هذه قصةٌ تحكي عن سعيد اليمني في بلادي، الذي يعيش بيننا، قصة مبللة برائحة العسل الحضرميِّ، والنرجس الأسمر.. سعيد ذلك اليمنيُّ الأصيلُ النقيُّ الأمينُ على المال والعرض، مسالمٌ محبٌّ للخير، نشيطٌ يحرثُ الأرض من أجل تعليم أبنائه، لا يقبلُ الصدقاتِ، ولا الهباتِ، بل يعملُ أعمالاً متنوّعة، ويعينُ أهله في بلاده. بعد السنوات اليوم هرم سعيد لكنه مملوء باليقين، الشيبُ يزحف ببطء على رأسه.. فعلت تضاريس الزمن أفعالها فيه. عصف الألم قلبه، لكنه يسعى في مناكب الأرض. في حربِ الخليج لم يستطع النومَ في تلك الليالي، كان هاجسه الأكبر: هل يغادرُ البلادَ مع مَن غادرها من إخواننا اليمنيين؟! ظلت تلك الليالي مستيقظة في ذهنه، لم تمحُها الأيامُ، ولا الآلامُ، كيف يغادر وذكريات حارة العمارية، والكندرة، والبلد لا تفارقه؟! في هذه البلاد وُلدت مريم ابنته، وفي الشرفية أول مكتب عقار تعلَّم فيه فنون البيع والشراء، مع إنسانٍ يَكنُّ له حبًّا وودًّا غير محدود، رجل أحبَّ رائحته، لكل إنسان نسيمه الخاص لا يتكرر في شخص آخر، هذا ما يقوله سعيد. كان يسأل نفسه: هل يمكن لهذا القلب أن يتوقف قبل أن أُدفن في هذه البلاد التي تنفّستُ فيها الهواء، ودرس فيها أولادي الفيزياء والكيمياء؟! كلما ضعف قلب سعيد يحمل أطرافه فوق ظهره متّجهًا إلى أقرب مشفى؛ ليتأكد أن قلبه ينبض للحياة والانتماء. كلّما مرّت ذاكراته المتألّمة تضيء الألم.. لا حاجة لسعيد أن يتكلم أحيانًا ليهدئ من معاناته، فنوع الألم عنوان مكتوب في مخزون ذاكراته المرتجفة.. كلّما قابلته ينظر إلى النافذة المشرعة نظرة الطاعنين للأشياء.. ويجيبك عندما يسأل كأنه يناجي نفسه.. أنا لا أبكي على الماضي، ولكني أبكي لأن الله سبحانه وتعالى منحني العيش في هذه البلاد الآمنة المطمئنة دون أن أشعر أني يمنيُّ الجنسية!! حديث سعيد سيبقى طويلاً يتمايل على أطراف ذاكرتي كوثيقة (للسعي والمثابرة).. والذي طالما نفتقده اليوم، وطوبى لمن كانت له رؤية فيبصر. [email protected]