تولى الدكتور صبحي الحارثي مسؤولية الملحقية الثقافية السعودية بالولاياتالمتحدةالأمريكية في الفترة (1979-1986)، وزخرت هذه الفترة بتخريج عدد من نخب الطلاب الذين تولوا المناصب القيادية لاحقا، منهم وزير التعليم العالي الحالي د.خالد العنقري، ورئيس هيئة حقوق الإنسان د.بندر العيبان وأخوه مساعد العيبان عضو مجلس الوزراء ووزير الدولة وغيرهم من الوزراء والسفراء، ولا ينسب د.الحارثي الفضل لنفسه في مستوى الخدمات الجيد الذي كانت تقدمه الملحقية للطلاب، بل يعزوه لجهود جميع الموظفين، وإلى الاهتمام والرعاية والمتابعة التي كان يحظى فيها الطلاب من القيادة، ويقول: «كان الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله والملك عبدالله بن عبدالعزيز والذي كان نائبا ثانيا ثم وليا للعهد حينها، يهتمون شخصيا بمتابعة الطلاب المبتعثين والاطمئنان علي أوضاعهم، وقد تجلي هذا الاهتمام في زيارة سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز للولايات المتحدة لتفقد أحوال الطلاب هناك». ويؤكد د.الحارثي أن عودة المملكة لابتعاث الطلاب مرة أخرى إلى الخارج يقف خلفها رغبة في إحداث نقلة نوعية في تطوير الدولة والتعليم فيها للانتقال من مصاف دول العالم الثالث والوصول إلى مراحل متقدمة في التقنية والعلم لمنافسة الدول الأخري المتقدمة، ويرى أن الوصول لهذه الغاية يحتاج لإعادة النظر في كيفية تنفيذ وتحقيق هذه الأهداف، وهذا لا يتيسر إلا بمتابعة ورعاية جيدة للطالب واختيار جيد للجامعة والدولة المستهدفة بابتعاث الطلاب إليها. «المدينة» التقت الدكتور الحارثي في منزله وأجرت معه حوارا مطولا أشار خلاله إلى تحفظه على ابتعاث الطلاب إلى بعض دول العالم الثالث الأقل تطورا من المملكة في التقدم العلمي، وطالب بابتعاثهم عوضا عن ذلك إلى دول تفوق المملكة علميا، وكشف عن أحوال الابتعاث في الماضي وقارنها بالحاضر، وأشار إلى أبرز المشاكل التي صادفها خلال عمله وعلى رأسها مشكلة نقص الرواتب المصروفة للطلاب وعدم صرف راتب كامل لزوجاتهم وكيف استطاع التغلب عليها بمحادثة شفهية مع سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز متخطيا حواجز البيروقراطية.. وحكى لنا عن قراره الإداري الفردي بنقل خمسمائة طالب متعثرين في دراسة بكالوريوس الهندسة إلى دراسة دبلوم مساعد مهندس دون الرجوع إلى رؤسائه في محاولة لإنقاذ مستقبلهم، إلى غيرها من قصص البدايات الصعبة والتدرج في مناصب التعليم والتي تماهت مع قصة التعليم في المملكة وفي قريته التي ولد فيها ميسان بني الحارث، فإلي نص الحوار: الاهتمام بالمبتعثين **بماذا امتازت الفترة التي قضيتها ملحقا تعليميا بالولاياتالمتحدة؟. -أنا لا أستطيع القول انها امتازت بالأفضلية على أي وقت آخر، لكن أستطيع القول ان الطلاب كانوا يتلقون اهتماما ورعاية كبيرين بالرغم من عددهم الكبير والذي كان يبلغ 14 ألف طالب وطالبة، وما كان لذلك أن يتحقق لولا وجود عدد كبير من الموظفين بمكتب التعليم في هيوستن والبالغ 284 موظفا منهم 42 سعوديا، وكان الطلاب الذين يشرف عليهم كل مشرف لا يتجاوز 100 طالب، أما الآن فقد يصل عدد الطلاب تحت المشرف الواحد إلى 400 طالب فكيف يستطيع متابعتهم؟. **وماذا عن الطلاب في المدن الأخري؟. -كان هناك 7 مندوبين يتوزعون على الولايات المختلفة لمتابعة الطلاب عن قرب والتواصل معهم ومساعدتهم على تخطي الظروف الصعبة من مرض وسجن وغيرها، وكنا نلتقي بالطلاب أسبوعيا في كل مدينة، وقمت ب150 رحلة في أمريكا خلال فترة عملي مع زملائي الآخرين، وكان مكتب التعليم لا يغلق أبوابه طوال الأربع وعشرين ساعة، إذ بعد انتهاء الدوام كان هناك اثنان من موظفي السنترال يعملون إلى صباح دوام العمل في اليوم التالي لاستقبال مشاكل الطلاب هاتفيا، وكان هناك خط للاتصال هاتفيا مجانا للطلبة، وكنا في المكتب نتواصل مع أولياء أمور الطلاب في المملكة بالرسائل ونشرح لهم أوضاعهم، وإذا كان المبتعث يهم الدولة فعليها الاهتمام به حتى يكون تحصيله العلمي جيدا، أما أن لا يلقي الطالب الاهتمام ويكون المكتب التعليمي في منأى عنه ولا يرد على اتصالاته الهاتفية فهذا خطأ، لكن قبل محاسبة المكاتب التعليمية يجب أن نوفر لهم كل الإمكانات التي يحتاجونها لتيسير عملهم في خدمة الطلاب ومتابعتهم والاتصال بهم. **وما أبرز المشاكل التي صادفتموها؟. -من أبرز المشاكل التي كان يصادفها الطلاب المبتعثون في الولاياتالمتحدة هو عدم كفاية الرواتب الشهرية لتلبية احتياجاتهم، بالإضافة لعدم حصول زوجاتهم على راتب كامل إلا بشرط التحاقهن بالجامعة، وهو ما استغلته بعض الجامعات الأمريكية التي افتتحت معاهد لتدريس الطالبات السعوديات دراسات خفيفة من أجل حصولهن علي راتب كامل، فيما تستفيد الجامعة من المصاريف الدراسية، وقد شرحت للأمير سلمان هذه المشكلة خلال زيارة لي للمملكة وما يحدث من تحايل واستغلال من بعض الجامعات الأمريكية، واقترحت حصول الزوجة على راتب كامل، مبررا ذلك بأن المبلغ سينفعها وأولادها إن لم تدرس، وإن رغبت باختيارها الدراسة فسيكون ذلك في جامعة ودراسة محترمة ودون تحايل وتتولى الدولة دفع مصاريفه، وقد تم الاتفاق على ذلك شفهيا وتم إبلاغ المكتب التعليمي في هيوستن بأن يبدأ بصرف راتب كامل للطالبات دون الحاجة لإحضار أوراق تثبت أنهن طالبات. **كم كان عدد الطالبات المبتعثات مقارنة بالطلاب المبتعثين؟. -لا تحضرني الأعداد الآن لكن غالبيتهم كانوا زوجات، وكان اللواتي يدرسن عددهن قليل ولا يقارن بعدد المبتعثات الآن ولو فتح الأمر لكان عدد البنات أكثر من الأولاد. **هل الرواتب التي يحصل عليها الطلبة المبتعثون حاليا كافية؟. -أعتقد أن الطلاب يجب أن يعطوا مبالغ تفي باحتياجاتهم دون تبذير لكن دون تقتير أيضا، وطلبتنا في بريطانيا كمثال يأخذون 1200 جنيه شهريا بينما أقرانهم من بعض دول الخليج يحصلون علي ألفين وثلاثة آلاف مما يشعرهم بالحسرة وأنا لا أطالب بالمعاملة بالمثل لكن على الأقل يعطون ما يكفيهم، فنحن لا نستطيع محاسبة الطالب على تحصيله الدراسي قبل إعطائه جميع حقوقه. زيارات المسؤولين **كانت زيارات المسؤولين لا تنقطع إلى الولاياتالمتحدة لتفقد أحوال الطلاب.. ما أبرز هذه الزيارات؟. -كان الطلاب المبتعثون يلقون اهتماما كبيرا من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وكثيرا ما كان يسألني عن أحوالهم، وكنت أزوره عندما كان نائبا ثانيا وكان يمسك بيدي ويقول لي وهو في طريقه لأداء الصلاة: «الطلبة الطلبة انتبه لهم وافعل لهم كذا»، فيجب أن يكون المسؤولون على قدر هذا الحس بالمسؤولية نحو الطلاب المبتعثين، وكان حفظه الله يرسل مندوبه الشيخ عبدالمحسن التويجري رحمه الله مرة أو مرتين سنويا للوقوف على أحوال الطلبة وكان يلتقيهم لمعرفة أوضاعهم منهم شخصيا، والأمير سلمان جاب الولاياتالمتحدة طولا وعرضا متفقدا أحوال الطلاب ومستمعا لهم، وأنا أعتبره رائد العهد الذهبي للابتعاث في أمريكا بما قدمه من اهتمام ورعاية ومتابعة، وقد حدث تطوير وتغييرات إيجابية سريعة إثر هذه الزيارة. وكان عمداء الجامعات والمسؤولون يقومون بزيارات مكثفة، وقد ذكرت للملك فهد رحمه الله أننا نحتاج لوجه إعلامي للطلاب فكلف وزير الإعلام الذي أرسل لنا وفودا إعلامية وكان أولها بقيادة الدكتور عبدالله مناع والدكتور فهد العرابي. **يفاخر المنتمون لجيل العهد الذهبي للابتعاث بما قدموه من قياديين تولوا مناصب كبيرة في الدولة.. بماذا اختلف الماضي عن الحاضر؟. -التدقيق في اختيار نخب الطلاب المبتعثين، فالرعيل الأول بالرغم من الأوضاع المادية الصعبة التي عاشوها، إلا أنهم كانوا يجتهدون ويدرسون في الخارج وكلهم عزم على النجاح بتفوق والعودة لخدمة بلادهم، وهو ما أهل العديد منهم لتولي مناصب كبيرة خلال فترة وجيزة. معايير للابتعاث **من وجهة نظرك هل يجب تحديد معايير وضوابط محددة للابتعاث إلى الخارج للدراسة؟. - بالتأكيد، وفي الحقيقة أنا لدي تحفظ على التوسع في الابتعاث إلى عدد كبير من البلدان وخصوصا دول العالم الثالث، فجامعات المملكة تطورت كثيرا من حيث العدد ونوعية المستوى العلمي، وأرى أن يقتصر ابتعاث الطلاب إلى بلاد مستواها العلمي أفضل فذلك أجدى نفعا، وأتذكر في هذا الصدد أن وزير التعليم السابق حسن آل الشيخ طلب مني في العام 1397ه خلال عملي مستشارا في الوزارة عمل دراسة من أجل ابتعاث الطلاب للدراسة باحدى الدول العربية، وتوصلت الدراسة إلى أفضلية المملكة في إمكاناتها العلمية وعدم جدوى إرسال الطلاب إلى هذه الدولة. **وماذا عن الطلاب؟ هل هناك شروط معينة لانضمام طالب إلى برنامج الابتعاث؟. - يجب أن تكون هناك قواعد وأسس معينة لابتعاث الطلاب للخارج، فاختيار الطالب يجب أن يتم وفق مواصفات وقدرات، فنحن مقبلون على نقلة حضارية وتقنية وخادم الحرمين لم يبتعث الطلاب لحل مشاكلنا الآنية فقط بل يريد بناء مستقبل زاهر للبلد يتماشى مع الحاجة المستقبلية لسنين طويلة. **كيف نهيئ الطلاب للدراسة في الخارج ليكونوا متفوقين ويعودوا بالنفع على الوطن بعد عودتهم؟. - من الخطوات الواجب اتخاذها قبل التحاق الطالب للدراسة بالخارج هي توعيته بعدد من المفاهيم أولها الغرض من ابتعاثه وأن الوطن ينتظر الاستفادة من علمه، وإشعاره بقيمته من خلال التأكيد عليه بأن اختياره دون غيره للدراسة جاء نتيجة لتميزه. **بعض الطلاب المبتعثين لا يجد عملا بعد إنهاء الدراسة.. ما رأيك في ذلك؟. - مرجع ذلك هو قانون العرض والطلب، ويجب تحديد احتياجات سوق العمل السعودية من أجل معرفة التخصصات الواجب إرسال الطلاب للدراسة فيها، بما يضمن إيجاد فرص عمل لهم بعد تخرجهم، أما ما نقرأ عنه في الصحافة من بحث حامل شهادة ماجستير عن العمل كبائع خضار فهو لا ينبغي، فضمان الطالب المبتعث لوظيفة بعد التخرج تساهم في استقراره نفسيا وزيادة تحصيله العلمي، وعلي العكس عدم يقينه من مصيره الوظيفي يؤثر على تحصيله سلبا، وأتمنى إنشاء مجلس أعلى للابتعاث يرأسه سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز وذلك ليس انتقاصا في أداء وزارة التعليم العالي ومنسوبيها والذين يقدمون عملا مشرفا لكن ذلك نتيجة ما لمسته شخصيا من قدرة الأمير سلمان والذي قلب أحوال الطلبة المبتعثين للأفضل خلال فترة زمنية وجيزة بعد زيارته للولايات المتحدة. **ما أبرز قصص الطلاب التي عايشتموها خلال عملكم ملحقا تعليميا بالولاياتالمتحدة؟. - كان لسمو الأمير أحمد بن عبدالعزيز دور كبير جدا في خدمة الطلاب السعوديين بالولاياتالمتحدة، وكانت سمعته متميزة عند الطلبة الأجانب من خلال دراسته في الولاياتالمتحدة وكان ذكره طيبا ومعروفا بتقواه، وله قصة أن إحدي الطالبات هربت من زوجها وذهبت للمكسيك فأبلغت الأمير أحمد وأعطاني الضوء الأخضر لحل المشكلة، وقد أحضرناها من حيث كانت بطائرة خاصة على حساب الأمير إلى بيتي وبقيت عندي يومين إلى أن أخذها أهلها، وقد كان التواصل مع الأمير تليفونيا، أما الأمير سلمان فلي معه قصة أخرى فقد اتصل بي هاتفيا خلال زيارته للولايات المتحدة وكان موجودا في هاواي وسألني عن مشكلة طالبة الساعة 11 ليلا، وذهبنا لفتح المكتب أنا وزملائي الثانية عشرة ليلا بروح طيبة، من أجل خدمة هذه المواطنة وهو دليل على اهتمام القيادة الكبير بالطلاب المبتعثين ومشاكلهم، وصدقني أنا أتحدث متجردا دون ممالأة ولم أنقل إلا نصف الواقع حتى لا أتهم بالمبالغة أو المجاملة. سيرة ذاتية: - ولد في قرية ميسان بني الحارث (تبعد 90 كم عن الطائف) في العام 1365ه. - أكمل دراسته الابتدائية في مدرسة الحراء بني الحارث بعد أن أنهى الصفوف الأربعة الأولى بمدرسة العزيزية بمكة المكرمة. - أنهى دراسته بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة في العام 1385ه. - عين مديرا لتعليم الباحة في العام 1391ه. - حصل على دبلوم في التربية من الولاياتالمتحدةالأمريكية بالعام 1975م. - عاد إلى الولاياتالمتحدة مديرا للمكتب التعليمي في العام 1979م. - له 3 مؤلفات: دور القضاء السعودي في الإصلاح التربوي بالمملكة العربية السعودية (مطبوع)، ودراسة بعنوان: «الإهدار التربوي - دراسة تحليلية تشخيصية في أسباب التسرب والتخلف بين الطلبة المبتعثين بالولاياتالمتحدةالأمريكية» (غير مطبوع)، وأخيرا كتاب سيصدر قريبا بعنوان: «قاضي القرن الواحد والعشرين».