لم يحدث منذ انطلاق ثورة يناير أن تباينت ردود أفعال المصريين إزاء أمر ما، مثلما حدث مع إعلان الدكتور محمد البرادعي الانسحاب من سباق الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. ردود الأفعال سيطر عليها الانفعال وغلبت عليها الحدة، وهو ما يؤكد أهمية الدكتور البرادعي ليس فقط بوصفه أحد القيادات السياسية التي كان لها دور واضح قبل وأثناء وبعد الثورة، وإنما بوصفه رمزا وطنيا كبيرا. بعض المصريين صبوا جام غضبهم على البرادعي واعتبروا أنه خذل الشعب بانسحابه. وبعض هؤلاء ذهبوا إلى تخيير المصريين بين الولاء للبرادعي وبين الولاء لمصر، وكأن البرادعي تخلى عن مصريته عندما أعلن انسحابه من سباق الترشح للرئاسة! على الجانب الآخر وبفعل الصدمة، قام بعض مؤيدي البرادعي بإلقاء اللوم على الشعب نفسه لا على المجلس العسكري وحلفائه وحدهم، واعتبروا أن البرادعي سبق عصره وأن الشعب لم يفهمه وربما لا يستحقه. وهو ما لا يمكن ان يقبله البرادعي نفسه الذي كان ولا يزال مؤمنا بأن الشعب هو المعلم. المسألة في رأيي لا يمكن فهمها إلا في الإطار الذي حدده البرادعي لها. الرجل قال في البيان الذي أعلن فيه الانسحاب : (( إن ضميري لن يسمح لي بالترشح للرئاسة أو أي منصب رسمي آخر إلا في إطار نظام ديموقراطي حقيقي يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس فقط شكلها )). وأضاف: (( إن العشوائية وسوء إدارة العملية الانتقالية تدفع البلاد بعيدا عن أهداف الثورة، وإن النظام السابق لم يسقط )) . وهذه الفقرة من الإعلان لا يوجد من يعارضها سوى القائمين على إدارة المرحلة الانتقالية وبعض المتحالفين معهم ممن قفز على أكتاف الثورة بعد أن كان يعتبرها من المحرمات والمفاسد! في رأيي أن البرادعي لم ينسحب من اللعبة إلا لكي يتمكن من تغيير قوانينها. وتغيير قوانين اللعبة يحتاج إلى موقف قوي وحاسم يضع النقاط على الحروف. وهو نفس الشيء الذي فعله البرادعي إبان مرحلة الرئيس المخلوع . لقد ساهم موقف البرادعي من عملية الديموقراطية الشكلية التي كانت سائدة قبل الثورة، في توعية الشباب باستحالة الرهان على إصلاح الفاسد . ولقد كان لتلويح البرادعي بإعلان العصيان المدني ومقاطعة الانتخابات، الأثر الأكبر في إقناع الشباب باللجوء إلى التظاهر السلمي الذي سرعان ما تحول إلى ثورة شعبية احتفظت بسلميتها حتى اللحظة الأخيرة. أعتقد أن موقف البرادعي كان منتظرا بالقياس إلى قناعاته وأسلوب أدائه قبل الثورة وبعدها.