تطرق الدكتور صبحي الحارثي الملحق التعليمي الأسبق للمملكة بالولاياتالمتحدةالأمريكية في هذا الجزء من الحوار إلى عدد من القضايا، حيث أشاد بالمرأة والفتاة السعودية، مؤكدا أنهن قادمات بقوة في السنين القادمة لتولي مسؤوليات ومناصب، مشيرا إلى ما تبوأنه من مكانة عالمية وعلمية وتعليمية.. كما تحدث الدكتور الحارثي عن جانب من حياته الخاصة والعملية، منذ عمل معلما في إحدى مدارس الطائف، مرورا بمشاركته في تأسيس وزارة التعليم العالي، وحتى توليه مسؤولية الملحقية التعليمية بالولاياتالمتحدة.. وفيما يلي نستكمل معه الجزء الآخر من هذا الحوار: **بالعودة إلى سنين الطفولة الأولي عشت في بيئة لا تحبذ التعليم.. احك لنا عن ذلك؟. -والدي رحمه الله كان نشيطا في المطالبة بإنشاء مدارس لقرانا في المنطقة التي ننتمي إليها، وقد وافقت الدولة على إنشاء مدرسة العام 1369ه، وهي أول مدرسة تفتح بالقرية وكان مديرها الشيخ محمد بن صقر المدرع رحمه الله، وقد لاقت هذه المدرسة مقاطعة ورفضا من الأهالي، الذين كانت مظاهر حياتهم القديمة ما زالت بعد قاسية تتخللها حروب قبلية كثيرة وتعتمد على القوة البدنية لممارسة الزراعة، ولهذا كان الأهالي يربون أبناءهم على القوة والشجاعة ويرون أن التعليم يقلل من هذا الاستعداد لأداء هذه المهام لأن التعليم يرقق قلب الإنسان ويغير مفاهيمه فيصبح أكثر إدراكا لقيمة أخيه الإنسان، وكان الملك عبدالعزيز رحمه الله عندما يرسل مندوبين لإحضار الطلبة من نجد للدراسة في الطائف يطلب منهم البحث عن الطلبة المتميزين وعدم الاستماع للأهالي، ويحذرهم من تضليلهم وإرسال الطلبة غير المتميزين والاحتفاظ بالمتميزين في المزارع، وكان الناس أيام الحروب بين القبائل يعتدون بأبنائهم المحاربين ولا يريدون أن يكونوا مقرئين، فالمقرئ والواعظ الذي يعلم الناس ويؤمهم في الصلاة لا يعدونه محاربا ولا يتعرضون له وقت الحروب، ولذلك لم يقبل الأهالي المدرسة لأنهم شعروا بأنها ستثبط همم أبنائهم عن الحرب. وكان لوزير التربية والتعليم السابق حسن آل الشيخ، والذي قلما يجود الزمان بمثله، عطاء كبير في خدمة التعليم بالمملكة، يوازيه دور والده الشيخ عبدالله آل الشيخ رحمه الله في إمداد قرانا بالمطاوعة لزيادة التعليم الديني، فكان يطلب أئمة مساجد وكان له دور كبير في ذلك بالمنطقة الغربية. **هل تندرج هذه القصة تحت ما كان يقوم به البعض من محاولات لإيقاف عجلة التطور، كما حدث مع قضية تعليم المرأة في عهد الملك فيصل رحمه الله؟. -معارضة التطور والتحديث كانت ظاهرة في الماضي وخصوصا في مجال التعليم، أما الآن فقد تغير الوضع وأصبحت المرأة تنافس الرجل على التميز في التعليم، وبعد أن كنا نخشى تعليم أبنائنا في بيوتنا وقرانا أصبحنا الآن وخلال حقبة زمنية صغيرة نتسابق لإرسال بناتنا وأبنائنا للابتعاث في الدراسة بالخارج وفي هذا دليل على تغير كبير طرأ على الفكر. **يبدو أنك تنحاز للمرأة، فهل تراها تفوقت علي الرجل؟. -رد ضاحكا: لا تحرجني مع الشباب، ولكني أقول بصدق وأمانة ان إخوتنا وبناتنا يستحققن الفخر بهن وذلك من واقع ألمسه من خلال بناتي وغيرهن، والنساء قادمات بقوة، وبناتنا الآن يتنافسن على مناصب قيادية عالمية والفضل بعد الله يعود إلى الملك عبدالله الذي تبنى هذا الاتجاه وهو يريد تطوير المرأة السعودية ليعلم العالم أجمع أن لدينا مكنوزا نسويا على قدر كبير من العلم والفهم والاطلاع. **هل كان دور المرأة معطلا في الماضي؟. -اسمح لي بالقول ان هذا غير صحيح، لكن القيادة لديها سياسة ثابتة وممتازة في دفع عجلة التطوير تعتمد على عامل الزمن وتدرجه، فلكل زمان تركيبته ورجاله وما يصلح له، فأحيانا تكون القيادة تريد أمرا معينا للمرأة لكن الوقت غير مناسب والمملكة بلد كبير كقارة وتحتاج للتدرج في الوقت لإرساء الإصلاح.. ونحن نستطيع أن نعطي المرأة كامل حقوقها ليس تفضلا بل لأنه حق من حقوقها أعطاها إياه رب العزة، والشريعة المحمدية تستوعب ليس المتغيرات التي نعيشها فقط بل وما هو قادم، وديننا يعطي المرأة حرية وحق التعلم والمعرفة والانطلاق في حدود هذا الدين، وهذا الإطار الديني واسع ولربما كانت النظرة خاطئة في يوم من الأيام لبعض الأمور والتي كان ينظر إليها على أنها محرمة وهي ليس كذلك. **كدت أن تتوقف عن إكمال تعليمك لولا تدخل عبدالعزيز آل الشيخ؟. -الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن آل الشيخ كان له دور حاسم في إكمال تعليمي، وكان حينها مديرا لتعليم الطائف، وقصة ذلك أن الوالد بلا معين بعد الله إلاي بحكم دوره في الإصلاح بين الناس وحل مشاكلهم، وقد كان رحمه الله لا يجيد الكتابة بينما أنا كنت قد تخرجت من الصف السادس وأجيدها، ولك أن تقارن بين المتعلمين ذلك الوقت والآن إذ كنت أجيد كتابة الخطابات وإعداد المراسلات بينما بعض طلبتنا الآن في الجامعات تستغرب كيف تمتلئ كتاباتهم بالأخطاء الإملائية، وقد كان يريد ملازمتي له لاحتياجه لي، لكن الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ تمكن من إقناعه باستمراري في الدراسة بمدرسة دار التوحيد بالطائف، والحقيقة أنها كانت خطوة جيدة والحمدلله، فأنا أحب العلم وناضلت كثيرا من أجله. **انتقلت للدراسة في مدرسة دار التوحيد بالطائف بالقسم الداخلي.. كيف كانت مظاهر الحياة بالمدرسة؟. -كان الطلاب يتنافسون في الدراسة بطريقة تسير التعجب كي يحصلوا على الامتياز، وكان طلبة القسم الداخلي يذاكرون وهم جالسين نصف جلسة ليلا حتى لا يغلبهم النوم، وما يثير الاستغراب أن دافع الطلاب كان ذاتيا فليس هناك من يرعاهم، فأهاليهم كانوا في مدن أخرى بعيدة عنهم، حيث كان الاهتمام بالدراسة نابعا من رغبة فيهم لتحقيق طموحاتهم. **بعد تخرجك في كلية الشريعة كنت قاب قوسين أو أدنى من العمل في القضاء ثم تراجعت.. لماذا؟. -تولي القضاء ليس بالأمر السهل وأنا رجل عاطفي، ويؤلمني أن تقتل دابة أو تظلم، وبالتالي وجدت أني سأظل حزينا دائما إن أنا أصبحت قاضيا لأني أخشى الظلم وأمقته وأحاربه وانشد العدالة، وفي هذا الزمن تغير الناس وزاد الظلم، والقاضي أصبح في حرج، وقد امتهنت المحاماة في الفترة الأخيرة وأجد نفس المعاناة فيها لأنها جزء من القضاء. **في بداية حياتك المهنية عملت مدرسا للمرحلة المتوسطة في الطائف وخلال فترة وجيزة أصبحت مديرا لتعليم الباحة في عمر الخامسة والعشرين.. ألم تلق مقاومة ممن حولك لصغر سنك؟. -في الحقيقة لم ألق مقاومة نظرا لأني كنت مهيأ لتولي هذا المنصب كغيري من الطلاب في ذلك الزمان، إذ كنا نتنافس في الخبرة، وقد كنت حينها أملك خبرة كبيرة نتيجة ملازمتي لوالدي الذي كان يحل المشاكل القبلية ويحتك كثيرا بالمسؤولين ويسافر في رحلات عمل كثيرة داخليا، وساهم ذلك في زيادة وعيي وعلمي وتأهيلي للتعامل بطريقة جيدة مع الأعمال والأحداث والقضايا بما يتناسب معها، وقد وجدت تعاونا كبيرا من الموظفين ومن أهالي الباحة الطيبين، والحقيقة أنني استفدت كثيرا من هذه الفترة. **أنت من المؤسسين لوزارة التعليم العالي في المملكة حدثنا عن ذلك؟. -وزارة التعليم العالي أسست في رمضان من العام 1395ه، بعد فصلها عن وزارة التربية والتعليم وكنت أعمل في وزارة التربية والتعليم بذلك الوقت مع زميلي وأستاذي الدكتور طامي البقمي الأقدم مني في سنوات التخرج وعمر الحصين والدكتور محمود سفر وعبدالرحمن العنقري، واختارنا الشيخ حسن آل الشيخ مع مجموعة من كوادر الوزارة، وكان ذلك إبان عودتي من أمريكا مبتعثا لدراسة دبلوم في التربية، وقد عملنا في مكتب صغير جدا بطريق الملك عبدالعزيز، ثم انتقلنا إلى بيت عبدالرحمن بن فيصل آل سعود بمنطقة المعذر، وكان أول وزير للتعليم العالي الشيح حسن آل الشيخ رحمه الله. **لم تنجح في الابتعاث إلى بريطانيا للدراسة.. ما سبب ذلك؟. -كنت من ضمن سبعة طلاب مرشحين للابتعاث وكانوا متفوقين علي في التقدير فتم ابتعاثهم، ومنهم صديقي الدكتور راشد بن راجح الشريف وهو عضو في مجلس الحوار الوطني وعضو في مجلس الشورى وكان مديرا سابقا لجامعة أم القري. **طفولتك كانت قاسية من الناحية المادية رغم إمكانات عائلتك بالنسبة لآخرين؟. -قبل كل شيء أحمد الله الذي هيأ لي فرصا طيبة ووفقني لتربية أبنائي، أما عن صعوبة الحياة التي عشناها وأباؤنا وأجدادنا فكان الكل في جميع أنحاء البلاد يشتركون فيه، وكنت أمص التمرة التي يقدمها لي والدي خوفا من ألا تتوافر واحدة أخرى لبقية اليوم، أما الآن فنحن نعيش في سعة والحمد لله وإن كنا نطمح للمزيد من توفير الحياة المادية الملائمة لجميع المواطنين. **كيف استطعت توفير احتياجات زوجتك وأبنائك وقد تزوجت مبكرا في سن السادسة عشرة قبل إنهاء الدراسة وسط ظروف مادية سيئة؟. -كان غالبية الناس في قريتنا يعيشون وضعا ماديا بسيطا ونعيش بما لدينا، وعندما تحسن الوضع الاقتصادي للمملكة تحسنت معه أحوال الناس من حيث الدخل والعمل والممارسة التجارية مما ساعد في تعليم الأولاد وتلبية احتياجاتهم بطريقة أفضل، وقد أعطتنا الدولة وكرمتنا، وكنت أعمل عملا آخر يساندني في تلبية متطلبات أبنائي، فالوالد لا يتوقع من أبنائه عطاء بل هو من يتوقع منه العطاء. **كيف استطعت أن تربي 17 ابنا وبنتا وتجد الوقت لذلك رغم الاحتياجات المختلفة للأبناء؟. -أنا لدي 4 طبيبات وابني الكبير دكتور خريج الولاياتالمتحدة، وأحد أبنائي خريج بريطانيا قانون، والآخر يدرس إدارة وتسويق، والفضل لله أولا ثم لزوجتيّ، واللتين كانتا تتنافسان على حسن التربية ومتابعة الأبناء والاهتمام بدراستهم، ولولا دورهما وجهدهما ومتابعتهما لما استطعت القيام بهذه المهمة الصعبة، والأم مدرسة إذا اعددتها اعددت شعبا طيب الأعراق، وأنا والحمد لله أفتخر بابنائي ومستواهم العلمي. **بحكم عملك مؤخرا في المحاماة ما هي أبرز السلبيات التي لمستها، وما رأيك في تصريح وزير العدل الأخير بعدم تأخر القضايا في المحاكم لأكثر من شهرين؟. -أولا أنا واثق من قدرة الوزير على الوفاء بوعده، أما عن سلبيات المحاماة فأنا أرى أن على القضاء تفهم دور المحامي، وقد رأيت المحامي مقدرا ومحترما سواء عند القضاة أو الآخرين في الخارج، أما لدينا فما زال المحامي يشعر بأنه مكسور الجناح أمام القضاء لأن قيمته ما زالت منقوصة، وتصوري أن المحامي ساعد على ذلك بعدم اخلاصه في القضايا ودراستها وفي تمكنه من مادة المرافعة التي سيقدمها من خلال التحضير الذي يمكنه من الاطلاع والمعرفة حتى يقدم ما يليق بمقامه. **كان هناك اتجاه لتقنين الشريعة، أين وصل الآن؟. -هذا التقنين مأخوذ من القانون لكنه ليس نفسه، فالتقنين هو أن تحور المواد الشرعية والأدلة الفقهية في قالب قانوني بحيث تصبح مادة عند القاضي يستطيع الاستفادة منها في حكمه وهو شيء جيد، ولا يعني عندما يقال تقنين أن ذلك يعني الانتقال من الشريعة إلى قانون وضعي، هناك أمور شرعية محددة بالكتاب والسنة لا تتغير، لكن الأمور التعزيرية والاجتهادية من القاضي مفتوحة للقاضي حسب اجتهاده وتقنينها يأتي حتى لا يكون الحبل على الغارب للقاضي، فأحيانا ترى نفس القضية يحكم فيها القاضي بثلاث سنوات سجن وقاض آخر يحكم فيها بشهرين، وأعتقد أن هذا الدور جيد ومناسب وأرى أن وزير العدل والمسؤولين في طريقهم لإصلاحها. **لماذا أكملت الدكتوراه في سن كبيرة؟. -حصلت على الدكتوراه من إحدي جامعات السودان وفي الحقيقة أن الجو الذي أحبه ويناسبني هو التعليم، فأنا شغوف بالبحث والاطلاع، ولو خيرت الآن لسافرت للخارج لتحضير دكتوراه أخرى. **انتهيت من إعداد دراسة للدكتوراه في الولاياتالمتحدة، فلماذا لم تناقشها؟. -رسالتي للدكتوراه التي أنهيتها في أمريكا ولم أناقشها نتيجة ظروف خاصة، كان موضوعها من واقع عملي عن الطلبة الذين أخفقوا في التخرج، وقصة ذلك أنه عند وصولي للعمل بالولاياتالمتحدة وجدت مجموعة من الطلاب تعثروا ولم يتخرجوا يبلغ عددهم 500 تقريبا، وكانوا يدرسون هندسة لخمس سنوات تعثروا في 3 سنوات منها، وكانوا سيعودون المملكة صفر اليدين، فما هان علي أن نخسر 500 طالب وفكرت في نفسيات الطلاب وردود فعل البيئة المحيطة بهم من أهل وأصدقاء وهم يعودون إليهم بالفشل بما يحمله ذلك من وصمة عار، فاتخذت قرارا دون الرجوع للمسؤولين ونقلتهم من دراسة بكالوريوس الهندسة إلى دبلوم مساعد مهندس كي يعودوا إلى البلاد متخرجين وتستفيد منهم، ولا نخسر المال الذي أنفقته عليهم الدولة، وقد جاءتني لجنة وخشيت أن تحقق معي لكنهم شكروني، وفي هذا دليل على أن الدولة تسعى للإصلاح لأنها تخطت البيروقراطية مقابل مصلحة الوطن، وأنا لا أعرفهم لكن كان دافعي في ذلك وطني وإيماني بأن المسؤولين خلفي لن يخذلوني، ولهذا أقول ان الملحق التعليمي يجب أن يمنح صلاحيات في حدود ما ينفع. **ما أثر وفاة الوالد في الغربة عليك؟. -كان ذلك في العام 1394ه، وكنت في الغربة مبتعثا إلى الولاياتالمتحدة للدراسة وفقدت تركيزي نتيجة الحزن ولم أعد قادرا على التحصيل العلمي، ومن وقف معي بعد الله هم زملائي الطلاب الذين عارضوا عودتي إلى المملكة دون إكمال دراستي والملحق التعليمي الأستاذ عبدالعزيز المنقور الذي كان جميع الطلاب محل اهتمامه ورعايته، والأستاذ المنقور ورغم تركه للملحقية التعليمية من سنين طوال إلا أنه يتذكر جميع الطلاب الذين أشرف عليهم فردا فردا وما ذلك إلا بما كان يوليهم إياه من اهتمام. **كيف كانت العلاقات مع الجاليات العربية في امريكا مسؤولين وطلابا آنذاك؟. -علاقاتنا بهم كانت جيدة والحمد لله، وكان المكتب التعليمي بالولاياتالمتحدة مدرسة للإخوة العرب وغيرهم من دول أمريكا الجنوبية، الذين كانوا يزورون المكتب للاطلاع على تجربتنا وأخذ الخبرة منها، وقد حصلت والحمد لله على شهادة في مؤتمر العالم الثالث كأحسن مكتب تعليمي يدير الطلاب ويشرف عليهم، وأنا لا أثمن كل شيء لي بل هو مجهود جميع الموظفين معي.