«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سَنَوَاتُ «حُبٍّ»... و»خَطَايَا» مُحْتَمَلَةْ!!
نشر في المدينة يوم 01 - 02 - 2012


* مهاد أولي:
(1) «ذهبت له متخفيًا كلصّ، سأحتمل نظراته النارية وكلامه الجارح وأنسى مؤقتًا تاريخًا خائبًا كتبت سطوره فيما بيني وبينه بمداد البغضاء وسوء الفهم..
القسوة والإهانة والتبخيس وامتهان آدميتي والاستحقار.. مفردات سأضعها خلف ظهري. سأذهب لزيارته..
أسير نحو بيته ولا أدري أفعلت الصواب بهذه الخطوة أم لا؟!
هل وجودي أمامه سيخفف من آلامه؟! أم سيزيده تعبًا على تعب؟!
هل ستسيِّر مركبنا ريح طيبة تجعل كلامنا يمضي هادئًا كما تمضي الشمس بسلام لمستقرها ومثواها في نهاية كل يوم؟»
(2) «نسائم الليل الناعمة المغسولة بروائح الشغف، تسبب لي نشوة أعلم تمام العلم أنها كاذبة..»
«إضمامات من الشوق والفرح تداعب الوجوه ليس لي منها أدنى نصيب، والبحر مستكين كطفل نائم في أحضان دافئة»
... بهذه اللغة الباذخة والتنامي الفني، والأسئلة الآخذة في التشكل إجابات حسيّة لامرئية، يقودنا الروائي الشاب «مقبول العلوي» إلى فضاء من الإبداع هو الثاني من إنجازه السردي، بعد «فتنة جدة» التي قدمناها للمشهد الثقافي ذات دراسة نقدية (*).
أقول: إن النَّص المقمش أعلاه يحيل ذاته إلى إشارات وعلامات، إلى شفرات ودلالات يمكن اعتبارها - في هذه القراءة – مفاتيح يمكن بواسطتها مراودة النَّص من كل مناحيه لعلنا نظفر بشيء من الإبداع الكامن، والجمال المنشود في هذه الرواية.
أول ما يلفت النظر النقدي في هذا النَّص المقمش – الذي اختاره الناشر أو الروائي (لا فرق) دالا ومعرّفًا بالرواية/ عتبة نصية فارعة على سطح الغلاف الأخير للرواية: الأسئلة وعلامات الاستفهام في المقطع (1) واللغة الضافية/ الباذخة/ الحاملة للمعنى والمحيلة إلى الأفق الجمالي في المقطع (2). وبالطبع فكلاهما يحيلان – قرائيًا – إلى شفرات يمكن التعاطي معها – كمونًا وجلاءً، خفاءً وتبديًا، والتواصل النقدي معها – تأويلا وتحليلا، تعريفًا واحتفاءً.
* أفق النَّص:
عبر مائة وواحدة وأربعين (141) صفحة من القطع المتوسط نبحر في خضم رواية سعودية اختار لها مبدعها «مقبول العلوي» عنوانًا لافتًا «سنوات الحب والخطيئة» واختار لها دارًا ناشرة هي المؤسسة العربية للدراسات والنشر، التي أصدرتها في منتصف هذا العام الميلادي «يونيه 2011م» في حلة إخراجية متناغمة يزين غلافها الأول/ تصاعديًا من الأسفل للأعلى: شعار الدار الناشرة، كف إنسان مفرقة الأصابع مع ذراع عار!! ثم عنوان الرواية واسم مؤلفها باللغة العربية ثم باللغة الإنجليزية في أعلى الصفحة!!
أما غلافها الأخير فقد توج بومضة سردية من الرواية تحمل أفقًا تعريفيًا / تشويقيًا / وتسويقيًا من اختيارات الروائي أو الدار الناشرة. مع عنوان الرواية بالعربية والإنجليزية!!
وبين الغلافين يتبدى لنا المتن عبر فصلين.. الفصل الأول جاء في (9) تسعة مقاطع، والفصل الثاني جاء في (8) ثمانية مقاطع، وهذه تقنية جديدة، وتطور حديث في آليات القّصِّ / السرد عند مقبول العلوي لم يكن في روايته السَّابقة، وتحمل هذه الفصول السبعة عشر قصة الشاب «حسان» مع جزيرته (أم الدوم) التي عاش فيها محبًا عاشقًا ثم هجرها أو هُجِّر منها بسبب خطيئته!! ثم عاد إليها بآخرة، وما عاناه من إشكالات ومشكلات مع سكان الجزيرة وأقرب الناس إليه فيها والده (إبراهيم)!!
يحكي الفصل الأول قصة فتاة اسمها (رحمة) يقع (حسان) في غرامها وحبها ويرتكبان خطيئة تثمر عن حملٍ، ثم تسعى – مع والدها – مساعد الدهني – زعيم الجزيرة وشيخ الصيادين فيها – إلى التخلص من هذا الحمل وبعد أن يتحقق ذلك يتزوجها الأب – إبراهيم – وهو لا يعلم الخلفية السابقة، وهنا تحصل الكوارث النفسية للشاب (حسان) فيغادر الجزيرة مطرودًا من والده الذي شك في العلاقة بين زوجته وابنه مع إن الزوجة هي مصدر الخيانة!! وأما الفصل الثاني فيحكي سيرة الشاب «حسان» في المدينة حيث أقام علاقة حب – مرة أخرى – مع «مريم» التي يتزوجها ثم يحصل الطلاق!! وكل ذلك خلال عشرين عامًا من هجرته وغربته عن (أم الدوم)، وفي الأربعين من عمره يعود للجزيرة وقد مات والده، وحبه الأول (رحمة)، وغياب الأب مساعد الدهني لتبدأ الجزيرة فصولا جديدة من العنف والقتل في ظل رئاسته لأهل الجزيرة بحكم علمه ومعرفته فيدخل مع أبناء (ساطي) الذين يقعون في قتل أختهم (فاطمة) التي مارست الخطيئة وحملت سفاحًا!! كما قتلوا قبلها (يوسف) – عشيقها – وسلموا أنفسهم للحكومة!! وهذه – كل الحكاية – سنوات من الحب والخيانة، والخطيئة، والقتل والتشرد والضياع، يبلورها الروائي – مقبول العلوي – في لغة روائية جاذبة، واستطرادات سردية لافتة، وجماليات أسلوبية رائعة، سنتعرف عليها وعلى جمالياتها في المحور التالي إن شاء الله.
* التحليل النقدي:
وهنا، سنقف عند ثلاثة محاور أساسية تمثل البنى النصية لهذا العمل الروائي ونبدؤها بالعنوان وتشظياته داخل النَّص الروائي وما يحيل إليه من تأويل، فالعنوان هو العتبة النَّصية الأولى التي تطالع القارئ، ويتعامل معها عبر احتمالات وتوقعات متعددة وأهمها مدى التعريف بما تحتويه هذه المنظومة القولية / المكتوبة التي نسميها (رواية) ومدى التشاكل والاختلاف أو التطابق والانحراف. وفي حالتنا هذه، جاءت العنونة كما يلي: سنوات الحب والخطيئة وهي – كما نلاحظ – جملة من ثلاث مفردات/ كلمات، لكنها تستوعب كل أحداث النَّص. وتتنامى من خلال الفصول والمقاطع. ف»السنوات» الواردة في العنوان – مثلاً – هي التي تعني الزمن.. زمن السرد، أما الزمن الحقيقي وهي سنوات تمتد بعمر الجزيرة، بعمر البطل/ حسان، بعمر كل من الشخصيات التي وردت في النَّص. لكنها تتجلى أكثر من خلال العشرين سنة التي ذكرت تحديدًا، ما بين سنة 1971، وسنة 1991، ومن خلال السنوات التي لم تذكر ما قبل المغادرة وما بعد العودة حسب الخطاطة التالية:
وكل هذا يشي بأن مفردة «سنوات» الواردة في العنوان لها تشظياتها الحقيقية والرمزية داخل النَّص الروائي!! انظر مثلا:
- بعد عشرين سنة مرت كحلم، قررت العودة، ص 9.
- وكأنني لم أغب سوى عشرين يومًا، ص 11.
- بدأت فصول قصتي المأساوية معه في 4/6/1971.، أذكر اليوم باليوم والشهر والسنة ص، 15.
- منذ حوالي خمس سنوات وتحديدًا في عام 1967.
- مع نهايات حرب الخليج الثانية عام 1991 قررت العودة، ص75.
أما مفردة «الحب» فقد تكرر ورودها في النَّص بحيث لا نستطيع إحصاءها لكنها – في المجمل – تتشظى إلى نوعين من الحب: الحب المعنوي: حب البطل (حسان) لجزيرته أم الدوم. وحب الشيخ (مساعد الدهني) للمشيخة واستغلال السكان الصيادين. والحب الحقيقي/ المادي حب البطل حسان لكل من (رحمة) ثم (مريم)، وحب يوسف (لفاطمة) وهذان الحبَّان هما اللذان ولَّدا «الخطيئة» وهي المفردة الثالثة من العنوان والتي تتشظى في مسارات كثيرة خلال النص/ الرواية بحيث تشكل حجر الزاوية، وأفق التوقع، ودينامية الأحداث والتصورات فالخطايا تتوالد في هذه الجزيرة والخطيئة تتوحد من كثير من الخطيئات:
(حسان) يقع في خطيئته الكبرى مع (رحمة). (خطيئة الجنس).
(رحمة) تقع في خطيئات مع حسان وآخرين!!
الأب (إبراهيم) يقع في خطيئة الزواج من هذه المرأة المخطئة.
الأب (مساعد الدهني) يقع في خطايا مع السكان/ الصيادين.
(خضير) السكير يقع في خطيئة الخمرة وإدمان شربها.
آل (ساطي) يقعون في خطيئة قتل (يوسف). ومحاولة قتل أختهم (فاطمة) ثم قتلها أخيرًا.
(يوسف) يقع في خطيئة (الجنس) مع (فاطمة).
كل هذه الخطايا يبلورها القاص – مقبول العلوي – في مشاهد بانورامية ويشكلها في أسلوب لغوي بهيج من مثل قوله:
«... لا يحفل «بارتعاشة الغواية ولا لحظات الميلاد...» ص 9.
«ليتني توقفت عن الدخول في نعيمها المتخم بالآثام والآلام..»
ليتني لم أطفئ نيران جسدي المستعرة.. وأقع في حبائل غواياته» ص 17.
«ثمرة الخطيئة هنا.. فضيحتي هنا..» ص 20.
«أقصى ما كنت أتمناه ألا أرى خطيئتي مجسدة أمام بصري» ص 25.
«خسرت والدي.. خسرت نفسي بسكوتي وصمتي على سر عظيم لو بحت به لانقلب كل شيء..» ص 39.
«لأول مرة ألمح فيها جرأة مخيفة تؤدي إلى مزالق الخطر»... رغائب متوحشة تحتدم ... ص 48.
«لحقت بي.. شعرت بعنفوان النزوة وإغواء الخطيئة..» ص 49.
«كنت أخطو خطوات أخيرة على حافة حادة تغريني كي أمتطي صهوة الخطيئة بصلف وغرور» ص 50.
«ماذا ستكون مبرراتي والخطيئة تمسك بتلابيبي..» ص 62.
وهذا يعني أن أفق الرواية يتشكل من هذه «الخطيئة» التي تنامت في خطيئات أو خطايا كثر تشظت بشكل لافت على طول الزمن السردي لهذه الرواية!!
ومن هنا أقول إن العنوان – كعتبة نصية أولية – يشكل بنية سردية مكتملة النمو، واسعة الدلالة، واضحة المعالم، تتعالق مع كل مكونات الرواية من زمن، وحدث، وشخصيات وهي بذلك «عتبة نصية» تدل على أن الروائي مقبول العلوي، قد وفق في اختيار العنوان الدال على مجمل الرواية!!
وثاني المحاور التي يتعالق معها – التحليل النقدي – هو محور الشخصيات وأبطال الرواية، حيث سنجد أمامنا ثلة من الشخصيات التي يحركها الروائي عبر ديناميكية الحدث، وميكانيزما التفاعل والتنامي وفق ضرورات الفن الروائي.
سنجد أمامنا البطل الأساس الذي تدور حوله الحكاية / الرواية والذي يحدثنا هو بصفته «الراوي العليم»، يحدثنا عن كل تجاربه وفعالياته التي تكوِّن جسد الرواية وأطرافها؟ هذا البطل هو «حسان» الذي لم يكتف بتحريك سكون الحدث، بل ويصنع الأحداث، ويختار الناس الذين يتعاملون مع الحدث ويؤثرون فيه ويتأثرون به، ويقوِّلهم ما يقولون، ويتدخل في سبر أغوار النفس والتماهي مع حالاتها المتعددة!!
ثم سنجد الشركاء الاستراتيجيين في هذه البطولة وهم:
شيخ الصيادين: مساعد الدهني وابنته (رحمة) وزوجته، إبراهيم (أبو حسان)، والأم (أم حسان) والابن الأول (محسن) المتوفي، خضير (السكران)، (مريم) زوجة حسان و(أم مريم) وزوجها، أولاد ساطي وأختهم (فاطمة) و(أمها) الضريرة، (يوسف) عشيق فاطمة وقتيل آل ساطي، (نمر) مرسول آل ساطي.
ومن خلال هؤلاء الشركاء يمكن تقسيمهم – كأبطال – أو شخوص فاعلة ومنتجة للنص – إلى نوعين:
النوع الأول: وهم الشخصيات الفاعلة والمؤثرة والمتحركة التي تمثل لب الحكاية، والمسيرة لأحداثها.
والنوع الثاني: وهم الشخصيات الثانوية التي اختارهم (الراوي العليم) لأداء بعض الأدوار الخفيفة لأنها تتمشى مع تموجات النص/ الحكاية!!
ولا أعتقد أننا بحاجة إلى التمثيل على هذين النوعين فيمكن للقارئ الواعي والمندمج في هذا النص – حد الاحتفاء – أن يكتشف بذاته أولئك الأشخاص المعنيين. وهذا جهد كتابي من السارد (مقبول العلوي) حيث تعامل مع هذه البيئة النصية بكل حرافة وتأنٍ وفنية معتبرة!!
وأخيرًا نجد «المكان» الذي يجسد نوعًا ثالثًا من البطولة!! وهنا يأتي «المكان» كحاضن لجميع شخوص وأحداث الرواية، والمكان هنا هو «جزيرة أم الدوم» الذي يتفرع إلى عدة أماكن ثانوية تحتشد فيها الأحداث والشخصيات، ثم «المدينة» التي هاجر إليها البطل الرئيس وما بها من مولات وأنظمة وبشر يتعارفون ويتآلفون ويحبون ويخطئون و... !!
والمتتبع/ القارئ للرواية سيشهد بنفسه صورة هذا البطل (المكاني) وتشظياته عبر فصول ومقاطع الرواية، وهنا – أعتقد – أن الروائي – مقبول العلوي – قد نجح في استنطاق هذه الشخصيات وحرَّك سكونها في فعاليات ديناميكية (سلبًا وإيجابًا)، وقوَّلها بالمقولات التي تخدم الفكرة. وتؤكد معاني «الراوي العليم» التي يتكئ عليها كثير من النقاد السرديين.
وأما ثالث المحاور فهو محور اللغة والأسلوب وبلاغة التصوير وما فيهما من جماليات لغوية جاذبة، واستطرادات سردية لافتة، حيث يفاجأ القارئ الواعي، والناقد الأدبي بذلك التماهي العجيب بين واقعية الحدث التي قد تصل إلى الحقائق المعروفة، والمخيال الأدبي الذي تصنعه اللغة والأسلوب والبعد الروائي لصاحب العمل في امتزاج يشي بقدرة الروائي – مقبول العلوي – على صياغة المفردة في أسلوب شائق ومبهج ورائع حد الاعتدال والمقروئية الفارهة!!
ولعل أول المؤشرات للجماليات اللغوية والأسلوبية، تلك الصناعة اللغوية للمفردة العربية وشعريتها ونسيجها في قولبة جُمَلِيَّةٍ يتنامى فيها الجمال اللغوي حتى يصل إلى ذروة الإبداع الأسلوبي وذلك من مثل قوله:
«لا شيء هنا سوى صمت الصخور، وشعاع تائه يتراقص من بعيد، وبحر يعج بأغنيات عشق عتيقة تشبه النحيب» ص 34.
ومثل قوله:
«لم تعد تأسرني لحظة غروب الشمس عندما يتوارى قرصها في الأفق البعيد، ولا لحظات الفجر الساحرة حيث يكون كل شيء كقلب مفعم بالحب والرضا...» ص 35.
وقوله:
«لا يوجد سوى عالم متشابك، يتجاور فيه الممكن والمستحيل، الواقع الفج والخيال المجنح، الطهر المطلق والابتذال السافر...» ص 59.
هنا نقرأ لغة حزينة، يسودها البؤس والسوداوية، ويغلفها القنوط واليأس، بينما نجد – في الأمثلة التالية – لغة الفرح والأمل والجمال المجنح وذلك في قوله:
«في تلك الأمسيات البعيدة كنت أملأ يدي بالرمل، وصدري بالهواء الرائق المنعش، عقلي يسافر إلى آفاق بعيدة لا حدود لها، أغزل من خيوط الشمس أحلامًا زاهية، وأقطف الغيوم السابحة في الأفلاك غيمة غيمة...» ص 13.
ومثل قوله:
«ما الذي يفصلني عنها سوى ذلك الفاصل الخرافي الشفاف حيث تتآزر الدناءات مع الاشتهاءات، ويتكالب الصدق المفعم بالأريحية مع الأكاذيب الموغلة في مسارب الضياع...» ص 50.
أما ثاني المؤشرات الجمالية واللافتة – حد الانبهار – تلك الصورة المشهدية القريبة من (الفوتوغراف) والنقل الحي التي أبدع الروائي – مقبول العلوي – في رسمها وتصويرها بالكلمات والجمل، والأسلوب، ويجعلك – كقارئ – في عمق الصورة، في عمق المشهد والحدث بأسلوب لغوي جدير بالوقوف عنده، والإشارة إليه، وذلك من مثل قوله:
«في تلك اللحظات كانت في مجال رؤيتي نجمة مضيئة، تسطع بضوء مبهر، كانت قادمة من بعيد وتسير بسرعة هائلة، يكبر حجمها ويزداد وميضها، تقترب وتقترب حتى اصطدمت بي وتناثرت إلى أشلاء متفرقة، توقف هبوب الريح وتلاشت زقزقة الطيور، انحسر الموج وانطفأ نور الشمس...» ص 33.
ومثل قوله:
«تفكيري متوقف ومتجمد كجبال من الجليد، توتري يزداد مع مرور الوقت، ونبضاتي تجأر كهزيم رعد.. كنت أتأرجح بخيط واهن على حافة الكلمات والأشياء...» ص 50.
وقوله:
«كان البحر هادئًا ومستكينًا مثل حلم بديع، يبدو مغتبطًا بريح رقيقة تمسه مسًا رقيقًا... ص 132.
وأما ثالث المؤشرات الجمالية التي تقوم عليها بنية النَّص الروائية، فهي تلك الموضوعات المتناثرة – كأحداث – والتي يعتبرها النقاد القيمة الحقيقية للمضمون الروائي الذي يتبلور على مستوى الحدث، والمكان، والزمان.
فعلى المستوى «الحدثي»، يلتقط الروائي كثيرًا من الأحداث المتشابكة والمتفرعة عن «الحدث» الأساس (حكاية حسان مع جزيرة أم الدوم)، ويسعى لجعلها متماسكة وقوية ومعبرة، لتضيف عمقًا بنيويًا يصّاعد بالرواية إلى آفاق الجمال، ومن تلك الأحداث ما يلي:
- قصة شيخ الصيادين – مساعد الدهني – ودوره في الجزيرة.
- قصة العلاقة العشقية بين حسان ورحمة، وما نتج عنها من خطيئة.
- قصة الأب (إبراهيم) والزواج من رحمة، وما يتفرع عنها من خيانات وخطايا جديدة.
- قصة حسان والتهمة حوله وغضب الأب والهجرة عن الجزيرة.
- دور السكير خضيران في الرواية كبطل ثانوي.
- العودة للجزيرة بعد عشرين عامًا وما تلاها من أحداث.
كل هذه القصص والأحداث تتنامى وتتشابك لتكوِّن لنا جسد الرواية أو مضامينها العميقة.
وعلى المستوى «المكاني»، نجد جزيرة «أم الدوم» التي يعرِّفها الروائي بأنها «بقعة منسية في البحر الأحمر» وأنها «من الأمكنة التي تغيب عنها عشرات السنين أو مئات السنين وتجدها كما هي». وأنها «تعيش مناخات من العداء والريبة، تنقلب وسط رماد الحرائق المشتعلة» (ص 10-11). ويتفرع عن هذا «المكان»/ الرئيس، عدة أمكنة ثانوية: الشاطئ، البيت المهجور، المقبرة، البحر. المدينة التي هاجر إليها، السوق، المولات التجارية.
وعلى المستوى «الزمني» نجد أننا أمام زمنين متجاذبين، متعالقين: زمن واقعي/حقيقي تثبته السنون والأعوام التي أكدت عليها الرواية، (1967، 1971، 1991)، وتثبته الأيام والشهور والأسابيع التي تخترق مجال السرد على طول الرواية!!
والزمن الثاني، زمن السرد وهو زمن روائي متخيل ومختلف يمكِّن القارئ الواعي/الناقد من قياس الفعل السردي عليه (كما يسميه الناقد الكبير سحمي الهاجري: جدلية المتن والتشكيل/ الطفرة الروائية في السعودية)، ص 399.
ومن خلال هذين الزمنين نجد الرواية تتنامى في جماليات نسقية تستوعب الأزمنة المبعثرة سواء الحاضرة أو المسترجعة أو المحاذية، أو المستبقة. وهذه كلها أزمنة ثقافية تدعم مقولاتها الخاصة وتتمشى مع تطورات الحدث في هذه الرواية.
وعليه، فإن الروائي – مقبول العلوي – يقيم جسد روايته على (زمكنة) فيها من الأساليب الروائية ما يرفع رصيدها أسلوبيًا وجماليًا ويؤكد ذلك، السطور الأولى من الرواية (ص 9) وهي المدخل الرائع للرواية. ففيها إشارة إلى «الماقبلية» أو ما يسميه النقاد «FLASHBACK» الزمن الاسترجاعي/ التذكر/ الحكاية من آخرها. فيوظف ذلك كله في جمال وعذوبة لغوية يغبط عليها!!
وعلى – أية حال – فإن الرواية بكل أبعادها ومحاورها ومؤشراتها – تنهض على قيمة لغوية وأسلوبية، تشي بجماليات كتابية يمتلكها هذا الروائي، مما يؤكد المخزون اللغوي الثرَّ، والروح الشاعرية التي تفضي إلى القابلية القرائية، والاستحواذ التأويلي، والتنامي اللغوي من خلال المكان والأحداث والصور والشخصيات والزمن التي تتشيأ كمضامين هادفة يسعى النَّص إلى تجذيرها وتأصيلها في نفس المتلقي.
* ختام:
وهكذا كنا مع «حسان» الذي غادر جزيرة «أم الدوم» ذات صباح، تسوقه الهزائم، ناشدًا دفء الجسد وتخمة البطن!! هاهو الآن وسط الماء الأزرق، يلتفت نحو الجزيرة، فتبدو في ذلك الفجر البعيد كأرض منسية، كامرأة قبيحة خالية من المفاتن!!
وكنا مع «حسان» عندما عاد إلى جزيرته بعد عشرين عامًا ينشد دفء العشيرة والنسيان لكنه وجد زمهرير الغربة يطارده بإلحاح، لم يجد سوى العثرات والأوجاع والهزيمة!!
كنا مع الحب في أسمى تجلياته، ومع الخطيئة في أتعس دركاتها، صوَّرها – مقبول العلوي – في صفاء لغوي، وبلاغة إبداعية، وتكامل سردي. كل ذلك فرض على القلم النقدي المقاربة الواعية، والرغبة الصادقة في تفكيك رموزها وشاراتها، وتفتيق مضامينها ودلالاتها في هذه الورقة النقدية، التي أرجو أن تكون بشارة نزفُّها لمنظِّري الروايات الجديدة شعارها:
انتظروا «مقبول العلوي» في معرض الرياض للكتاب وروايته: «سنوات الحب والخطيئة»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.