للشعر مكانة عظيمة عند العرب؛ فهو «علم قوم لم يكن لهم علم غيره»، و»النظم فضيلة العرب»، وهو «فن شريف من بين الكلام عند العرب»، وهم «أناس أناجيلهم في صدورهم»، وهو «ديوان العرب» لأنهم لم يعرفوا الكتابة فأصبح الشعر ديوانهم، وسجل عاداتهم وتقاليدهم ومآثرهم، والدافع لمكارم الأخلاق، والمحرّض عليها كما يقول شاعرهم: ولولا خلال سنّها الشعر ما درى بغاة الندى من أين تُؤتى المكارم وممّا يدل على مكانته لديهم، وعظيم سطوته عليهم، وبالغ تأثيره فيهم ما قاله أحد الشعراء يذكر قبيلة تغلب: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم وقد كان الشاعر عند العرب بمثابة الوسيلة الإعلامية الفاعلة التي تصنع مجد القبيلة، وتعلي من شأنها، وترصد أيامها، وتنافح عنها، وتخلد ذكرها... فإذا نبغ شاعر في القبيلة احتفلت بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر-وفق ما يذكره ابن رشيق- كما يصنعن في الأعراس... وأتت القبائل فهنأتها... كما نحتفل اليوم بتدشين وسيلة إعلامية جديدة. ومن هنا يتوضّح أن الشعر آنذاك كان سبيل مجد للشاعر وحظوة، وباب شهرة وسلطة، وأن مفخرة الاتصاف به، والانتساب إليه لها مسوغاتها الملموسة، وأسبابها الموضوعية. أما في راهننا الحضاري، وواقعنا الثقافي، فلم يعد للشعر شروى نقير من حجم مكانته الآفلة، ومجده الغابر؛ إذ اضمحل قارئوه، وتكاثر شانئوه، واستبدلوا بديوانه ديوانًا، وانصرفوا عنه، كما يدعون، زرافات ووحدانا... وبالرغم من ذلك تخشّع على أعتابه عديد غفير من الزائفين الذين لا يمتون إليه بطيف صلة، ولا تربطهم به شبهة آصرة، وتسللوا إلى الانتساب إليه، وهو ما لم يحدث ولم يكن متصوَّرا في العصور كافة، من غير باب؛ فمنهم من ولج من الباب الخلفي للشعر المحكي أن أومأ بدراهمه فتداعت أمام سطوتها مناعة مصراعيه، وقيّض له الزمن من يمدّه بملامح زائفة، ومن يزبرج قُباح زيفها بشيء من ضوء زنيم! ومنهم من ألفى، ذات غفلة، بابًا مشرعًا مُهرتْ جبهته بعبارة «ابتسم... فثمّ قصيدة نثر» فتبسّم ذاهلاً من سحرها وولج كمن لا يلج!... ولذلك حديث آخر. ولعل ما يدير إليه الأحداق، فيما اختزل في المهاد السابق، هو تهافت طائفة من المزيفين على الشعر؛ أو على بريق سحره في الذهنية العامة من جهة، والازورار عنه، والتهوين من شأنه، من جهة أخرى. في مفارقة غريبة، وحالة عجيبة؛ غير أنها ليست إلا إحدى عجائب زمننا الثقافي، وما أكثر عجائبه! --------- [email protected]