ب 300 مليون دولار.. تعاون بين «سلمان للإغاثة» و«الصحة العالمية» لاستئصال شلل الأطفال في العالم    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب وسط نيبال    الأرصاد: سحب ممطرة على الرياض ومكة المكرمة والباحة وعسير    ضربت مدير أعمالها.. سجن المؤثرة وحيدة قروج    ال«Clasico».. هيمنة وسيطرة وتفوق أزرق    القادسية يتفق مع هيئة الصحفيين على «شراكة إستراتيجية»    العروبة ينتظر «النصر»    رباعية القيم في أجاويد ٣ بمحافظة خميس مشيط    مبادرة أمانة الطائف توفر كراسي متحركة لخدمة كبار السن وذوي الإعاقة    الجوير وموسكيرا وبلان يحصدون جوائز الافضلية لشهر فبراير    أمير القصيم يزور منتزه غابة عنيزة ويزرع الشتلة 120000    أمانة القصيم وبلدياتها تستعد لشهر رمضان ب 18,729 جولة رقابية    ديوانية القلم الذهبي تتناول الرواية وعلاقتها بالسينما في لقاءها الأسبوعي    اختتام بطولة الخليج للجولف بتتويج الأبطال    خدمات رمضان جندي خفي في مناطق الصراع    لا«عبور».. كل شيء تحت الرصد    أمير تبوك يستعرض التقرير السنوي لقوات الأمن والحماية    العديلي يعود للقصة ب«وقت للحب وقت للحرب»    مثقفون يخصصون «رمضان» لإنجاز مشاريعهم المؤجلة    المفتي العام للأئمة عبر «عكاظ»: ترفقوا بالناس في الصلوات    5 خطوات لتعزيز صحة قلب الأطفال    لاعبون مصابون ب«فوبيا الطيران»    كل ساعة لطفلك أمام الشاشة تضعف نظره    الاتحاد نجم الكلاسيكو    البكيرية تحتفل باليوم العالمي للفراولة    هل انتهت حرب غزة فعلاً؟!    السعودية مفتاح حل أزمة روسيا أوكرنيا    روسيا تغزو الفضاء    الصين.. حوافز مالية للإنجاب!    تنفيذ أكثر من 26 مليون عملية إلكترونية عبر منصة «أبشر» في يناير 2025    الدفاع المدني يحصل على التصنيف المعتمد p 3 m 3 في إدارة المشاريع    التسوق الرمضاني    زراعة عسير تستعد ب 100 مراقب لضبط أسواق النفع العام والمسالخ    المسار الرياضي: رحلة الإبهار    مع عيد الحب    «فنّ المملكة» في جاكس    تراثنا في العلا    الذكاء الاصطناعي يجعل الناس أغبياء    صائم ونفسي رأس خشمي    لن أقتدي بمنافق!    روحانية دون نظير    جازان تودِّع أبطال المملكة للسهام بالفل والكادي    الأولمبية والبارالمبية السعودية تدعو لانعقاد جمعيتها العمومية    كل عام منجز جديد    المستشفيات السعودية تواصل تميّزها عالميًا مع دخول 10 مستشفيات جديدة في التصنيف العالمي    أمير منطقة تبوك يستقبل مدير مكافحة المخدرات بالمنطقة    أمير منطقة تبوك يستقبل قائد القوات الخاصة للأمن والحماية    نجاح فصل التوأم الملتصق البوركيني "حوى وخديجة"    أمير الشرقية يدشن حملة "صحتك في رمضان ويطلع على إنجازات جمعية "أفق" ويتسلم تقرير الأحوال المدنية    "الحياة الفطرية" يطلق 10 ظباء ريم في متنزه ثادق الوطني    المحكمة العليا تدعو إلى تحري رؤية هلال شهر رمضان مساء غدٍ الجمعة    جامعة أمِّ القُرى تحتفي بيوم التَّأسيس لعام 2025م    إطلاق برنامج الابتعاث الثقافي لطلبة التعليم العام من الصف الخامس الابتدائي حتى الثالث الثانوي    أمير المدينة: حريصون على تحقيق الراحة للمصلين في المسجد النبوي    نائب أمير مكة يكرم متقاعدي الإمارة    الأردن يؤكد دعم سيادة سوريا والتنسيق لضبط الحدود    أمير تبوك يواسي بن هرماس في وفاة والده    أمير تبوك يترأس اجتماع الادارات الحكومية والخدمية لاستعدادات رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثبيتي بين استوائين 2 – عرّاف الرّمل
نشر في الرياض يوم 08 - 04 - 2010

طوال مسيرته الشعرية كان هذا البدوي يغترف مفرداته وتصويراته من معجم صحراوي النبع والسمات، يسويها قصائد، ويبثها ضمن ما يسميه (أنغام من الصحراء) حيث اتكأ بصورة خاصة على مفردة (الرمل) التي لم تفارقه منذ أول قصيدة، حتى صارت الركن الأهم في آخر نص، فهي مفتاح شعريته. وبقدر ما كان يتعاطاها من الوجهة اللفظية، كمفردة أصيلة قابلة للاستزراع في آثاره الشعرية، إذ يكثر من الطرق عليها ليؤكد على انسجامه مع ظاهرة لغوية، كان يتعامل معها بالمقابل ك (ثيمة) حيث صار يستحضرها وينوّع عليها في صورة رمز، كما يتضح ذلك التوجه عند مقاربتها وفق مقتضيات النقد الثيمي، فقذ كان يجمعها أحيانا ويفردها تارة أخرى، الأمر الذي يفسر انبساطها برقة حسّية على مجمل نصوصه، واختراقها العمودي لمجمل منجزه كعنصر لغوي، وكركيزة موضوعية لا غنى عنها في كل تحولاته القولية.
وببعض التأني في تفتيش ما سماه (بقايا من أوراق بدوي) يمكن رصد البذرة الشعرية الأولى لمفردة (الرمل) واكتشاف بدايات تغنّيه بها، منذ أن كانت مجرد ذرات ناعمة طافية على سطح نصه بلا ريزومات تجذيرية، إذ بدت في حينها كمفردة تزيينية مذرورة بلا دلالات ساطية على النص، ولا علامات ملامسة لأديم روحه، حيث كان يتفنن في ترديدها كعنصر لغوي ضمن احتفائه بالمخيال السحري للصحراء، إلى أن صارت تنغرس شيئاً فشيئاً في أعماق قصائده، وتترسب كحمولات في قاع بُناها الغائرة، بعد أن حشدّها بدلالات المعنى.
ويمكن التأريخ لأول استظهاراتها في ديوان (عاشقة الزمن الوردي 1400 ه) إذ لم تكن حينها سوى مفردة تعكس منسوب إحساسه المرهف برومانطيقية الوجود، كما يفصح عن ذلك الشعور الفطري عباراته المتأتية من ذات حالمة (حين وجدتك ذات مساء.. على شاطئ الرمل.. حيث تشُبُّ الثواني.. ويفترس الوعد كل الأساطير.. والأغنيات الحزينة). أو كما يتأكد هذا التوظيف البدائي لخام الرمل - كمفردة وكعنصر من الطبيعة - على نفس الوتيرة بعبارات أفقية، وكلمات اعتيادية لا انزياحات تصويرية فيها (على شاطئ الرمل.. ما زال صوتك.. يسهر في شرفات القمر.. وما زال صوتك.. ينقش في الماء: يا شاطئ الرمل.. لن تتلاشى هموم الغجر).
هكذا استمر في التحديق ببرّانية بصره، لا بجوانية بصيرته ناحية ما يسميه (أكوام الرمال) وذلك في قصيدة (الوهم). مماهياً بين ما يستشعره من الأثر البصري للرمال وتضاريس وجهه الصحراوي، فيما بدا آنذاك مرتهناً لمرجعيات الرمل المادية، والوقوع المباشر تحت سطوة أثرها الحسّي، مع استدعاء شحنات واهية من الانفعال الذاتي، لا تكاد تؤثر في بنية نصوصه وسياقاتها، كما أبان عن ذلك الشعور في قصيدة (أغان قديمة لمسافر عربي) بقوله (وجهي رمل الصحراء اللاهث). إلى أن بدأ في قصيدة (أسميك فاتحة الغيث أم هاجس الصحو) برفع منسوب الوعي والإحساس بها، ثم توظيفها الشعري، بمخاطبة من سماها (قارئة الرمل.. عرّافة العشق) وكأنه قد بدأ حينها بالانتباه إلى ما يمكن أن تحدثه أي مفردة مهما كانت هامشية عند مجاورتها لمفردة الرمل، سواء كانت على درجة الانسجام مع سماتها اللغوية أو مفارقة لها.
لكن (ثيمة/ مفردة) الرمل لم تتبلور بشكلها الجمالي الساطي كمعنى، إلا في قصيدة (أقوال: الرمال ورأس النعامة - جمادى الثانية 1403 ه) حين صرخ بمنتهى الاستبشار وكأنه وجد لُقياه الشعرية، أو كاد يقبض عليها (اسكبي في يدي لغة الرمل). ليعمّق هذا الوعي فيما بعد بفكرة تحويل (الرمل) الذي يطمر كل قصائده إلى (معنى) في ديوانه (التضاريس 1984-1986) تحديداً، حيث استهله في (ترتِيلةُ البَدْء) بعبارة جازمة، أشبه ما تكون بالفتح الشعري (جئتُ عرّافاً لهذا الرَّمل) مستعيداً حقه في اللعب بالرمل لغة وموضوعاً ومعنى، مع ملاحظة حالة التماس التي أحدثها مع المزاج الرامبوي، من خلال مفردة (العرّاف) الموحية بالشطح واللاتماسك وحتى الوسواس المرضي. ليتوج كل تلك السيرة في ديوان (موقف الرِّمال) وبالتحديد في قصيدة (موقف الرِّمال موقف الجناس) التي يبدو فيها حس المقابلة السيمترية على درجة من الوضوح بين المكوّنين اللغوي والطبيعي، كما يتوضح انحيازه الجارف للمعنى بالاستدعاء الضمني للنفري بقوله (ضَمَّني، ثُمَ أوقَفَني في الرِّمالْ.. ودعاني: بميمً وحاءً وميمً ودالْ).
وعند الإصغاء، بالمعنى النقدي، لما أنشده من (فواصل من لحن بدوي قديم) يتبين أن بين الاستحقاقين، أي بين أول نص رومانطيقي غنائي وآخر شطحة نصية تأملية لذاته الذائبة في المعنى، يتضح أنه قد آثر الكتابة بالرمل، حيث جعل هذا البدوي الذي (حَبَتْهُ الرمال) من تلك الذرات الغنية بالدلالات لغته، كما اختصر بمنتهى الوضوح والجزم ذلك الانحياز بصورته الشعرية المعبّرة (وأحرف الرمل تجري بين خطواتي). ومنذها أعطى للرمل لوناً (الرمال السُّمر). ووهبه أحاسيس بشرية (حُمى الرمال). وعادَّل تشكُّلاته باحتمالات الماء (جاء محمولاً على موج الرمال). ثم أنسنّه (وإن الرمال لها أوردة). وأسبغ عليه نعومة وصفاء الأنثى (وأحيل الرمل فجراً أمرداً). وجس به دورة الأفلاك (أما زلت تتلو فصول الرمال). وأحاله مرآة لليأس (تستسقي الرمال).
ويبدو أن الثبيتي (الذي عتَّقته رمال الجزيرة) قد وجد في الرمل معنى قابلاً للتفجير والتنويع عليه بلا حدود، إذ تخيّل الرمل فرساً يمتطيه، وكأنه ينحت بمخياله الجامح ما يحمله ككائن تجريدي في صحراء اللغة (أمتطي صهوة الرمل). وتصوّره كائناً مفزوعاً (ذعر الرمال). أو معادِلاً لمرض الطبيعة (صديد الرمال). وهنا مكمن السر في خفوت كلماته وترقُّقها لمجرد أن يتذكر أحبّته الذين كتبوا سيرة عبورهم به وعليه حين (مرُّوا خفافاً على الرمل). كلما تأمّل ما لا يُرى من آثارهم بشوق ذائب (تلك مآثرهم في الرمال). وهكذا صار مهووساً برؤية كنز الذكريات المدفونة من وراء غبش ذراته (وللرمل ذاكرة من ضباب). متغزّلاً بما عاشه من (غوايات الرمال). ورافضاً أن يتأمل محبوبته (عروس الرمال الجميلة) إلا في كنفه (وفوق الرمال تموج ضفائرك الساحلية مجدولة). ورافضاً أن ينغسل من آثاره لئلا يفقد براءة بداوته (فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتفي).
ورغم كون (الرمل) هو نقطة ارتكاز القصيدة، والثيمة التي يتم فيها وبموجبها تبئير النص، إلا أنها لم تكن المفردة الوحيدة الحاضرة باستمرار، فقد كان قاموسه يكتظ بعناصر المكوّن الطبيعي المتفاعلة مع خزين شعوري عميق من الاختلاجات والعواطف والتساؤلات الحادة المتولدة عن قلق ذاته المتأرجحة بين الأفكار والأحاسيس، حيث المصفوفات المادية المترامية كالنخل، والبحر، والصباح، والخيل، والليل، والنساء، والريح، والماء، والثرى، والمدينة، والدم، والنار، والمطر، والقوافل، والضحى، والتراب، والسحابة، والأرض، والشمس، والنهر، والبدوي، والطفل، والطلع، والبدر، وريح الشمال، التي تتردد أصداؤها بكثرة في نصوصه منذ أول دواوينه، وما يقابل كل تلك المفردات التمثيلية للواقع من كلمات كثيفة الدلالات، وعلى صلة مباشرة ومتينة بالمعنى كالنشيد، والسؤال، والأغنية، والكؤوس، والقرين، والموت، والوطن، والزمن، والخمر، والربابة، والفاتحة، والأسماء.
وبالتأكيد لم تقتصر العلاقة بين المفردات على التجاور الحيادي، ولم تبق على ثباتها بل تطورت بتطور العلاقات داخل النص، حيث صارت (الأرض) فيما بعد تأخذ شكل ومفهوم (الوطن). وحيث شب (الطفل) المأخوذ بغبطة البدايات ليجهر بتعقيدات (السؤال). وحيث انفصم (البدوي) المفتون ببراءة وسحرية الفضاء الصحراوي على حافة (القرين) المعترك مع هواجسه الداخلية، وهكذا أصيبت كل مفردات الغناء والتبتّل بالمكان الفطري، بشطحات المعنى، وسطوة الأفكار المتأتية من مثاقفة مدارات حياتية أوسع، بل ان مفردات البداوة تمدْينت أو أزيح بعضها لصالح مفردات مغايرة حيث تراجعت (الربابة) مثلاً وانبثقت مفردة (الناي) وصارت (النخلة) التي كل ما عداها مجرد شجر هزيل، عرضة لتوحش (المدينة) أو أمثولة رثائية يعني موتها فناء ذاته هو وهكذا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.