«أنا ياصديقةُ مُتعبٌ بعروبتي فهل العروبة لعنةٌ وعقابُ؟!» .. قالها الشاعر السوري الراحل نزار قباني منذ سنوات طويلة متسائلاً عن حال العرب. وهاهو الشارع السوري الثائر يعيش اليوم هاجس التساؤل نفسه، وهو ينتظر موقفاً عربياً يرتقي إلى مستوى التضحيات التي يقدّمها شعب سورية على مذبح الحرية منذ ثمانية أشهر. أكتب هذه الكلمات عشية اجتماع المجلس الوزاري العربي وأنا لاأعرف، مثل كل سوري الآن، ماسيقدّمهُ العرب لسورية نهار الغد. لكن ثمة شيئاً آخر أعرفه جيداً، ويعرفه أكثر مني ثوار سورية، ومن الضرورة بمكان أن يعرفه العرب. أعرف أن الثورة في سوريا ماضيةٌ حتى تحقق أهدافها، رضي من رضي وسخطَ من سخط. أعرف أن سورية الجديدة قادمة، وأنها ستكون في نهاية المطاف بلداً مستقلاً محورياً في هذه المنطقة من العالم. لانتحدث عن دولةٍ تحكمها عقلية العصابة ومنطقُها، ولا عن نظامٍ سياسي يستخدم الموقع الجيوسياسي لسورية بكل طريقة ممكنة من أجل تحقيق مصلحةٍ خاصة كما هو الحال اليوم. وإنما نتحدث عن دولةٍ ديمقراطية تعرف أن الشعب هو مصدرُ الشرعية. وعن نظامٍ سياسيٍ يمثل طموحات هذا الشعب الحقيقية. نظامٍ يُعطي الأولوية لعمليات البناء والنهضة والتنمية والعمران من ناحية، ويُعبّرُ، من ناحيةٍ أخرى، عن كل المعاني الحضارية التي أظهرتها الملحمة السورية الكبرى للعالم. سيرى بعض السادة (المثقفين) و(الواقعيين) أن هذا الكلام إنشائي أو نظري، ولهؤلاء أن يجترّوا ثقافتهم وواقعيتهم التي عجزت عن قراءة الواقع العربي على مدى عقود فضلاً عن التأثير فيه، وهي أعجزُ اليوم عن فهم ظاهرة الثورة السورية بكل مافيها من منطقٍ خاص يخرج على كل ماهو مألوفٌ وسائد، ومفرداتٍ متميزة تحمل همّ المستقبل وتؤمن بقدرة الإنسان على صناعته. بل إن ثمة يقيناً بأن شريحةً مقدرةً من المثقفين العرب ستظل معزولةً عن النبض الحقيقي للشارع، وأنهم سيمارسون التعالي على وقائعه وعناصره، ولن يكونوا بالتالي قادرين على فهمه بشكلٍ دقيق يدرك النقلة الفلسفية والثقافية الجذرية التي تُميّز الواقع المعاصر. نعم، سيكون مخاض الولادة صعباً وشاقاً. فحجم التشويه والتخريب والهدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي تسبّبَ به النظام الحالي أكبرُ من ان تَستوعب الخوضَ في تفاصيله مقالة. لكن حجم التضحيات التي يقدمها هذا الشعب، ودرجة الإبداع التي أظهرت كمونهُ الحقيقي في كل مجال، يُظهران سوياً قدرته على تجاوز المخاض المذكور بسلام. هذا مايجب أن يكون في حسابات العرب وهم يقرؤون المشهد السوري ويحاولون التعامل معه. بعيداً عن عمليات خلط الأوراق التي تقوم بها بعض الأطراف هنا وهناك، وفي مقدّمتها النظام السوري. والحديث عن هذا الخلط ضروريٌ لأن هؤلاء يقومون به بطريقةٍ مُبتذلة فيها الكثير من الاستخفاف بالثورة السورية ومن يمثّلها. خاصةً فيما يتعلق بالمبادرة العربية وملابساتها العديدة. من هنا، قد يكون ضرورياً أن يعرف السوريون خاصةً، وكل إنسان يهمه شأن سورية، تفاصيل المبادرة المذكورة كما وردت في أوراقها بالحرف، وهي على الوجه التالي: «بناء على مانص عليه قرار مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري رقم 7534 د.غ.ع بتاريخ 16/10/2011، واستجابة لجهود اللجنة الوزارية العربية، واستكمالاً للمناقشات التي أجرتها اللجنة في دمشق مع فخامة الرئيس بشار الأسد يوم 26/10/2011، وتجنباً للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية السورية، توصلت اللجنة الوزارية في اجتماعها المنعقد مع الجانب السوري في الدوحة مساء يوم 30/10/2011 إلى الاتفاق على مايلي: أولاً: وافقت الحكومة السورية على مايلي: 1) وقف كافة أعمال العنف من أي مصدرٍ كان حمايةً للمواطنين السوريين. 2) الإفراج عن المعتقلين بسبب الأحداث الراهنة. 3) إخلاء المدن والأحياء السكنية من جميع المظاهر المسلّحة. 4) فتح المجال أمام منظمات جامعة الدول العربية المعنية ووسائل الإعلام العربية والدولية للتنقل بحرية في جميع أنحاء سورية للاطلاع على حقيقة الأوضاع ورصد مايدور فيها من أحداث. ثانياً: مع إحراز التقدم الملموس في تنفيذ الحكومة السورية لتعهداتها الواردة في أولاً، تباشر اللجنة الوزارية العربية القيام بإجراء الاتصالات والمشاورات اللازمة مع الحكومة ومختلف أطراف المعارضة السورية من أجل الإعداد لانعقاد مؤتمر حوار وطني وذلك خلال فترة أسبوعين من تاريخه». لابأس في غصةٍ يشعر بها المرء من بعض الألفاظ المذكورة في القرار.. ولابأس من التغاضي عن بعض الصياغات التي تساوي بين الجلاّد والضحية.. لكن البأس كل البأس في القفز فوق حقيقةٍ واضحةٍ في القرار وضوح الشمس، ويمكن اختصارها في العبارة الأولى من الفقرة الأخيرة: «مع إحراز التقدّم الملموس في تنفيذ الحكومة السورية لتعهداتها الواردة في أولاً». دعونا نلاحظ أن من كتب المبادرة أفلح في وضع مسؤولية التنفيذ على «الحكومة السورية»، ثم نلاحظَ بعد ذلك أن هذا هو (الشرط)الحاسم والوحيد الذي تضعه المبادرة للانتقال إلى ماترى أنه سيحلّ المشكلة.. وبدون تنفيذه لايكون هناك معنىً لأي كلامٍ يتلو الشرط المذكور. ماذا نفّذت الحكومة السورية من تعهداتها؟ لم تنفّذ شيئاً كما شاهد العالم بأسره. بل يمكن التأكيد بأنها قامت بخرقٍ مقصودٍ ومُتعمّد وكبير لكل فقرةٍ من تلك التعهّدات. لاذنب للمعارضة إذا أعلنت منذ البداية أن هذا ماسيحصل لأنها تدرك حقيقة النظام وطريقة تعامله مع مثل هذه المبادرات، وكيف يستخدمها لشراء الوقت لا أكثر ولا أقلّ. ولايمكن، لهذا، الالتفافُ على الموضوع بإلقاء جزءٍ من اللوم عليها. وبالتالي، فإن مسؤولية الجامعة، ومن ورائها النظام السياسي العربي، تجاه الشعب السوري وثورته باتت واضحة. لنكن واضحين. الحماية الدولية لاتعني التدخل العسكري الأجنبي، فهناك عدة مسارات وسيناريوهات تُحقق المطلوب قبل الوصول إلى ذلك السيناريو إذا فرضه النظام بحكم الأمر الواقع. والخيارات التي يطرحها المجلس الوطني السوري واضحةٌ،فهي تُعبّر عن نبض الشارع والثورة من جهة، لكنها تأخذ من جهة أخرى بعين الاعتبار تعقيد العملية الدبلوماسية والسياسية المتعلقة بالموضوع. يبقى العرب الآن إذاً أمام مسؤوليتهم وخياراتهم التي ستؤثر بحساسية بالغة على الحاضر والمستقبل العربي. لكن الثورة السورية تمضي بعزمات جيلٍ ثائر ظهر اليوم على أرض الواقع بعد أن كان نزار قباني يحلم به منذ سنين . هذا الجيل السوري الجديد هو مطر الربيع المنتظر، وممارساته تمثل بذور الخصب في حياةٍ عقيمة ملّها نهائياً الشعب السوري، وهو بالتأكيد الجيل الذي يهزم الهزيمة ليل نهار. يبقى مرةً ثانية أن يفهم العرب دلالات كل هذا الكلام. فهل سيفعلون؟