(1) كثيرة هي الأعمال السردية التي تتكوم على أرفف المكتبة تنتظر ساعة قرائية يفرغ لها الإنسان!! ولكنها واحدة من الروايات تأسرك، تجذبك، تناديك، تسكن ذاكرتك القرائية، فتهفو لها النفس، وتحيط بك عوالمك الفسيحة فتصطفيها منجزاً قابلاً للتشيؤ بين يدي ناقد لا يقرأ إلا ما يستحق!! «فتنة جدة» أسرتني منذ شاهدتها عنواناً في دار رياض الريس بمعرض الرياض الدولي 1431ه، وأسرتني منذ تصفحها الأولي فقد وجدت أمامي شخصيات حقيقية أعرفها، قرأت عنها، عشت فضاءاتها المكانية منذ العتبة الأولى «جدة»، وأسرتني ثالثة وأنا أتابع أحداثها وفصولها، لغتها وزمنها الحكائي، حبكتها وصيرورتها الفنية!! هذه أولى القراءات.. وهذا ورق التين يبوح.. قل هو الرعد.. يعري جسد الموت.. ويستثني تضاريس الخصوبة!! قل هي النار العجيبة،، تستوي خلف المدار الحر تنيناً جميلاً وبكاره.. نخلة حبلى.. مخاضاً للحجارة!!» «التضاريس - محمد الثبيتي: سلمه الله وعافاه» * * * (2) ما الذي يربط بين هذين النصين: نص الثبيتي (شعراً)، ونص العلوي (رواية)؟! وما الذي جعل الناقد في داخلي يستدعي هذا النص الشعري، والثبيتي - تحديداً؟! أقول لقارئي الكريم، بين (ضحى) يوم من أيام معرض الكتاب في الرياض، و(عشيته) كان الجمع بين رواية (فتنة جدة) شراء من المعرض ضحى ذلك اليوم، وبين زيارة الثبيتي الشاعر عشياً في المصحة العلاجية - مدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية بالرياض برفقة الحبيبين خالد قماش ومعتز المالكي من هنا جاء الربط في هذه القراءة.. إن رواية «فتنة جدة» تمثل لي - كقارئ وناقد - ورقاً من التين الحجازي يبوح بأسراره العجيبة، إنها الرعد/ يعري جسد الموت الروائي السعودي المعاصر المفتتن بالتابوهات للوصول إلى مناطق الفوز وكراسي الجوائز!! إنها الخصوبة/ في زمن الجدب. الميلاد/ في زمن الموت، إنها النار العجيبة.. والبكارة.. والنخلة الحبلى، إنها مخاض الحجارة!.. لله درك يا مقبول العلوي كيف استنطقت الثبيتي وهو في مشفاه بهذه المعاني التي تفيض من عتبات نصك الأولى «فتنة جدة» على الغلاف بلونها الأحمر القاني الذي يشي بلون الدم الذي تفصح عنه صفحات الرواية وشخصياتها وأحداثها من حرب وقتل وتدمير ودماء بريئة وإعدام.. و.. إلخ. * * * (3) مداخل ثلاثة - أو قل هي عتبات نصية - يمهد بها الروائي مقبول العلوي، لعمله الناضج، يجذب من خلالها القارئ الواعي إلى ردهات النص وآفاقه: المدخل الأول: لوحة تعريفية بمكان الحدث (جدة) عبر الصوت التاريخي الرحلوي عام 1814م، نقلاً عن الرحالة السويسري بوكهارت يقمشه مقبول العلوي بذكاء الباحث المؤرخ ويضعه بين معقوفين يشي هذا المدخل بالعهد العثماني الحاكم في تلك الفترة والمسيطرة على جدة/ المكان، كما يشي بجغرافية جدة/ المكان فهي «قائمة على أرقى مرتفعة قليلاً، ولها من ناحية البر برايتات: باب مكة من الجهة الشرقية وباب المدينةالمنورة من الجهة الشمالية، وباب أصغر من جهة البحر، ويحيط بها سور...» المدخل الثاني: فضاء تاريخي عام 1857م/ نفس العام الذي حصل فيه الحدث، وهو أيضاً مدخل تعريفي رحلوي ينقله - بتصرف - عن شارل ديديه الرحالة الفرنسي الذي زار جدة في نفس العام الذي حصل فيه الحدث، يصف جدة بأنها «مدينة جميلة حسنة البناء آهلة بالسكان معبدة الطرق، يحيط بها سور عظيم.. لا يستطيع الصمود في وجه نيران المدفعية الأوروبية ساعة واحدة» وهنا إشارة إلى جزء من أحداث الرواية!! المدخل الثالث: وهو كذلك مدخل تاريخي يعتمد على نص لأحد المؤرخين الجديين المعاصرين للحدث بين الأسباب والمآلات التي شكلت بيئة الروائية وخلفيتها التاريخية. من خلال هذه المداخل الثلاثة التعريفية، يضعنا الروائي مقبول العلوي أمام قراءات تهيئوية، يهيء فيها القارئ لفضاءات الرواية ومتنها الحكائي. فهي متعالقة مع التاريخ والجغرافيا. حدث تاريخي وقع عام 1857م واستمرت آثاره لمدة عام هو زمن الرواية التي يحكيها الراوي العليم على لسان شخصيات حقيقية بأسمائهم المعروفة وهما بطلا الرواية: صالح جوهر - نامق باشا، أو الشخصيات الخيالية من صنع المؤلف/ الراوي وهما فتنة ومنصور التهامي.. * * * (4) الحكاية التي تتمحور حولها رواية «فتنة جدة» هي حدث تاريخي حقيقي زمانه العهد الأخير من الدولة العثمانية في الحجاز ومكانه «جدة»، والعنوان مستمد حقيقة من النصوص والأدبيات التاريخية التي عالجت هذه المسألة مشيرة إلى أنها «فتنة»، وتعني لغوياً «اختلاف الناس في الآراء وما يقع بينهم من قتال» كما تعني «الإعجاب والاستمالة والوله». وهنا يأتي استثمار الروائي مقبول العلوي لهذا الحدث وتحويله إلى رواية يضيف إليها البعد القصصي الخيالي فيؤلف قصة بطلها منصور التهامي، وفتنة/ المرأة الفاتنة المتوفى زوجها، المحبة لمنصور التهامي لتتنامى أحداث الرواية، وبناؤها الدرامي وحبكتها الحكائية في تمازج بين ما هو واقعي وما هو خيالي حتى لتكاد تلمس الانسجام بينهما فيصبح ما هو خيالي واقعي جداً في ظل الأحداث الحقيقية. يمكن هنا أن تستشف الثنائية الجدلية - التي تشكل عنصراً رئيساً في الرواية، وهما ثنائية منصور التهامي ووالده، في مقابل فتنة ووالدتها. وكيف تتحرك هذه الثنائية في الفضاء التاريخي وأحداثه المعروفة، وشخصياته المؤثرة بحيث يبدو التعالق الإيجابي حسب ثنائية منصور/ فتنة ببعديها التاريخي والانثوي!! * * * (5) تفجؤك اللغة المستخدمة في هذه الرواية «فتنة جدة» مما يدل على ما يمتلكه الروائي - مقبول العلوي - من مخزون لغوي ثر باستخداماته الشاعرية، والأسلوبية وما تكتنزه من الوصف والتجريد والتصوير، وما يجيده من فن الاسترسال، إذا احتاج الموقف له، وفن الاختصار والإطناب عندما يحتاج إليه. إن اللغة الشعرية التي تمنحك إياها هذه الرواية/ الفاتنة. يجعلك أمام بنية قصصية تنمو من داخلها الصورة والإيقاع والإيحاءات الدلالية المتعددة. كما تشعر أنك أمام لغة يعتني الكاتب بتنميقها وحقنها ببعض التعابير العاطفية المستمدة من قوة الحدث التاريخي، وتبرهن عليه. كما تشعر أنك أمام بنية روائية تحتفى بالوصف الجميل في تشكيل الأحداث والكشف عن أبعاد الشخصيات النفسية والاجتماعية، ورسم البيئة المكانية والزمانية مع حمولات تعكس جميع الدلالات الفكرية والنفسية التي تسبح في عوالم النص كما تقول الناقدة/ القاصة هيفاء الفريح (تقنيات الوصف.. نادي الرياض الأدبي، ط1 2009م ص9)، ويمكن أن تستشهد بهذا المقطع من الرواية شاهداً على ما نذهب إليه «تجيء فتنة مسرعة بعد زمن لا أعرف طال أم قصر. ألمح تقاسيم وجهها العذب رغم ضبابية الرؤية، لم تعد تضع لثامها على وجهها. فتنة كانت بالفعل اسماً على مسمى، سمراء كلون الشمس ساعة الأصيل وقد اكتست ملامحها بهم عظيم.» * * * (6) تتنامى الرواية - لغة وحدثاً - عبر مجالين أو أفقين أو بعدين أحدهما رأسي والآخر أفقي، فعلى البعد الرأسي نجد الحدث التاريخي الحقيقي هو المسيطر، والشخصيات الرئيسة في البطولة هي المتحدثة الواصفة، المقررة، نجد صالح جوهر/ التاجر الجدي صاحب السفينة ومشكلة العلمين العثماني والإنجليزي (السبب في إحداث الفتنة بين أهالي جدة والقناصل الأوربيين/ المسيحيين في جدة). نجد نامق باشا الوالي العثماني في الحجاز (مكة تحديداً) ودوره في درء الفتنة والتعامل معها سياسياً وإنسانياً. نجد القنصل الإنجليزي وموقفه من العلم العثماني وصالح جوهر والوالي العثماني، ونجد هنا تعاطف القناصل الأوروبيين، وباخرة نجد المدفعية الإنجليزية من قبالة بحر جدة ترمي بقنابلها ونيرانها على جدة لمدة 20 ساعة!!. نجد منصور التهامي - وهو الشخصية المحورية التي تعمل بين البعدين الرأسي والأفقي - ومشاركته في التمرد والثورة الجداوية ضد القناصل الأوروبيين. الخ هذه الوقائع والنوازل التاريخية نجدها ضمن لعبة لغوية روائية جدلية. يقود دقة الحديث فيها شخوصها وأبطالها ويضع الروائي على ألسنتهم كلاماً وأسلوباً يتسق مع تنامي الأحداث وتطورها. وعلى البعد الأفقي نجد الحدث الخيالي، يتواشج مع الخيال الأدبي فيما يسميه النقاد - اسطرة الواقع - نجد فتنة وأمها وحيدتين في مجتمع جدة الذكوري، نجد فتنة - التي ترملت من زوج قاس لا إنساني - وقد شغفها منصور التهامي حباً وعشقاً. نجدها وأمها تحتضنان منصور التهامي المصاب والجريح بعد حادثة القنصل الإنجليزي وكيف آوياه إلى منزلهما ثم نقلاه إلى منزله المجاور، هنا تتجلى لغة الحب والشوق والمتعة في حوارية ذكورية أنثوية تشي بالعواطف الملتهبة، والنفوس الجائعة ولكن الحدث أكبر من هذه المشاعر!! في هذه الأجواء تتنامى الرواية، أو يتنامى المتن الروائي من خلال مجموعة مشاهد قصصية كجداول مائية تصب في نهر الرواية الكبير مثل مشهد منصور التهامي وهو يتنقل في قافلة حج من تهامة إلى جدة. ومشهد والد منصور وعلاقته بالشيخ إدريس. ومشهد الشيخ إدريس وعلاقته بالتاجر صالح جوهر. ومشهد فتنة وزواجها الأول وعذاباتها.. كل هذه المشاهد الجانبية تكوِّن لحمة هذا النص الروائي الذي يبدعه مقبول العلوي في شمولية وتكاملية تتخذ من المسار الرئيوي حاضناً ومسيطراً، في لغة مشحونة بالإحساس، ومعبرة عن العاطفة والواقع، لتأخذ الرواية بعدها الاجتماعي والسياسي والتاريخي ضمن قولبة معرفية نسميه كنقاد «التناص» مع الفضاء التاريخي زمناً ومكاناً. ومع الفضاء المعاصر لغة وتقنية وأسلوباً. وهذا ما يجعل الرواية تقدم نفسها مشفوعة بقابلية قرائية لا يجافيها من يتعالق معها، بل يتعاطاها بكل توق للمعرفة.. وللتذوق والمتعة الأدبية. * * * (8) وأخيراً: هذه أولى القراءات.. وبعض النبوءات.. ومازلت في نصف الطريق!! «فتنة جدة» فتنتني حد الشراء.. وحد التعالق.. وحد التماهي.. وجدت فيها كنزاً جمالياً يوحي براوٍ يدلف للساحة الثقافية/ الروائية بكل جدية يمتلك خصوصية آسرة، وقدرة إبداعية، ولغة متوثبة شاعرة. أتمنى له المزيد من التقدم والاستمرارية!!