تشتعل المنطقة بالاحتمالات، وتتصاعد النذر بمواجهة عسكرية في الخليج على خلفية البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل والقلق معًا، فيما ينهمك المحللون والباحثون في استقصاء الخلفيات، وتحري المآلات، لخطط طهران النووية من جهة، ولخطط الولاياتالمتحدة وإسرائيل -بشكل أساسي- للتعامل مع تهديد نووي إيراني محتمل من جهة أخرى. ولأن التحديات أكبر من أن تكتفي برصدها الصحف، فإن جهدا باتجاه كشف حجمها وتقصي خلفياتها وتحري مآلاتها، يستحق المتابعة والرصد، وهذا ما نحاوله هنا في عرضنا لأحدث كتاب صدر في الغرب -قبل أيام فقط- حول إمكانيات احتواء التهديد الإيراني، ومآلاته. مرحلة جديدة في الفصل الثاني من الكتاب تحت عنوان «البرنامج النووي الإيراني : الماضي، الحاضر، والمستقبل»، يكشف المؤلف عن حقيقة قد تكون غائبة عن الكثيرين، وهي أن إيران عملت على تسريع برنامجها النووي خلال حربها مع العراق، وأن البرنامج لم يستمر بعد الحرب فقط، وإنما ازدادت أهميته حتى بعد أن تضاءل التهديد العراقي تحت وطأة حرب الخليج والجهود التي بذلت لتدمير برنامج العراق النووي والكيماوي والبيولوجي. ويضيف روبرت جي ريدروم مؤلف الكتاب، ان وفاة الخميني عام 1989 أعاد شحن الجهود الإيرانية لتنشيط البرنامج النووي لأن الخميني كان يعارض البرنامج لمخالفته للتعاليم الإسلامية حسبما كان يرى. وتمثلت الجهود الإيرانيةالجديدة في تلك الفترة في مجال تخصيب اليورانيوم وإجراء أبحاث على إنتاج البلوتونيوم. فيما سعت في غضون ذلك نحو الحصول على التقنية النووية من الخارج. وفي بدايات العام 1995 أبرمت إيران مع مصنع روسي عقدًا بقيمة مليار دولار لتكملة مفاعل بوشهر. وتضمن العقد بناء مفاعل بقوة 900 ميجاوات بنظام تبريد الماء الخفيف، كخطوة أولى في إطار التعاون الإيراني - الروسي النووي. وخلال تلك الفترة بدأت الولاياتالمتحدة مبادرة دبلوماسية تتضمن ممارسة الضغط على الدول التي تمد إيران بالمساعدات التقنية الخاصة ببرنامجها النووي، وعلى الأخص موسكو، لاسيما بعد أن اكتشف الأمريكيون أن ثمة بندًا سريًا في الاتفاقية النووية التي أبرمت بين إيرانوروسيا عام 1992 ينص على موافقة الروس على تزويد إيران بتقنيات نووية حساسة للغاية مثل منشآت تسريع إنتاج البلوتونيوم وتخصيب اليورانيوم. وقد ألغت موسكو هذا البند استجابة للضغوط الأمريكية، لكن خطط بناء المنشآت الأخرى في مفاعل بوشهر استمرت بالرغم من معارضة واشنطن. الصين أصبحت هي الأخرى موردًا رئيسًا لطهران في هذا المجال. ففي بدايات التسعينيات، وافقت بكين على إمداد إيران بمفاعل أبحاث وجهاز للتخصيب يعمل بالليزر، ومنشأة لتحويل اليورانيوم على نطاق صناعي. وأيضًا أكسيد اليورانيوم وفلوريد اليورانيوم. التعاون الإيراني – الصيني في العام 1992، وقعت كل من الصين وإيران عقدًا تبيع بموجبه الصين لإيران مفاعلًا بقوة 300 ميجا وات بنظام تبريد بالماء الخفيف، ومفاعل أبحاث آخر كبير قادر على انتاج البلوتونيوم الذي يستخدم في صنع سلاح نووي، وفي الفترة (1988- 1992) تمكنت إيران من تشعيع 7 كجم من أكسيد يورانيوم (أي تحويله إلى يورانيوم مشع) في مفاعل طهران الخاص بالأبحاث، وتمكنت أيضًا من فصل البلوتونيوم من 3 كجم من اليورانيوم المعالج في وحدات التسخين، وهو ما أدى إلى إنتاج كمية ضئيلة من البلوتونيوم. وقد تم تفكيك الوحدات الحرارية ووضعت في مستودع في أصفهان عام 1992. وقد أذعن الصينيون أيضًا للضغوط الأمريكية، عندما وافقوا على وقف رابط تعاونهم النووي مع إيران عام 1997 في مقابل التوصل إلى اتفاقية تعاون نووي مع الأمريكيين، وهكذا فإن العديد من المشروعات النووية التي سبق وان وعد بها الصينيون، مثل المفاعلين الكبيرين لم يجر تنفيذها، بيد أن منشأة تحويل اليورانيوم في أصفهان كانت على وشك الانتهاء عندما قامت الصين بتسليمها للإيرانيين ليقوموا بأنفسهم بإكمالها. من جهة أخرى يؤكد المؤلف أن إيران تلقت مساعدة كبيرة في برنامجها لتخصيب اليورانيوم من قبل شبكة عبدالقدير خان الباكستانية التي أسهمت بشكل فاعل في مسيرة البرنامج النووي الإيراني من خلال تزويدها بالمئات من أجهزة الطرد المركزي (المستعملة)، وتزويدها أيضًا بجهاز تقني مهم. وقد اعتبرت هذه المساعدة ضرورية لنجاح البرنامج النووي الإيراني، خاصة على صعيد توفير القاعدة التي تستطيع إكساب إيران القدرة على إنتاج يورانيوم عالي التخصيب الذي يتوقف عليه تصنيع القنبلة. تطورات هامة في عام 2002 كشف المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية عن وجود منشآت نووية سرية في إيران شاملًا ذلك منشآت ناتانز ومنشأة تعمل بالماء الثقيل في أراك. وفي عقد التسعينيات شهد البرنامج التخصيبي تطورًا ملحوظًا، ومع نهاية هذا العقد حققت طهران القدرة على تخصيب اليورانيوم بنسبة 1%. في الفترة (2000-2006) جرت مفاوضات بين إيران والدول الأوروبية الثلاث (بريطانيا – فرنسا – ألمانيا) فيما عرف ب مفاوضات E-3. وقد اعترفت ايران بوجود منشأتين نوويتين سريتين خلال زيارة مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي لإيران عام 2003. وبينما كانت الولاياتالمتحدة تفضل اللجوء بالملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، فإن حلفاءها الأوروبيين كانوا يفضلون إستراتيجية التفاوض. وتحت ضغوط الوكالة الدولية للطاقة الذرية والغرب، عقدت طهران صفقة مع بريطانيا وفرنساوألمانيا (E-3) في أكتوبر 2003 لتوقيع ما عرف حينذاك بالبروتوكول الإضافي (AP) يتم بموجبه خضوع المنشآت النووية الإيرانية للتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما وافقت إيران أيضًا على تعليق نشاطها التخصيبي لليورانيوم في مقابل بدء مفاوضات مع الدول الأوروبية الثلاث، وقد تبلورت تلك الاتفاقية عام 2004 تحت اسم (اتفاق باريس). وفي مارس 2005 وافقت الولاياتالمتحدةالأمريكية على دعم مبادرة (E-3) بشرط أنه في حالة فشل المفاوضات مع إيران، تدعم الدول الأوروبية التوجه بالملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، وتناولت المفاوضات عرضًا لسلة حوافز من الغرب تتضمن ضمانات أمنية، ومساعدات تقنية في المجالات السلمية، وإنهاء المقاطعة الاقتصادية في مقابل تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم والالتزام بالخضوع للتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والإجابة على الأسئلة الخاصة بالسلوكيات السابقة. بيد أن الإيرانيين أصروا على أن برنامجهم النووي ذو طابع سلمي، ولم يتنازلوا قط عما اعتبروه حقًا مشروعًا لهم في تخصيب اليورانيوم. على إثر فشل المفاوضات مع الأوروبيين، أعلنت إيران عن نيتها البدء مجددًا في أنشطة التخصيب بإنتاج UF6 (يورانيوم هيكسا فلورايد، أو سادس فلوريد اليورانيوم) في أصفهان بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد مباشرة، وفي بداية العام 2006 أزالت إيران أختام الشمع من على مفاعل ناتانز وغيره من المنشآت لاستئناف أبحاثها في برنامج الطرد المركزي، وفي فبراير بدأت إيران في تغذية أجهزة الطرد المركزي بسادس فلوريد اليورانيوم (الخام)، ثم أعلنت في أبريل من نفس العام عن نجاحها في تخصيب اليورانيوم 235 إلى نسبة 3,5 %. في سبتمبر 2006 أمكن الحديث عن تحقيق اختراق مبدئي في الملف النووي الإيراني بعد صفقة أمريكية مع كبير المفاوضين الإيرانيين علي لاريجاني يتم بموجبها مقابلة ممثلي الدول الأوروبية الثلاث في الأممالمتحدة بهدف نقل الملف النووي الإيراني من مجلس الأمن الدولي إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبمجرد أن تتحقق هذه الخطوة يدخل لاريجاني في مفاوضات مباشرة مع وزيرة الخارجية الأمريكية - آنذاك- كوندوليزا رايس، التي أبدت استعدادها الموافقة على برنامج نووي إيراني رمزي يقتصر على الأبحاث. لكن هذه الصفقة لم تتم بسبب رفض المرشد الأعلى علي خامنئني. على إثر ذلك بدأت أول قرارات المقاطعة الاقتصادية لإيران الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بدءًا من القرار 1737 الذي فرض حظرًا على العديد من أشكال تعاون الشركات الدولية مع إيران في المجال النووي السلمي والصواريخ البالستية، إلى جانب المقاطعة المالية مع تحديد فترة زمنية لإيران لتنفيذ القرار فيما يتعلق بوقف العمل ببرنامجها النووي. بيد انه بعد انتهاء المهلة التي نص عليها القرار 1737، سارع مجلس الأمن الدولي بإصدار قراره 1747 الذي أضاف المزيد في قائمة المواد التي تتعلق ببرنامج إيران النووي، إلى جانب فرضه حظرًا على صادرات الأسلحة الإيرانية (فيما أن الواردات لم تتأثر)، وحدد أيضًا مهلة جديدة مدتها 60 يومًا من تاريخ صدور القرار الجديد. نقطة تحول شكل شهر أبريل عام 2007 نقطة تحول حرجة عندما بدأت إيران في ذلك الشهر تخصيب اليورانيوم على المستوى الصناعي إلى درجة 3,5 % في مصنع الوقود التخصيصي (F E P) باستخدام أكثر من 1000 جهاز طرد مركزي. ومرت المهلة الزمنية الثانية التي منحها قرار مجلس الأمن لإيران دون أن تغير من موقفها. في صيف 2007، بدأ الاتحاد الأوروبي وإيران مناقشة احتمال التوصل إلى صفقة بالتركيز على مبدأ «التجميد في مقابل التجميد»، بمعنى أن يتوقف مجلس الأمن الدولي عن فرض المزيد من العقوبات على إيران في مقابل موافقة إيران على عدم التوسع في برنامج التخصيب. وقد لقيت هذه الصيغة مرة أخرى تشجيعًا وتقبلًا من لاريجاني، لكنها اصطدمت برفض الولاياتالمتحدة والرئيس أحمدي نجاد. وفي غضون ذلك توصلت تقديرات الاستخبارات الوطنية NIE إلى الاستنتاجات بأنه على الرغم من أن إيران لديها برنامج نووي حتى خريف 2003، إلا أنه من المحتمل أن يكون العمل في هذا البرنامج قد توقف، وأنه في الوقت الذي كانت فيه إيران تواصل التطلع نحو تحقيق اختراق على صعيد مستوى قدراتها النووية، إلا انه من المحتمل أيضًا أنها لم تقرر بعد الحصول على السلاح النووي. وهو ما كانت تنتظره روسيا والصين اللتين عبرتا عن رأيهما بأنه لم تعد ثمة حاجة عاجلة لفرض المزيد من العقوبات على إيران، أو استخدام القوة العسكرية ضدها. في فبراير 2008 سلمت إدارة بوش الوكالة الدولية للطاقة الذرية المعلومات التي حصلت عليها الاستخبارات الأمريكية من خلال جهاز كمبيوتر شخصي لأحد المنشقين الإيرانيين عن النظام في عام 2004 احتوى على معلومات هامة تتعلق بالتسليح النووي الإيراني. وقد احتوى الجهاز على آلاف الوثائق ذات الصلة بأسرار البرنامج النووي الإيراني. وقامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدورها بعرض هذا الدليل على الدول الأعضاء، فيما رفضت إيران إعطاء أي تفسير حول هذا الموضوع واكتفت بالإنكار. في مارس 2008 صوت مجلس الأمن الدولي على قرار عقوبات ثالث ضد إيران. وجاء القرار (1803) أقل مما كانت تطمح إليه واشنطن بكثير. فقد اكتفى فقط بتوسيع دائرة المواد المحظورة، وأعطى تفويضًا بالتفتيش على الشحنات الإيرانية، وفرض حظرًا على استيراد التقنيات ذات الاستخدام المزدوج (مدني/عسكري)، لكن العقوبات في ذلك القرار لم تمس القطاع النفطي الإيراني. لاحظ المؤلف أن ثمة انقسامًا داخل النظام الإيراني حيال الملف النووي، لكن بالرغم من ذلك، ظلت إيران تبدي موقفًا حازمًا في الإصرار على عدم التخلي عن تخصيب اليورانيوم. بداية جديدة استهل الرئيس أوباما وصوله إلى البيت الأبيض بتبني استراتيجية جديدة بالنسبة لإيران بأن عبر في لقاء أجرته معه قناة العربية الفضائية عن رغبته في تبني خيار الدبلوماسية والمبادرة حيال إيران، وأيضًا من خلال تهنئته للشعب الإيراني بمناسبة عيد النيروز، والالتزام بالمشاركة بشكل مباشر في مفاوضات 5+1 حول الملف النووي الإيراني. لكن لم تمض بعد ذلك سوى بضعة أسابيع حتى أعلن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد (في أبريل 2009) عن تمكن طهران من إنهاء دورة الوقود النووي كاشفًا النقاب عن وجود محطة للوقود النووي بالقرب من أصفهان. في ديسمبر من نفس العام، أعلن أحمدي نجاد أن إيران ستبدأ في رفع درجة تخصيب اليورانيوم بنسبة 3,5% إلى 20% لتزويد مفاعل طهران الخاص بالأبحاث النووية بالوقود، وهو ما يعني اقتراب إيران -بالوصول إلى هذه النسبة من التخصيب- بدرجة كبيرة من انتاج الوقود اللازم لصنع (القنبلة). أعقب ذلك إعلان طهران عن نيتها بناء 10 مواقع تخصيب إضافية مشابهة لذلك الموجود في (فوردو)، وهددت في الوقت نفسه بتقليص درجة تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في فبراير 2011، أعلنت إيران أنها بدأت في تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% في محطة تخصيب الوقود التجريبية (كاشان) في ناتانز. وفي يونيو أصدر مجلس الأمن قرار عقوبات جديد ضد إيران (القرار 1929)، حيث بذلت موسكووبكين جهدًا كبيرًا للحيلولة دون اشتمال القرار الجديد على حظر صادرات النفط والغاز الإيراني. وبالرغم من تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في نوفمبر 2011، فإن ذلك التقرير لم بؤثر كثيرًا على تضمين قرار مجلس الأمن فرض عقوبات إضافية، واستمرت روسيا والصين في معارضة أي عقوبات جديدة، وهو ما دفع الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض حلفائها إلى فرض عقوبات من جانبهم. وشددت إدارة أوباما العقوبات ضد إيران بشكل متصاعد منذ نوفمبر 2011. وفعلت بريطانيا وكندا الشيء نفسه، شاملًا ذلك حظرًا بريطانيًا على كافة أشكال التعاملات المالية مع إيران، فما كان من إيران إلا طرد الدبلوماسيين البريطانيين، ثم أعقبت ذلك ببضعة أيام بتشجيع بعض الدهماء على القيام بأعمال شغب استهدفت السفارة البريطانية في طهران. في ديسمبر 2011، صادقت الولاياتالمتحدة على عقوبات جديدة ضد إيران اشتملت على عدم السماح بدخول المصانع والشركات الأجنبية التي تتعامل مع البنك المركزي الإيراني إلى النظام المالي الأمريكي لجهة أن البنك الإيراني المركزي يحوذ على حصة الأسد بالنسبة لصادرات إيران النفطية على المستوى العالمي. كما بدأت الولاياتالمتحدة بدفع حلفائها الأساسيين إلى الامتناع عن شراء النفط الإيراني، وتمثل الرد الإيراني بالتهديد بإغلاق مضيق هرمز. ويختم المؤلف هذا الجزء التاريخي من كتابه بالقول إنه مع بداية العام 2012 زادت حدة التوتر بين إيرانوالولاياتالمتحدة، وبين إيران وحلفاء الولاياتالمتحدة، لكن النتائج لم تتضح بعد.