يمكن القول: إن موضوع (الاختلاط) مازال يشغل حيزاً كبيراً على رقعة حواراتنا الاجتماعية على مستوى مختلف التيارات الفكرية، لكونه يرتبط بتفاصيل حياتنا اليومية من جهة، ومن جهة أخرى علاقته بمجالاتنا التنموية وفعالياتنا الاقتصادية، ما جعله مادة رئيسة في النقاشات الثقافية والحوارات الإعلامية. (الجزيرة) تُعيد الحوار حول الاختلاط، للبحث والنقاش في مدى علاقته بطبيعة المجتمع؟، وما هي صوره الواقعية؟، وهل التاريخ سواءً الإسلامي أو المحلي شاهد إثبات أم نفي لهذه العلاقة؟ وغيرها من مسائل، وذلك باستضافة الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود وعميد كلية الشريعة بالرياض سابقاً، والأستاذ أحمد بن قاسم الغامدي الباحث الشرعي ورئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكةالمكرمة سابقاً، فإلى تفاصيل الحوار: الاختلاط والخلوة تحرير أي مصطلح يُسهم في تحديد أبعاده الفكرية وفهم معناه بشكل واضح، وكون مصطلح (الاختلاط) قد واجه جدلاً واسعاً فلا بد من تحريره ومعرفة هل هو محدث أم قديم في تراثنا الإسلامي؟. الأستاذ أحمد الغامدي يقول: (الاختلاط في اللغة التداخل والامتزاج، وهو مصطلح محدث في التراث الإسلامي، إذ لم يكن موضوع مسألة عند الفقهاء المتقدمين فضلاً عن القرون المفضلة). الدكتور سعود الفنيسان يوضح أكثر بقوله: (الخلط: المزج بين المائعات وغيرها، ويقال اختلط الظلام وخالط الإيمان القلب امتزج به ومنه الحديث: نهى عن الخليطين.. شراب البسر والتمر أو العنب والزبيب. واختلط فلان فسد عقله. والتخليط في الأمر: الإفساد، ومنه الحديث: (خلطتم علي القرآن،) أي أفسدتم علي قراءتي. وخلاط الرجل ومخالطة للمرأة: جامعها. ومنه الحديث: إذا خالط فقد وجب الغسل). ومخالطة الناس رجالا ونساء: الاجتماع بهم، ومنه حديث:كانت عائشة تطوف حجرة - أي منعزلة- من الرجال لا تخالطهم، ومنه الحديث: الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم، ويقال في المجلس أخلاط الناس: أي أجناسهم في دين أو نسب وغيره). ثم يُحدد الدكتور الفنيسان المسألة بشكل أكبر بقوله: (فمادة خلط ومشتقاتها ترجع إلى المزج والجمع والإفساد، وعلى هذا فمصطلح الاختلاط قديم معروف لغة وشرعاً، غير أن هذا يقود إلى مسألة (الخلوة) وهل يمكن اعتبارها من صور الاختلاط، وعلى أي أساس يمكن التفريق بينهما؟، يجيب الفنيسان: (مادة خلا ومشتقاتها تدور على معنى واحد هو الانفراد، يقال: خلوت بفلان أو خلا الجماعة به إذا انفرد أو انفردوا به، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ومنه الحديث (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما..) فالخلوّ: اختلاط. غير أنها أخص منه، فكل خلوة هي اختلاط ولا عكس. وكل اجتماع بين اثنين أو أكثر اشتمل على الريبة وسوء القصد فهو اختلاط وخلوة وكلاهما محرم. على النقيض يرى الغامدي بقوله: (الخلوة ليست إحدى صور الاختلاط، فالخلوة تعني اختفاء الرجل بالمرأة عن أنظار الناس، وزاد بعض الفقهاء بحيث لا تندفع التهمة عنهما، واعتبار هذه الزيادة تدل عليه نصوص صحيحة، والاختلاط ليس فيه اختفاء عن أنظار الناس، فهذا فرق واضح بين الأمرين). صور الاختلاط إذا كانت الخلوة تعتبر من الاختلاط في مقابل من يرى أن طبيعتها تنفي ذلك، لأن الاختلاط يعني اجتماع الرجال بالنساء بالمطلق، سواءً في أماكن عامة مفتوحة وأخرى خاصة مغلقة، فهل الاختلاط على صورة واحدة محددة أم صور مختلفة ومتعددة؟ الأستاذ الغامدي يرى الاختلاط ذا معنى واحد ولكن بصور متعددة، فيقول: (نعم الاختلاط معنى واحد وإن اختلفت نماذجه لاختلاف بيئاته وأماكنه، فهو في النهاية وجود النساء مع الرجال في المكان الواحد عاماً كان أو خاصاً في غير خلوة، فإذا كان لسبب مشروع ولم يصاحبه ريبة أو مزاحمة بالأبدان اختياراً فالأصل فيه الإباحة، وإنما يحرم لما يصاحبه من محذور لا لذاته). لكن الدكتور الفنيسان يفصل في هذه المسألة موضحاً: (الاختلاط الشائع اليوم لا يخرج من دلالته اللغوية، التي ترجع إلى معان ثلاثة المزج والاجتماع والإفساد، غير أنه يحتاج في ضبطه إلى معنى شرعي، ومنه حديث عبد الله بن مسعود في البخاري: (خالط الناس ودينك لا تكلمه - أي تجرحه)، وحديث عائشة أيضاً في الصحيحين أنها كانت تطوف بالكعبة حجرة من الرجال (لا تخالطهم) أي تتجنب مماسة الرجال، فإذا كان هذا في عبادة الطواف ففي غيرها من باب أولى ثم يضيف: (الاختلاط المحرم هو اجتماع متقصد (منظم) مثير للريبة والفتنة بين الرجل والمرأة دون محرم، ويكون عادة في المدارس كما في الجامعات ودوائر العمل من مؤسسات وهيئات وغيرها. أما اجتماع غير المقصود فلا تحصل منه الريبة كما في الأسواق ووسائل النقل كالطائرات ونحوها فهذا جائز لأنه غير مقنن وتنتفي فيه الريبة عادة حيث لا يتمكن صاحب السوء من بغيته بجمع من الناس). غير أن الدكتور الفنيسان يؤكد مسألة أخرى ترتبط بصور الاختلاط، فيقول: (والحديث عن الاختلاط لابد فيه وضع ضوابط تقمع الفتنة وتمنع الريبة وتحمي المرأة أن يتعرض لها بسوء كالالتزام بالحجاب والحشمة بعدم تبرجها وإظهارها لزينتها التي تفتن الرجال لقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}. وغض البصر من الجنسين لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنمِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ..}. وعدم الخضوع بالقول على المرأة خاصة أثناء مخاطبة الرجال لقوله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}، ولا تتكسر في مشيتها ولا يظهر منها تعطر وزينة تلفت حواس الرجل فتفتنه قال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. الدلالة القرآنية للاختلاط الإيضاح اللغوي يستلزم تعزيزه بالقرآن الكريم، من حيث الاستشهاد بآيات محكمات ناقشت أو أشارت إلى الاختلاط، فما أبرز الآيات التي أشارت للاختلاط؟ بغض الطرف عن الحكم الشرعي، فهذا له نقاش آخر. الأستاذ الغامدي ينطلق من قاعدة (الأصل في الأشياء الإباحة) ، ومن ذلك يشير إلى الآيات القرآنية التي يراها تجيز الاختلاط فيقول: قولُهُ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ، فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}. فأباح الله عزّ وجلّ للنساء أن يشهدْنَ على المبايعاتِ والمدايناتِ، ولا شكّ أنّ هذا يستلزم اختلاطَهن بالمتعاملين، وخروجهن إلى الأسواق وهي مليئة بالرجال. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}. وقولُهُ تعالى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً}. فالآية صريحة في إباحة التعريض للمرأة بالزواج. وهذا ليس مجرد اختلاط، بل فيه تعريض بالرغبة في الزواج، وكذلك آية المباهلة فيها دلالة على جواز مطلق الاختلاط). في المقابل للدكتور الفنيسان رأي مختلف حول هذه الآيات من حيث الاختلاط، فيقول: (الاستدلال بآية الدين في شهادة المرأة في عقود المبايعات فهو حق للمرأة كما هو حق للرجل، ولكن المرأة عند التقاضي مأمورة بالتستر والحشمة وإن اضطرت لكشف الوجه فقط عند القاضي فلا حرج ولا يعزم من تقاضيها في حقوقها المدنية والشرعية اختلاطها ومماستها للرجال، وكيف يكون بمحضر القاضي؟، أما الاستدلال بآية الحجرات على جواز الاختلاط فو الله إنه لمن السفه والخبل وذهاب العقل أن يقال: إن الاختلاط بين الرجال والنساء هو سبب لتعارف الأمم والشعوب بينما هو سبب هلاكها ودمارها كما يعرف عقلاء البشر، كيف يجتمع هذا الاختلاط المحموم والمذموم مع التقوى في الآية {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وقالوا أيضاً: الأصل في الأشياء الإباحة، وهذهقاعدة شرعية ودليل عقلي سليم ولكن لا يُصار إليها إلا عند عدم الدليل من القرآن أو السنة أو قول صحابي لم يخالفه صحابي آخر. ومع وجود واحد من هذه الأدلة الثلاثة لا اعتبار لهذه القاعدة لأنها دليل عقلي يتأخر مرتبة عن الدليل الشرعي). الاختلاط في التاريخ ما سبق يقود إلى محاولة استعراض التاريخ في توضيح هذه المسألة، فهل كانت المجتمعات في القرون المفضلة مختلطة أم غير مختلطة، وبأية صورة عاش المسلمون واقع الاختلاط خلال تاريخهم الطويل؟. الدكتور سعود يحيل المسألة إلى طبيعة الحياة في تلك المجتمعات، فيقول: (المجتمعات المسلمة في العصور الماضية يغلب على أهلها من الجنسين حسن النية والقصد والبعد عن الريبة وكل ما يشين. أما أكثر المجتمعات المعاصرة اليوم فقد فسدت ضمائر كثير من الناس واختلت فطر آخرين منهم نتيجة فساد الزمان وظهوركثير من وسائل تقنية حديثة تثير الغرائز الجنسية بين الشباب في البيت.. والشارع.. والمدرسة.. والعمل.. والإعلام المقروء منه والمسموع والمرئي). لكنه يوضح أكثر من خلال دلائل تاريخية، فيقول: (بدأ الحديث تاريخياً في النهي عن الاختلاط في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الأحاديث النبوية. ثم عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، حيث نهى أن يطوف الرجال مع النساء. فرأى ذات مرة رجلا يطوف بينهم فضربه بالدرة. ثم منع خالد القسري في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان اختلاط الرجال مع النساء في الطواف، حيث جعل عند كل ركن من أركان الكعبة حرساً يفرقون بين الرجال والنساء، ثم في عهد إبراهيم بن هشام المخزومي وكان أمير الحج في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 120ه)، ثم يضيف الدكتور الفنيسان: (وبالمناسبة فقد حذّر من مغبة الاختلاط الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود عليه رحمه الله حيث قال: (أقبح ما هناك من الأخلاق ما حصل من الفساد في أمر اختلاط النساء بدعوى تهذيبهن وفتح المجال لهن في أعمال لم يخلقن لها حتى نبذن وظائفهن الأساسية من تدبير المنزل وتربية الأطفال وتوجيه الناشئة الذين هم فلذات أكبادهن وأمل المستقبل إلى ما فيه حب الدين والوطن ومكارم الأخلاق ونسين واجباتهن الخلقية من حب العائلة التي عليها قوام الأمم وإبدال ذلك بالتبرج والخلاعة ودخولهن في بؤر الفساد والرذيلة وادعاء أن ذلك من لتقدم والتمدن فلا والله ليس هذا من التمدن في شرعنا وعرفنا وعاداتنا ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وإسلام ومروءة أن يرى زوجته أو أحدا من عائلته أو المنتسبين إليه في هذا الموقف المخزي) ا.ه. انظر ( مجموعة خطابات وأحاديث الملك عبد العزيز ص322 جمع وإعداد محي الدين القابسي). ولا زال الأمر حتى اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وفقه الله - حيث يقوم رجال الحسبة بالتوجيه والتنبيه بالفصل بين الرجال بالنساء في الطواف ما أمكنهم ذلك ). إلا أن الأستاذ أحمد قاسم يعتبر حالة الاختلاط متلازمة لتلك المجتمعات، فيوضح بقوله: (الاختلاط حالة لم تنفك عن واقع حياة المجتمعات في القرون المفضلة وفيمن بعدهم، فهكذا عاش المسلمون عبر تاريخهم الطويل، وإنما قد تكون بعض صوره مألوفة وبعضها غير مألوفة عند الناس بحسب اختلاف عرف الناس وحاجاتهم من عصر إلى عصر، وعدم وقوع بعض صور الاختلاط أو منعه لعرف أو احتياط في أي عصر لا يعني صيرورة ذلك محرم شرعاً). كما يضيف: (برز الحديث عن الاختلاط كمصطلح ارتبط بالتحذير منه متأخر جداً وعند بعض الفقهاء وشواهد توافر الاختلاط كثيرة ومنها ما نراه في الحياة العامة، ولم يتغير أو ينقل انقطاعه كما في الأسواق والمساجد وفي الحج والعمرة وفي العيدين والمصحات والخدم والسائقين في المنازل ولا يعرف عكس ذلك في الحال العام حتى يستشهد به، وما كان نسبيا أو غلب فيه العرف أو حال فردي لمن يحرمه من المتأخرين في بعض أحوالهم لا كلها، لا يعد شاهدا تاما على عدم الوقوع). في ضوء جزئية التاريخ كيف نوفق بين القول ب(عدم الاختلاط) وإسهام المرأة المتعدد في الحضارة الإسلامية الذي يشير إلى وقوع الاختلاط؟. يرد الفنيسان بأن المرأة المسلمة أسهمت في الحضارة الإسلامية في الماضي فيما يخصها وتستطيعه يوم كانت المجتمعات آنذاك متسمة بقوة الإيمان وحسن النية والقصد والبعد عن الريبة. أما الغامدي، فيرى أنه لا يمكن التوفيق بين ذلك إذ كيف تخرج المرأة لحاجتها أو لحاجة المجتمع إليها في محيط المجتمع دون اختلاط، والجدير بالذكر أن الحكمة الظاهرة من فرض الخمار والجلباب على النساء هي تيسير مشاركتهن في الحياة العامة لا منعهن من المشاركة. الموقف الفقهي في الاختلاط واقع المجتمعات المسلمة اليوم وحكم المسلم المغترب في مجتمعات مختلطة لابد أن يكون مرتبطاً بمواقف فقهية لها امتدادات تاريخية، فما أبرز أقوال السلف من خلفاء وصحابة وتابعين في الحديث عن الاختلاط، سواءً في قبوله أو رفضه؟ الأستاذ الغامدي يقرر أنه لم يجد في حياة السلف ما يمنع الاختلاط، فيقول باختصار: (لم أجد نقلاً صحيحاً عن القرون المفضلة في منعه، وما يروى من أحوالهم يشعر بإباحة الاختلاط، النقولات والنصوص الصحيحة، التي وقعت بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة أصحابه أعظم بيان وأصحه على الإباحة). كما يضيف موضحاً: (الاختلاط في ذاته الأصل فيه الإباحة، فإن صاحبه مزاحمة بالأبدان أو ريبة أو كان لسبب غير مشروع فلاشك أنه غير جائز وتحريمه لهذه الأسباب لا لذاته، ولم أجد نصا عن أحد من أئمة المذاهب الأربعة يحرم فيه الاختلاط بل على العكس المنقول عنهم يفيد الجواز فمن ذلك أنه سُئل الإمام مالك رحمه الله هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم أو مع غلامها قال مالك: ليس بذلك بأس إذا كان ذلك على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال - باب جامع ما جاء في الطعام والشراب 2-935 الموطأ). وسأل المروذي الإمام احمد بن حنبل رحمه الله كما جاء في الفروع 5-109 (عن الكحال يخلو بالمرأة قد انصرف من عنده هل هي منهي عنها؟ قال: أليس على ظهر الطريق! قيل: نعم، قال: إنما الخلوة في البيوت)، فدل هذا صراحة على أن الإمام أحمد لم ير في وقوف المرأة لوحدها مع الكحال محذورا لكونهما على ظهر الطريق. ونص النووي رحمه الله على جواز الاختلاط إذا لم يكن فيه خلوة، وذلك في شرح المهذب في رده على الشيرازي فقال: (ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام)، واحتج كثير من الفقهاء بعمر رضي الله عنه أنه ولى امرأة من قومه يقال لها (الشفاء) الحسبة في السوق لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذا يستلزم بلا شك مخالطتها للأجانب من الرجال، وحديث الشفاء وإن كان في سنده كلام إلا أنه يشهد له ما جاء في الصحيح من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي تقم المسجد وما نقل من أحواله عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، التي تدل على جواز مشاركة النساء في الغزو والمهنة والعمل، وقد أجاز الطبري ولاية المرأة، وكذلك الأحناف وطائفة من الفقهاء، وكل ذلك يقتضي جواز الاختلاط عندهم)، وقال ابن مفلح الحنبلي: (الخلوة هي التي تكون في البيوت.. أما الخلوة في الطرقات فلا تعد من ذلك). غير أن الدكتورالفنيسان يستشهد بخلاف ما قاله الغامدي فيقول: (من الأحاديث الصحيحة حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عند البخاري - أنها كانت تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم - الحجر الأسود- يا أم المؤمنين قالت: انطلقي عنك!! وحديث: (أمر الرسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها أن تطوف من وراء الناس، وفي سنن أبي داود من حديث أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله للنساء: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق: فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به). ثم يؤكد بقوله: (جميع المذاهب الفقهية وإن اختلفت نتيجة لفهم الدليل أو بلوغه أو عدمه - كلها تدعو الطرفين الرجل والمرأة والشاب والشابة إلى التزام الآداب والتحلي بالأخلاق لأنها كلها تصدر من نصوص واحدة في الجملة). يتبع في الجزء الثاني