شكك علماء روس في ماهية التطورات الأخيرة في البرنامج النووي الإيراني، ورأى هؤلاء أن ما أعلنته طهران لا يتضمن شيئاً حديثاً بالمقاييس الدولية، وأن وسائل الإعلام قد أعطت الحدث ما يفوق حجمه الطبيعي. وقد دار الحديث حول تشغيل ستة آلاف جهاز طرد مركزي من طراز (IR-2) أو (P-2 ) وفق التصنيف الباكستاني، في مجمع ناتانز لتخصيب اليورانيوم في مدينة أصفهان، وسط إيران. ويشير الخبراء الروس إلى أن نموذج (P-2 ) قد استخدم في برنامج باكستان النووي (حرف P يشير إلى باكستان)، وهو عبارة عن نسخة طبق الأصل لأجهزة الطرد المركزي الألمانية التي تعود لبداية عقد السبعينيات من القرن العشرين. وقد حصلت باكستان على الوثائق المطلوبة لتصنيع هذا النموذج من شركة (URENCO) البريطانية الهولندية "بطريقة غير معروفة". وتشير كتابات الخبراء الروس إلى أن أجهزة (IR-2) الإيرانية لا تتفوق على النموذج الأصلي (P-2 ) باستثناء كونها أقل كلفة من الناحية المالية. هذا مع صحة القول في الوقت نفسه أن هذه الأجهزة تصل فاعليتها إلى ما يعادل خمسة أضعاف أجهزة (P-1 ). ورأى الخبراء الروس أن تشغيل هذه الأجهزة لم يكن مفاجئاً للأوساط العلمية المتابعة، إذ كانت طهران قد قدمت إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، منذ أواسط شباط فبراير الماضي، كافة المعلومات الخاصة بها. والأكثر من ذلك، فإن مصادر دولية ذكرت منذ كانون الثاني يناير من العام 2006بأن إيران حصلت من شركة (URENCO) البريطانية الهولندية على الأجهزة المطلوبة لتخصيب اليورانيوم عن "طريق السوق السوداء". وقال علماء الوكالة الدولية للطاقة الذرية حينها إن هذه الأجهزة لا تزال مفككة، وأن الخبراء الإيرانيين لا يعرفون كيفية الاستفادة منها.وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كانت هذه السوق قد مرت عبر باكستان أم لا، ولا تشير الكتابات المتداولة إلى ما يفيد ذلك. وتوجد في إيران، إضافة إلى محطة بوشهر ومنشأة تخصيب اليورانيوم في أصفهان ومناجم اليورانيوم، منشأتان نوويتان: إحداهما مفاعل الأبحاث في طهران، الذي بنته الولاياتالمتحدة في العام 1967وقامت الأرجنتين في العام 1992بتطويره، مع تخفيض درجة تخصيب اليورانيوم الذي ينتجه.وتبلغ طاقة هذا المفاعل خمسة ميغاواط. والمنشأة الأخرى هي مفاعل صغير تبلغ طاقته 30كيلوواط، وهو صيني الصنع. كما يوجد في إيران مصنع لإنتاج الماء الثقيل في مدينة آراك. وكانت إيران قد أعلنت في الحادي عشر من نيسان أبريل 2006بأنها نجحت في تخصيب اليورانيوم على درجة 3.5% في مفاعل ناتانز ،وهي درجة النقاء المطلوبة للوقود المستخدم في المفاعلات المدنية.وقالت أيضاً إنها تمكنت من إنتاج 110أطنان من غاز سادس فلوريد اليورانيوم، الذي يتم وضعه في أجهزة الطرد المركزي ليتم تخصيبه. وعلى خلفية ذلك، قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي، في تقرير قدمه لمجلس الأمن الدولي في 28نيسان أبريل 2006، إن إيران لم تستجب لمطالب مجلس الأمن التي تقضي بوقف كافة عمليات التخصيب، ولم تساعد الوكالة في الوصول إلى أجوبة بشأن برنامجها النووي، وإن استمرار عدم التعاون الإيراني هذا يبعث على القلق. وأيد تقرير الوكالة الدولية الإعلان الإيراني بشأن قدرة طهران على تخصيب اليورانيوم بمستوى يصل إلى 3.5%، وقال إن ذلك يتفق مع استنتاجات الوكالة والعينات التي حصلت عليها من هناك. وبعد سلسلة شاقة من المفاوضات الإيرانية مع الثلاثي الأوروبي (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) حول معطيات وشروط البرنامج النووي، خاصة فيما يرتبط بتخصيب اليورانيوم، وبعد رفض إيران لعرض أوروبا، الذي قضى بوقف التخصيب مقابل مساعدات فنية وسياسية، جاء البيان الرئاسي لمجلس الأمن الدولي في 29آذار مارس 2006، وكان أشبه بالتوصية التي حثت على وقف برنامج التخصيب. وبعد ذلك، صدر قرار مجلس الأمن الدولي الرقم (1696) بتاريخ 31تموز يوليو 2006، الذي منح الإيرانيين مهلة لتعليق التخصيب تحاشيا للتعرض لعقوبات دولية.وبعد ستة أشهر، صدر القرار الدولي الرقم (1737) ( 23كانون الأول ديسمبر 2006)، الذي فرض عقوبات تقنية ومالية على إيران.وقد استند هذا القرار إلى الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، أي أنه قرار ملزم، لكنه وضع تحت المادة (41) التي لا تعطي تفويضا باستخدام القوة العسكرية. وفي آذار مارس 2007صدر القرار الدولي الرقم (1747) ثم صدر القرار (1803) في آذار مارس من العام 2008.وقد رفضت طهران تنفيذ هذه القرارات. وشمل القرار الأخير حظراً على منح عدد من المسؤولين الذين يشاركون في البرنامج النووي الإيراني تأشيرات سفر إلى الخارج، وكذلك تجميد حسابات بعض الشركات والبنوك الإيرانية، وتفتيش الشحنات المتجهة إلى إيران. وعلى الرغم من ذلك، اعترف رئيس اللجنة التابعة لمجلس الأمن الدولي، الخاصة بمتابعة تنفيذ العقوبات على إيران، البلجيكي يوهان فربيكي، بأن أقل من نصف الدول المنتسبة إلى الأممالمتحدة هي فقط التي قدمت التقارير الإلزامية حول امتثالها لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة ببرنامج إيران النووي. وتحديداً، هناك 88دولة قدمت التقارير عن تنفيذها للقرار الرقم (1737) و 72دولة عن القرار الرقم (1747)، علماً بأن عدد أعضاء الأممالمتحدة يصلون إلى نحو مائتي دولة. وبالنسبة لبعض التقديرات السائدة، فإن التطورات الأخيرة في البرنامج النووي الإيراني، بغض النظر عن حدودها الفعلية، قد أعطت "مبرراً إضافياً" لإثارة هواجس المجتمع الدولي بخصوص احتمالات دخول إيران في مشروع تسلّح نووي. وعلى الصعيد القانوني البحت، تنص المادتين الرابعة والسادسة من معاهدة حظر الانتشار النووي على أن أياً من بنود هذه المعاهدة لا يمكن أن يفسر على نحو يمس حق أعضائها غير القابل للانتزاع في "تطوير بحوث وإنتاج واستخدام الطاقة الذرية لأغراض سلمية". وعلى الرغم من ذلك، فإن صياغة إجراءات تعهد الدول الأعضاء بضمان عدم تحويل الطاقة الذرية من الاستخدام السلمي إلى العسكري ظلت تفتقر إلى الدقة والوضوح. وكانت النتيجة أن هذه المعاهدة، التي بدأ سريان مفعولها في الخامس من آذار مارس من العام 1970قد جعلت العالم بأسره رهينة للملف النووي الإيراني. والحقيقة، أن مجلس مديري الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا يستطيع أن يقدم أجوبة واضحة ومحددة عن السؤال المتعلق بخروج البرنامج النووي الإيراني عن إطار معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. ولا تتوفر لدى الوكالة أية أدلة مباشرة على وجود "عنصر عسكري" في هذا البرنامج. ومن جهة أخرى، لا توجد أية ضمانات تؤكد على أن إيران لن ترغب في يوم من الأيام بتصنيع أسلحة نووية، مستفيدة في ذلك من التكنولوجيا النووية التي حصلت عليها.وهنا بالذات تكمن المسألة الإيرانية - كما يقول الخبير الروسي بيوتر غونتشاروف. وعلى الرغم من ذلك، يؤكد الخبراء المعنيون على ضرورة الالتزام بأمرين أساسيين: الأول ،حق أية دولة في الاستخدام السلمي للطاقة الذرية. والثاني، حق المجتمع الدولي في المطالبة بالالتزام الصارم بقواعد الأمان والسلامة وضمان نظام عدم الانتشار النووي. ويشدد هؤلاء على أن الجمع بين هذين الحقين يتطلب تبني موقف متعدد الجوانب من حل هذه المسألة، وتعتبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أهم أداة لذلك. وبالنسبة لإيران، فإنها لن تتمكن مبدئياً من إنتاج السلاح النووي إلا عندما تكتمل لديها دورة الوقود. وفي هذه الدورة مسألتان أساسيتان يمكن أن تسند برنامجاً لتصنيع السلاح النووي، الأولى مرحلة التخصيب، حيث يخصب اليورانيوم لأغراض الوقود بنسبة تتراوح بين 3-5% ويحول بعدها إلى مادة صالحة لإنتاج السلاح ، أي بتخصيب يصل إلى أكثر من 90% . والمسألة الثانية هي مرحلة إعادة معالجة الوقود المحترق، فالبلوتونيوم الذي يسترجع أثناء هذه العملية يمكن استخدامه لصنع سلاح نووي. وعلى الرغم من صحة هذا الأمر، ليس هناك من طريقة أكيدة لقياس المدة اللازمة للوصول إلى إنتاج القنبلة النووية، فقد يكون المفتاح لذلك السيطرة على المعرفة والتكنولوجيا الضروريين لإنتاج اليورانيوم المخصّب بصورة ذاتية،وقد يكون الحصول بطريقة ما على كمية كافية منه لإنتاج السلاح النووي. وحسب بعض الخبراء الدوليين، فإن جميع التقييمات تؤكد وجود ثلاث مشكلات أمام إيران لكي تتمكن من صناعة القنبلة النووية، وهي: أولاً، صنع الوقود النووي الكافي، وثانياً، أن تكون لديها الخبرة والتكنولوجيا لتصميم قنبلة نووية،وثالثاً، أن تكون لديها وسيلة إيصال حاملة لهذه القنبلة، وليس لدى إيران حتى اليوم الصواريخ التي يمكن أن تحمل قنبلة نووية، وليس لديها تصميم فعال لصنع القنبلة، كما ليس لديها اليورانيوم الكافي لتخصيب الوقود النووي الذي يمكنها من السلاح النووي.