع، ونلوّث الكرامة الإنسانية، ونلوّث أنفسنا معها. بعد هذا المنحدر السحيق، ألا ينبغي على الأقل، أن نبذل الغالي والنفيس لكي نمضيَ قُدُمًا فيما تبقّى من أعمارنا على خط القلب الذي لا ينحرف ولا يحيد؟! إذن، تعالوا نَهجُرْ أيامَ البؤسِ التي قضيناها ضاحكين عابثين، تعالوا نعزف على أوتارِ الدموعِ مترنمين بنغماتِ البكاءِ والأنين. هلُمّوا نودّع حياةَ اللهو والهوى، ونتدثر بدثارِ الهمّ والمعاناة حتى نكتشفَ أبعادًا أخرى من الحياة، ونستشعر بها في أعماقنا. تعالوا نصغِ إلى ألوان من الهموم، ونستهدِ السبل التي تقرّبنا إلى عظماء المكابدة ممّن يقاسمون الأوّاهين آلامهم، ويشاطرونهم أحزانهم. لقد اندثرت أيامُ عمرنا الخصيبة في ضياعٍ مخيف، وولّى ربيعُ الحياة دونما رجعة. وباتت طلائعُ الليلِ البهيمِ تلوحُ في الأفقِ الغربيِّ تنذرُ بانتهاءِ نهارِ العمرِ الوضيء. فلم يبقَ لنا -والحال هذا- إلّا أن نوقدَ مصباحًا ساطعًا لا يخمدُ نوره استعدادًا لذلك الليلِ الطويل. فلا أقلّ من أن ننتفضَ -منذ الساعة- فنؤوب إلى رشدنا، ونلملم شعثنا، ونعود إلى جوهرنا، فنرطّب حرقة أكبادنا بقطرات من دموعنا.. إذ لم يقطر على وجه الأرض شيء أعزّ وأكرم من الدمع عند الخالق عز وجل، وإنّ تلك القطرات التي تناثرت على وجه التراب ستحوّل أرجاء البسيطة كلها إلى جنّات زاهرة في عهدٍ ليس ببعيد. ناشدتكم اللهَ أن نهبَّ معًا لنكونَ سقّائي دموعٍ في هذه الصحراء المتراميةِ الأطراف، المتآكلةِ من الجفاف، فنقيم موائدَ زاهيةً حديثةَ العهدِ بالسماءِ، تقدم للرائح والغادي فواكهَ غضّةً طريّةً نضيرةً، كلماتُها شبوبُ شوقٍ، ولهيبُ أشجانٍ، ونغماتُها أنينُ قلبٍ، ونحيبُ وجدانٍ.