يُقال والعهدة على التاريخ أن أحد الشعراء في زمن الدولة العباسية كتب على جدار قصر الخليفة المأمون بيتًا من الشّعِر قال فيه: يا قصرٌ جُمّع فيك الشوم ُواللومُ متى يعشعش في أركانك البُوم؟ هذا الشاعر الثوري الخارج على سلطة التدجين، وجماعة حفنة الدنانير، ربما كان يعبّر عن موقف سياسي، أو موقف أيدلوجي، أو موقف ثقافي، أو ربما كان يطمح في ولاية كصاحبه الشهير مالئ الدنيا وشاغل الناس! الشاهد هنا هو وسيلة التعبير التي اتخذها شاعرنا، وهي الكتابة على جدار القصر، الأمر الذي يدل على أن ثقافة الكتابة على الجدران قديمة قِدم التاريخ نفسه. الجدار الذي كان -وما يزال- رمزًا للأمن والحماية والسّتر من جانب، وللقيود والأغلال، والأشياء الغيبية، والفصل العنصري من جانب آخر؛ هو أوّل كتاب كتب عليه الإنسان منذ فجر التاريخ. فلولا جدران المغارات، والكهوف، والألواح الصخرية، والمعابد، والمقابر لما وصلنا التراث الإنساني القديم الذي يحمل الثقافات المتنوعة، وذلك من خلال النقوش والكتابات، وكماهو معروف عند المؤرخين من أن النقوش والكتابات على الجدران من أهم المصادر الأثرية لمعرفة التاريخ القديم الممتد إلى آلاف السنين. حسنًا! هذا عن جدران الأمس، ماذا عن جدران اليوم؟ أصبحت الجدران اليوم تلعب أدورًا متعددة، من خطابات ثقافية، ومضامين سردية، ورؤىً، وأفكارًا ورغبات، ووسيلة من وسائل التعبير الآمنة، والبعيدة عن مقص الرقيب، والبعيدة عن أهل الحول والطول الذين يمارسون تكميم الأفواه، ويصادرون حرية التعبير التي لا تتوافق مع أهوائهم وميولهم ورغباتهم! ولعل التجربة الفلسطينية الثورية المستمرة التي حولت الجدران إلى صحف مجانية يقرأها الجميع، والثورة السورية الحالية التي بدأت شرارتها بكتابة بعض العبارات المعارضة للنظام الأسدي في درعا، والتي كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت الثورة السورية المباركة، أكبر دليل على الدور الذي تلعبه الجدران العربية اليوم. ولعلي بعد هذه المقدمة أستطيع أن أسأل معشر القراء بمختلف شرائحهم وأجناسهم، وأنواعهم هذا السؤال: مَنْ مِنّا -عزيزي القارئ، وعزيزتي القارئة بطبيعة الحال، لم يُخرّبش يومًا ما على الجدران، سواءً بعبارة مقتضبة، أو برسمةٍ معينة؟ ومَنْ مَنّا -معشر القراء- لم يكتب ويرسم ويُخرّبش على طاولته المدرسية سواءً بالمُزِيل، أو الحفر بالقلم الرصاص، أو بالألوان المختلفة؟ وَمَنْ مِنّا، وهنا -مربط الفرس- عندما تغيرت الرؤى والأفكار -فيما بعد- لم يستهجن تلك الكتابات والرسومات والخربشات، ويصف أصحابها بمختلف الأوصاف بدءًا من التخلف وانتهاءً بالأمراض النفسية؟ حسنًا! أما أنا فقد كتبتُ، ورسمتُ، وخربشتُ، وعندما كبرتُ، حملتُ ذلك الاعتقاد عن أولئك الذين يمارسون من خلال كتاباتهم ورسوماتهم على الجدران العبث بالممتلكات العامة والخاصة. وظللتُ أحمل هذا الاعتقاد زمنًا طويلاً، حتى شاءت الأقدار أن أقرأ كتابًا جميلاً، ورائعًا، وغريبًا في آن معًا! فأما جَمَالهُ فيكمن في أنه الأول من نوعه في العالم العربي الذي يعالج ويهتم بقضية الكتابة على الجدران أو ما عُرف في قاموس أكسفورد الإنجليزي ب»الفن الجرافيتي»، وأما روعته فتتجلى حقيقة في النوافذ التي فتحها الكاتب على هذا العالم «عالم الكتابة على الجدران»، هذا العالم الذي يحمل أسرارًا وحكايا مختلفة كما أشار إلى ذلك مؤلفه. وأما غرابته فتكمن في ذهاب الكاتب في مُؤلفه على أن الكتابة على الجدران هي نوع من أنواع الفنون الأدبية، مثلها مثل الشّعِرِ، والنّحت والموسيقي، والتصوير! ستُدهش -عزيزي القارئ- عندما تقرأ في هذا الكتاب الذي عنّونه كاتبه باسم «الكتابة على الجدران» بأن الكتابة على الجدران أو الفن الجرافيتي طبقًا للمصطلح الإنجليزي، ليست كما يصفها علماء النفس بأنها عبارة عن أزمة نفسية تتمثل في الكثير من الرغبات التي تخرج من العقل الباطن أو اللاوعي، بل إنها تمثل في حقيقتها نصوصًا سردية لا تختلف عن القصص والروايات والحكايات من حيث البِنى الدلالية التي تحملها. فهي كما يقول الكاتب: تعجّ وتضجّ بالحكايات والأشعار والحِكم، والرسائل التي تكتنز في معظمها لغة سردية. وأن هذه الكتابات كما أشارت دراسة الكاتب عبارة عن فن أدبي مثله مثل بقية الفنون المختلفة. وستزداد دهشتك عندما يذهب الكاتب في دراسته إلى أبعد من ذلك ليدلل على أن الكتابة على الجدران هي خطاب ثقافي ومعرفي يبحث في مسائل المُهمّشين، والمنسيين، والمسكوت عنهم! هذا الخطاب الذي يحمل الكثير من الأفكار والرموز والرؤى تتوارى خلف التهمّيش السياسي والاجتماعي والاقتصادي! وإليك -عزيزي القارئ- بعض أقوال الكاتب التي يتكئ عليها للتأكيد على أهداف دراسته لهذا النوع من «الفن»: الكتابة على الجدران هي إحدى الفنون التشكيلية التي تعبّر عن رؤى وأفكار متنوعة. الكتابة على الجدران تمثل نصوصًا سردية مفتوحة، تختبئ بداخلها قصص وأسرار وحكايا لأنماط ووجوه ثقافية مجتمعية. الكتابة على الجدران تعبّر بشكل وآخر عن أزمة وجود، من لغة الفضح، والتعرية والعنف والوحشية والانقلاب على السائد المألوف. الكتابة على الجدران تمثل نسقًا ثقافيًا تعبيريًا. الكتابة على الجدران عبارة عن توثيق معرفي ونفسي يستهدف الزمان والمكان. الكتابة على الجدران تشير إلى قضية كبرى من القضايا النقدية الحديثة وهي نظرية موت المؤلف عند جاك دريدا و رولان بارت، على اعتبار أن الكاتب على الجدران غائب أو غير معروف من الأساس. الكتابة على الجدران تُعتبر شفرة سرية تتعامل بها بعض العصابات، وتجار المخدرات والجنس والجريمة، وذلك عن طريق الرسوم والعلامات التشكيلية. الكتابة على الجدران تحمل نفسًا أدبيًا وفنيًا، يتوارى خلف التهمّيش، والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة. وخلف الفقر والعوز والحاجة، وعدم إتاحة الفرصة للبروز في ظل غياب المؤسسات الحاضنة للمواهب! وقبل أن أكمل آراء المؤلف لابد أن أتوقف هنا لأقول من باب التذكير فقط لأصحاب «الإحساس بالنقص والدونية، وجلد الذات»: أن هذه الظاهرة، -ظاهرة الكتابة على الجدران- ليست مقتصرة على معشر العرب، بل هي ظاهرة عالمية. ففي بريطانيا اكتشفوا عادة هدامة في المراحيض، وهي كتابات يقوم بها الجالس لقضاء حاجته حيث يستعمل قلمه الخاص، الأمر الذي دعا المجلس البلدي إلى إعادة طلاء المرافق بين حين وآخر. ولكن الأمر كان في ازدياد. عندها وضعوا أبواكًا من الورق الأبيض المعلقة، يرافقها قلم رصاص، داعين الجالسين في الحمّام لقضاء حاجاتهم استعمال الورق بدلاً من الجدران، وأصبحت تلك الدفاتر «الأبواك» وأقلام الرصاص جزءًا لا يتجزأ من مناقصات التزويد الذي يشترط على شركات النظافة مراعاتها. وفي النرويج مثلا هناك أماكن مخصصة للكتابة والرسم، فمن حق كل إنسان من وجهة نظرهم بطبيعة الحال أن يبدى رأيه، وإن يظهر فنه. الأمر الذي اقترح فيه البعض على مسؤولي البلدية تخصيص أماكن للكتابة والرسم والتفريغ! شريطة أن يوضع تنبيه وهو عبارة عن ملصق أبيض يكتب عليه: «أكتب كل ما تريد، ولكن لا تسيء للآخرين». الكتابة على الجدران تحمل خطابًا ثقافيًا ومعرفيًا، يحاول أن يعبّر عن قضايا سياسية واجتماعية وعاطفية ووجدانية لكثير من مسائل المُهمّشين والمنسيين والمسكوت عنهم! الكتابة على الجدران تتصل بعوالم نفسية عميقة، وهي تلك المرتبطة بعوالم الأحلام، وربما القاسم المشترك بينهما هو المنطق العبثي للتصورات. الكتابة على الجدران عبارة عن طاقة كامنة، طاقة ممنوعة من التعبير، ولا تنفجر تلك الطاقة إلاّ عبر الجدران المختلفة! حسنًا.. الطاقة الكامنة والممنوعة من التعبير! قرأت في كتاب «المحاضرة الأخيرة» للدكتور راندي باوش عن أحد الأحلام التي تحققت في طفولته، وهي سماح والده له بالكتابة والرسم على جدران غرفته الخاصة. الأمر الذي مكنه من إطلاق موهبته المحبوسة بالداخل من جهة. وفي ذات الوقت حققت الرغبة المتسعرة في داخله للكتابة والرسم على الجدران! والأهم من هذا وذاك، ستجد عشرات الصور التي التقطها الكاتب في كثير من المواضع التي تعبّر بطريقة وأخرى عن فلسفة رسوم الأشياء من صور لبعض الفنانين، إلى الرسوم الكارتونية، والإعلانية، والوجوه والملامح المختلفة، والأيدي والأصابع المتعددة، ورسوم الحيوانات، والصيد، والسيارات، وأرقام لوحاتها، وغيرها مصحوبة ببعض تعليقات الكاتب الرائعة. باختصار يريد المؤلف من خلال هذا الكتاب الماتع، الوصول إلى حقيقة غائبة عن أذهان المجتمع أو مُغيّبة بطريقة أو أخرى إذا أردنا الدقة، ألا وهي أن الكتابة على الجدران ليست إلاّ رأيا حُرم من التعبير في وسائل الإعلام المختلفة بشكل خاص، وفي مختلف قنوات التعبير بشكل عام، وأن هذا الرأي المخنوق لم يجد متنفسا لصرخته إلاّ الجدران! حسنًا! قد نتفق كليًا أو نختلف مع الكاتب على بعض الجزئيات، ولكننا بكل تأكيد لا نستطيع إلغاء ذلك الجهد المميز الذي قام به، من جمع الصور لكثير من الخربشات والكتابات، ومن ثم التعليق عليها برؤية نفسية وفنية وتحليلية جميلة، بالإضافة إلى ما قدمه من نظريات ورؤى حركت المياه الراكدة، الأمر الذي يجعلك تجزم يقينًا بأن هذا الكتاب الذي ضم كل تلك الخربشات الجدارية من صور وتعليقات، يستحق فعلا كل ذلك العناء الذي تكبّده الكاتب. وأخيرًا تكمن أهمية هذه الدراسة في نظري المتواضع، أنها الأولى على مستوى العالم العربي، حيث أنه لم يتطرق أحد لا من قريب ولا من بعيد عن هذه الظاهرة، عدا بعض النشرات التربوية هنا وهناك، أو بعض المقالات التي تنظر من منظور نفسي واجتماعي وإرشادي بحت، وتاليًا تندد بمثل هذا العمل. وتكمن الأهمية الأخرى، لهذا العمل، وهي مستمدة من الأهمية السابقة، أن صاحب هذا الكتاب الرائع يحمل الجنسية السعودية أبًا عن جد! وحتى لا يتهمّنى أحدًا بالعنصرية أسارع فأضيف أن التقسيم الثقافي القديم للمراكز والأطراف ما زال يطل علينا بين فوقية وأخرى للأسف!، ذلك التقسيم الذي يقوم على أن المراكز الثقافة القديمة المتمثلة في مصر والشام والعراق ما زالت تنظر بشيء من الفوقية على الأطراف وهي الجزيرة العربية، والمغرب العربي -وأخشى ما أخشاه بعد أن ذابت الفوارق، والفواصل بين المركز والأطراف أن يأتي من ينظر لصاحب العمل الأول من نوعه في العالم العربي على أنه كان -ومازال- من أهل الأطراف! وأخيرًا -عزيزي القارئ- أرجو أن تكون السطور المتواضعة أعلاه، قد أغرتك باقتناء كتاب «الكتابة على الجدران» الصادر عن وزارة الثقافة والإعلام السعودية، للكاتب الأستاذ سامي جريدي الحائز على جائزة الشارقة في المفاهيمية. (*) ماجستير في التاريخ الحديث من جامعة أم القرى