معيار الجمع ما بين واجبات الحياة وتكاليف الشريعة يقوم على أساس: «وجوب العناية بهما جميعا» ذلك أن الله تعالى خلق الإنسان روحا وبدنا، ثم خلقه لحياتين، وجعل الحياة الدنيا قنطرة إلى الأخرى، والآخرة حاكمة على الدنيا، فهو محصور بينهما، تحكمه قوانينهما، ليس في مستطاعه إلا مراعاتهما؛ لأنه إذا أخل بأحدهما أضر بالآخر ثم بنفسه. فلا بد له من العناية بالدنيا والآخرة جميعا، لا مناص، ولا مفر، ولا منجى.. هذا أساس الميزان والمعيار بالإجمال، أما عند تفصيله، فواجب أن ندرك ثلاثة أمور: الأول: قدر العناية الواجبة لكل منهما في نصوص القرآن والسنة، نجد المنع من الاستغراق في أحدهما دون الآخر والاستغراق بمعنى الغرق، يقول الله تعالى: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة)، فهذا خبر يتضمن نهيا، وهو على درجات، منه: استحباب تام كاستحباب الكافرين، ومنه: ما هو دون ذلك، محرم لكن لا يكفر به، وقال: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم..)، هنا نهى عن الاستغراق في الدين، عبر عنه: بالترهب، وهو الاعتزال ووضع الميزان بقوله: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، فالمطلوب: الانتصاب للدين وللآخرة، وعمل ما تقوم به الدنيا. الثاني: ماذا يجب حين يتعارضان؛ أيهما المقدم على الآخر؟. تقديم الدنيا على الدين إذا تعارضا على ثلاث مراتب: الأولى: التقديم بما فيه تعريض الإيمان للزوال بترك الصلوات بالكلية لأجل الدنيا، وهذا مخرج من الملة. الثانية: التقديم بما فيه تعريض الإيمان للضرر بفعل محرم كشرب الخمر، وهذا محرم. الثالثة: التقديم بما فيه تعريض الإيمان للنقص عن التمام بفعل المكروهات كالاستغراق في المباحات. هذا الميزان محك الصدق، به يعرف الإنسان قدر الدين عند نفسه، وهو كاشف عن إيمانه. الثالث: ما بينهما من تداخل واختلاط بمعنى: أنه ما من عمل دنيوي، إلا وللدين امتزاج واختلاط به، هذا الامتزاج على قسمين: واجب، ومندوب، فأما الواجب: فألا يخالف في عمله الدنيوي حكما لله تعالى، وأما المندوب: فهو القصد بأعمال الدنيا وجه الله والدار الآخرة. بهذين الأمرين: وجوبا، وندبا يمتزج الدين بالدنيا، فيحقق الإنسان الغاية من الخلق: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، ليس المعنى: أن يظل في المساجد إنما يؤدي عاداته، وينوي بها وجه الله تعالى. ذلك في امتزاج الدين بالدنيا أما امتزاج الدنيا بالدين؛ بمعنى: دخول حظوظ الدنيا في العبادات على قدم المساواة، فإن هذا هو الشرك، فإن الله تعالى لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا، إلا إن تأخر حظ الدنيا، فكان المقدم وجه الله تعالى، والرغبة في الدنيا مؤخرة، فهذا لا جناح فيه. خلاصة ما سبق: الأول: لا استغراق.. في الدنيا، ولا في الدين، بل توازن بينهما. الثاني: تقديم الدين على الدنيا مطلقا إذا تعارضا. الثالث: امتزاج الدين بالدنيا في كل نشاطاتها، وأما امتزاج الدنيا بالدين فبشرط أن تؤخر.