الدكتور محمد بن عبدالرحمن الفارس، فنانٌ عميق الإحساس، تتلمذ على يد أكثر ثلاثة أصدقاء قربًا لقلبه ولروحه، شديد الوفاء لهم، شديد الانتماء لهم، شرّع كينونته إلى أن استوطنوه حتى نواة أدق خلية فيه، وأدق ثنايا روحه، فلم يبخلوا عليه، وما زال يتلقى منهم دروسه بتواضع وطواعية وسعادة، هؤلاء هم: الأول: الطفل الصغير محمد بن عبدالرحمن بكل ما يحمل من نظافة ونقاء وبراءة، وما يحمل من صور وذكريات وروائح وألوان وأشكال وأسماء وبيوت وأشجار ووجوه وأحداث، لا يسقط أحدًا، كلها جزء من روحه ومن لحم جسده، الطفل بكل ما به من شغف واندفاع للهو بالأشياء، يركبها بعضها فوق بعض كما «البَزِل»، ثم يفرطها ليعيد تركيب ذات الأشياء أشكالًا أخرى، يسميها ثم يخترقها إلى ما بعد الشكل الواقعي المرئي، فلا أحد يعلم كيف بمقدور الطفل أن يتخيّل نواة التمرة حافلةً أو قطارًا، وكيف يقيم حواراته وألعابه واندماجه معها وكأنها فعلًا كذلك.. ولا أحد يعرف كيف يحلم الطفل ويتمنى، ويكدس أمنياته خلف ضلوعهِ، يجمعها بعنايةٍ ويحصيها كل ليلة قبل أن يسرقه النوم، لا يسقط منها خردلةً واحدة. هذا الطفل بكل ما يحمل صديقه ومعلّمه الأول. الثاني: الحياة، الحياة كفرصة تُمنحُ للفعل والتأثير، أي لإنتاج الأشكال الحيّة، النابضة، بأدقّ التفاصيل، ليس في عالم الإنسان فقط، بل يتتبع الفعل (فعل الحياة) في كلّ شيء، في الشجرة كما في الفرس أو الطائر والزهرة والنملة ومسارات ديدان الأرض فوق الرّمال، في الحفيف أو الفحيح أو حتى الصرير والزفير والدبيب والطنين، لذا هو يراها حيث نعتقد أن لا وجود لها، يسمعها حيثُ نظنّه صمت مطبق، ويترجمها لأشكالٍ نظنها مجردةً لكنه تعلّم أن يراها مفعمة بالحياة، بالفعل.. الثالث: الزمن، كحالة مستمرة متواصلة دون انقطاع، بعد انتهاء الحياة كفرصة للفعل، الزمن هنا يكون فعلا من نوع آخر، يُضاف فوق فعل الحياة، ممتزجًا مع أشكال فعل الحياة لينتج أشكالاً جديدة لا حصر لها، يقتفي الفارسُ أثره في كلّ مكان، لا فرق عنده بين بحر وجبل وسهل وواد وصحراء وواحة، كلها بساتين وكروم للزمن تثمر أشكالاً، يستطيع تلمس الحدود بين فعل الحياة فيها وفعل الزمن، الكون السابح في هذه الحدود هو كونه، متعته وسعادته وحزنه وفلسفته، وكلّها مَعين الفن عنده. هذا الخيط الرفيع الذي يمسك به الفارس هو السر الذي يوحد بين الصحراء والجنّة الغناء، يجمع من الصحراء مثلما يضاهي جماله وعطره، جمال وعطر ما نجمعه من جنة غناء! وهكذا علّمني «الفارس..» الإنسان الفنّان كيف أنصت للصحراء بينما تدفع حبّات الرّمل توشوش كل من مرّ فوقها عن أسرارها، وتكشف له عن وشومها.. علمّني كيف أنصتُ لأزيز الضوء يتغلغلُ في لحم كثبانها.. علّمني أن أرى في التّيبُّب إمكانيّات أخرى لعطاء بلا حدود.. علّمني كيف أرى في كلّ عود أثل الأنامل المعلّقة بمناقير اليمام و أجنحة الفراش.. حين ينهكها اللُّهاث.. علّمني أن أضع أذني فوق الصخر في الصحراء لأسمع نحيب البحار، وأضع يدي أتحسّس نبضها إذ علّمني بأنّ لها قلب ذرفت فيه البحار آخر دمعتين قبل الرّحيل، وخبّأت الجداول فيه خريرها وآخر قبضة ماء، ونقشت عليه أختامها، أشكالاً لبصمات الحياة، من رقّته تنبت الأشجار خضراء وارفة الظّلال تستعيد حفيف أوراقها.. علّمني حين يهبط اللّيل، و يهجع الكون في سكون عميق لا قرار له.. كيف أطيع كي تسودني النُّجوم، وكيف أُمسك بيدي حبلا سُريّا يربطها بحبّة الرّمل منذ أن كان للغدير جبينا لُجينا تتلألأ فيه، فيُغشى عليّ بعد أن أصيح: وجدتّها.. وجدّتها.. «كأنّ نُجومَهُ بِكُلِّ مغَار الفَتْل شُدّتْ بيَذْبُلِ» عندها تجتاحك قشعريرة إذ تقمّصكَ امرؤ القيس، فعرفتَ ما تعني الأصالة.. القامة العربيّة المنتصبة كما سيقان النّخيل.. تصهل بين أنامله كما الأفراس، تجمح كلّما كبت. الفارس.. عالم سنكتشفه عمّا قريب..!! ------- (*) طبيب جراح وناقد فني