وصف النّحات الدكتور محمد الفارس ما قدمه في معرضه الشخصي الذي افتتح مؤخرًا بقاعة داما آرت بجدة بأنه يمثّل نظرته للفن التشكيلي بطريقته الخاصة، حيث يرى أنه تناول بعض القضايا الأساسية المتعلقة بتاريخنا الاجتماعي. وعن العملين المفاهيميين اللذين عرضهما بالمعرض، قال الفارس: العمل الأول بعنوان "بقايا زمن" وحاولت فيه الاتساق مع الطبيعة في سجلها التاريخي لتطورنا المحلي بقطعتين رمزيتين، وهذا العمل أيضًا أنموذج لما يمكن أن نراه من حولنا وهو في واقعه لوحات فنية. وأما العمل الآخر "أدوات تحتفل باستقلالها" فهو تعبير عن سيطرة الآلة وتدخلها في حياتنا بتغيير بعض القيم والسلوكيات وكأنها بدأت بالانتصار على البشر. وعن تنوع الخامات التي يستخدمها في أعماله المجسمة، قال: أحاول أن أستخدم جميع الخامات من حولي لأنها تعبّر عن الفن المحيط بي في كل مكان، فالفن "نظرة" أكثر منه "مادة" حسبما أعتقد. جدير بالذكر أن معرض النحات الدكتور محمد الفارس لقي اهتمامًا من قبل الفنانين والنقاد ومحبي الفن التشكيلي، فقد كتب عنه الدكتور حكيم عبّاس، حيث قال: الدكتور محمد بن عبدالرحمن الفارس فنان عميق الإحساس، تتلمذ على يد أكثر ثلاثة أصدقاء قربا لقلبه ولروحه، شديد الوفاء لهم، شديد الانتماء لهم، شرّع كينونته إلى أن استوطنوه حتى نواة أدق خلية فيه، وأدق ثنايا روحه، فلم يبخلوا عليه وما زال يتلقى منهم دروسه بتواضع وطواعية وسعادة، وهؤلاء هم: الأول: الطفل الصغير محمد بن عبدالرحمن بكل ما يحمل من نظافة ونقاء وبراءة وما يحمل من صور وذكريات وروائح وألوان وأشكال وأسماء وبيوت وأشجار ووجوه وأحداث لا يسقط أحدا كلها جزء من روحه ومن لحم جسده، الطفل بكل ما به من شغف واندفاع للهو بالأشياء، يركبها بعضها فوق بعض كما "البَزِل"، ثم يفرطها ليعيد تركيب ذات الأشياء أشكالا أخرى، يسميها ثم يخترقها إلى ما بعد الشكل الواقعي المرئي، فلا أحد يعلم كيف بمقدور الطفل أن يتخيّل نواة التمرة حافلةً أو قطارًا، وكيف يقيم حواراته وألعابه و اندماجه معها و كأنها فعلاً كذلك..و لا أحد يعرف كيف يحلم الطفل ويتمنى، ويكدس أمنياته خلف ضلوعهِ، يجمعها بعنايةٍ ويحصيها كل ليلة قبل أن يسرقه النوم، لا يسقط منها خردلةً واحدة، هذا الطفل بكل ما يحمل صديقه ومعلّمه الأول. والثاني: الحياة، الحياة كفرصة تُمنحُ للفعل والتأثير، أي لإنتاج الأشكال الحيّة، النابضة بأدقّ التفاصيل، ليس في عالم الإنسان فقط، بل يتتبع الفعل (فعل الحياة) في كلّ شيء، في الشجرة كما في الفرس أو الطائر والزهرة والنملة ومسارات ديدان الأرض فوق الرّمال، في الحفيف أو الفحيح أو حتى الصرير والزفير والدبيب والطنين، لذا هو يراها حيث نعتقد أن لا وجود لها، يسمعها حيث نظنّه صمت مطبق، ويترجمها لأشكالٍ نظنها مجردةً لكنه تعلّم أن يراها مفعمة بالحياة، بالفعل. والثالث: الزمن، كحالة مستمرة متواصلة دون انقطاع، بعد انتهاء الحياة كفرصة للفعل، الزمن هنا يكون فعلا من نوع آخر، يُضاف فوق فعل الحياة، ممتزجًا مع أشكال فعل الحياة لينتج أشكالًا جديدة لا حصر لها، يقتفي الفارس أثره في كل مكان، لا فرق عنده بين بحر وجبل وسهل وواد وصحراء وواحة، كلها بساتين وكروم للزمن تثمر أشكالا، يستطيع تلمس الحدود بين فعل الحياة فيها وفعل الزمن، الكون السابح في هذه الحدود هو كونه، متعته وسعادته وحزنه وفلسفته، وكلّها مَعين الفن عنده، هذا الخيط الرفيع الذي يمسك به الفارس هو السرُ الذي يوحد بين الصحراءِ والجنّة الغناء، يجمع من الصحراءِ مثلما يضاهي جماله وعطره، جمال وعطر ما نجمعه من جنة غناء. ويضيف الدكتور حكيم عباس: هكذا علّمني "الفارس.." الإنسان الفنان كيف أنصِتُ للصحراء بينما تدفع حبات الرمل تُوشوش كل من مر فوقها عن أسرارها، و تكشف له عن وشومها.. علمني كيف أنصت لأزيز الضوء يتغلغل في لحم كثبانها.. علّمني أن أرى في التّيبُّبِ إمكانيات أخرى لعطاء بلا حدود.. علّمني كيف أرى في كل عُود أثل الأنامل المعلّقة بمناقير اليمام وأجنحة الفراش حين ينهكها اللُّهاث.. علمني أن أضع أذني فوق الصخر في الصحراء لأسمع نحيب البحار، وأضع يدي أتحسّس نبضها إذ علّمني بأن لها قلب ذرفت فيه البحار آخر دمعتين قبل الرحيل، و خبّأت الجداول فيه خريرها وآخر قبضة ماء، ونقشت عليه أختامها، أشكالا لبصمات الحياة، من رقّته تنبتُ الأشجار خضراء وارفة الظّلال تستعيد حفيف أوراقها.. علمني حين يهبط اللّيل، ويهجع الكون في سكونٍ عميقٍ لا قرار له.. كيف أطيع كي تَسودني النجوم، وكيف أُمسك بيدي حبلا سُريّا يربطُها بحبة الرملِ منذ أن كان للغدير جبينا لجينا تتلألأ فيه، فيُغشى عليّ بعد أن أصيح: وجدتّها.. وجدّتها.. "كأنّ نُجومَهُ بِكُلِّ مغَارِ الفَتْلِ شُدّتْ بِيَذْبُلِ".. عندها تجتاحك قشعريرة إذ تقمّصكَ إمرؤ القيس، فعرفتَ ما تعني الأصالة.. القامة العربيّة المنتصبة كما سيقان النّخيل.. تصهل بين أنامله كما الأفراس، تجمح كلّما كبت.. الفارس.. عالم سنكتشفه عمّا قريب..!!.