منذ أمد بعيد تفتحت عين الفنان على الأرض، فاتخذها مادة للتناول الفني مستجليًا جماليات طبيعتها، ومصورًا لأوجه المعاناة التي تحصل على مسرحها المفتوح، رابطًا بين معطياتها وسلوك الكائنات على ثراها.. ومعبرًا في بعض الأحيان عمّا تعانيه هذه الأرض من جور الإنسان عليها من خلال لوحات تجسد هذه المعاناة.. ومن هذه الرؤية جاء معرض الفنان التشكيلي زهير طولة، الذي تحتضنه صالة العالمية للفنون بجدة تحت عنوان "مخلدات الأرض"، والذي افتتحه مؤخرًا أمين مدينة جدة الدكتور هاني أبو راس، وقدّم فيه زهير آخر تجاربه الحديثة منظورة في حوالى 40 لوحة فنية ذات أحجام كبيرة ومتوسطة. حول هذا المعرض ودلالة الاسم يقول طولة: "مخلدات الأرض" يشي برمز حي لعواطف الإنسان المتمثلة بعلاقاته ومشاعره واهتماماته المختلفة بمن حوله في حقب بذاتها منذ بداية الخليقة، وقد ركزت فيه على إسقاطات لمراحل تاريخية مكثفة ومستنبطة من تلك المدائن العجيبة المنثورة على خدود الصحراء تروي أسرار العاشقين والولهانين على صفحات حجرية لم تأبه للرياح والشمس وكل عوامل الفناء؛ وهكذا أضحت "مخلدات الأرض". طولة اثنى كذلك على صالة العالمية التي احتضنة المعرض حيث قال: أحب أن أعرض لوحاتي في صالة العالمية لأنها تناسب أسلوبي الفني من حيث ما تطرحه من معارض مميزة، بالإضافة لحجم الصالة وموقعها؛ لذلك أفضل عرض لوحات بها. كما أشير إلى أن هذا المعرض سيكون في محطة واحدة بمدينة جدة، ولن يتعداها إلى سواه؛ لأنني لا أحب أن أكرر نفسي في المعارض الفنية. وحول نجاح المعرض يضيف طولة قائلًا: دائمًا ما أقدم ما أرى أنه سوف يضيف لي شيئًا بالساحة الفنية، وأبحث دائمًا عن الوصول للنجاح، وكل تجربة أحاول أن اوصلها للمتلقي بشكل ممتاز، أما من حيث المبيعات، فأنا لا اهتم كثيرًا بذلك. تجربة طولة في "مخلدات الأرض" وجدت التفاعل من قبل المتابعين لمعرضه، فعن هذه التجربة يقول الناقد ياسر أبوطالب: كل فنان وكاتب أو مفكر هو وليد مجتمعه، ونتاجه الفكري والفني أيضًا يكون موجها للمجتمع الذي ينتمي إليه، وكذلك الفنان التشكلى الموهوب زهير طولة فهو فنان مختلف عن الساحة الفنية الحديثة التي ينتمي إليها؛ فهو يعتمد على حسه الفني ومشاعره وأحاسيسه التي وراء كل عمل فني يثور ويناقش وينتقد في صمت الكلمات ولكن بصرخات قوية في الألوان واللوحات التي يرسمها زهير، فيعبر بها عما يدور في نفسه، فنجد الصدق والواقعية في القضايا التي يطرحها طوله من خلال فنه، فهو يفرح مع المجتمع، وتفرح معه ريشته وألوانه، ويحزن ويثور لكل إساءة أو ضعف في مجتمعه، وتحزن معه ريشته وألوانه التي تعبر عن ذلك ببراعة واضحة. ويضيف أبوطالب: في معظم أعمال زهير نرى استخدامه للألوان الصريحة والخطوط الحادة المنحدرة بشدة وقوة، فهو متأثر بالطبيعة الجبلية والصحراوية التي نشأ فيها؛ فترى في الوجوه التي يرسمها زهير كأنها قطعة جبلية أو صخرية تظهر منها عينان، فهو يرى الجبال والأحجار بها مشاعر وأحاسيس، ويرى الأشخاص كأنها حجارة لا تشعر؛ ولكن عند زهير العينان هما أصدق ما في الإنسان، فهما المرآة التي تظهر ما بداخل الإنسان من انفعالات ومشاعر وأحاسيس، ولو تعمقنا داخل شخصية الإنسان زهير لوجدنا طفلًا كبيرًا يحب الرموز والمعاني الأولى للكلمات، فالطفل عنده الكذب كذب لا مبرر مقبول أو منطقي للكذب، كذلك الفنان زهير يقدس الفطرة السليمة للنفس البشرية التي فطر الله الإنسان عليها، ويرفض ويثور للتغيرات التي دخلت على الإنسان العربي المعاصر إثر الحداثة المادية والعولمة الإعلامية الغربية، مما جعل الإنسان العربي يعيش في حالة اغتراب يبحث عن نفسه وعن هويته العربية في عالم غلبت عليه المادة والمصلحة الشخصية فوق كل الاعتبارات الأخلاقية التي جعلت ريشة زهير تثور وتصرخ بالألوان في لوحته "فرحة وأشلاء" التي تعبر عن معاناة الإنسان العربي المعاصر، ومدى شعوره بالاغتراب داخل نفسه، فريشة طولة عبرت عن ذلك ببراعة، فترى اللوحة التي غلب عليها اللون الأزرق، لون الأرض، وهو تجسيد للحداثة المادية ووسائل ترفيهية وإلكترونية التي أدخلت على النفس نوعًا من الفرحة الحياتية على حساب فرحة الإنسان واعتزازه بهويته العربية، التي يجسدها الأشخاص المرسومة باللون الأبيض الباهت. الأبيض يدل على النقاء والباهت يدل على صعوبة وضعف المقامة أمام اللون الأزرق، لون الهيمنة الإعلامية الغربية والحداثة المادية، وغلبة اللون الأزرق على معظم اللوحة أمام مقاومة الهوية العربية التي تتجسد في أشخاص فقط؛ فاللوحة تدل على مدى حب الفنان لمجتمعة وعروبته؛ فهو إنسان يعشق الإنسانية، محب للفطرة الأولى للإنسان، يتألم ويثور ويناقش وينتقد في صمت الكلمات وثورة الألوان واللوحات.