كان الأسبوع الماضي واعداً وملهماً، سواء بالحسم النهائي في ليبيا وإعلان التحرير فضلاً عن تحديد موعد إنهاء عمليات حلف الأطلسي، أو ببداية تدويل الأزمة اليمنية مدفوعاً ب «نوبل السلام» لتوكل كرمان بصفته تدويلاً إنسانياً، أو بالحدث التونسي المهم الذي أتاح للتونسيين أن يقبلوا على اقتراع لن يسرق منهم أصواتهم. هذه الأحداث جددت الرهان على ربيع الثورات والانتفاضات العربية، وعززت آمال السوريين واليمنيين بأن تضحياتهم تكتب نهاية الاستبداد وإن تأخرت. لم تضاهِ بشاعة النهاية التي ذهب إليها معمر القذافي إلا فظاعات عهده الطويل وتجبّره في التحكم بمصير شعبه. والعبرة في مَن يتّعظ، ف «عميد القادة العرب»، كما لقّب نفسه، كان الأكثر إيحاءً باطمئنانه إلى متانة حكمه ظاناً كسواه بل أكثر منهم أنه أنجز ما عجزوا عنه، إذ ألغى الشعب الذي ما لبث أن ألغاه تماماً. كان إبداع الانتفاضات في سلميّتها، وأصبح التوحش على هذه «السلمية» طريقاً مباشراً لاستدراج التدخل الخارجي لأن المنازلة المختلّة بين الجيوش والشعوب لم تعد مقبولة، اللهم إلا في العقلين الروسي والصيني. بلغ القمع وانسداد الأفق في سورية حدّاً يستدعي أي نوع من التدخل استدعاءً. ولم يعد التدخل عيباً يحاذره أحد بداعي الوطنية، لأن «وطنية» القتل أفاضت بما عندها وحوّلت آمال الإصلاح والتغيير خياراً من اثنين: قاتل أو مقتول. ولعل التجربة الليبية برهنت أن لا سبيل إلى الخلاص من الكابوس إلا بعون خارجي، ثم أن الحكام المتشبثين بالسلطة ألا يلوذون هم أيضاً بقوى دولية لحماية استمراريتهم حتى أنهم صاروا عبئاً عليها وباتت تضغط بدورها عليهم كي يفعلوا أي شيء لتغيير مجرى الأحداث. لكن الواقع ومنطق الأزمة باتا أقوى من قدرة الأنظمة المعاندة بل كشفا صغارة دواعي هذا العناد. في الوقت الذي يطلق الشعب صرخات الألم والاستغاثة لم يجد العرب في اجتماعهم «الاستثنائي» سوى منح النظام «مهلة» جديدة لم يطلبها ولا يحتاجها. وليس واضحاً ما قصة ال «15 يوماً» التي تكررت دائماً، من المسعى التركي إلى المسعى العربي، مروراً بالمهل الأخرى التي أوحت بها المواقف الدولية بما فيها البيان الأول اليتيم لمجلس الأمن، وصولاً إلى السيناريوات التي تعرضها دمشق على موسكو. ما يمكن أن يُفهم منها أن تعذّر التدخل الخارجي يحتّم تجديد الرهان على النظام نفسه، وهو أكد طوال الشهور الثمانية قدرته على استخدام القوة بلا جدوى وعجزه عن طرح أي مبادرة سياسية ذات صدقية. رغم التحفظ الأولي عن القرار الذي أصدرته الجامعة العربية، وتهجم بعض الإعلام السوري الرسمي عليه، عاد النظام فوافق على استقبال اللجنة الوزارية. والأسباب واضحة. فمن جهة هناك دول حالت دون طرح تجميد عضوية سورية في الجامعة وطلبت إعطاء دمشق فرصة أخرى، ومن جهة أخرى هناك المبادرة التي كانت الجامعة تبنتها وتولى الأمين العام إبلاغ مضمونها إلى الرئيس السوري مباشرة فنال بعض الأجوبة وبعضاً أكبر من التجاهل للبنود الملزمة فيها لكن ارتؤي التأكد من الموقف النهائي للنظام من هذه المبادرة قبل الانتقال إلى خطوات تصعيدية. أي أن النظام وجد مصلحة في التعامل مع تحرك عربي يعرف مسبقاً أنه لن يغيّر شيئاً بالنسبة إليه، فهو يعوّل على روسيا والصين، وإذا كان لديه ما يقدمه فلن يقدمه إلى العرب، خصوصاً أنه يملك صوتهم الوحيد في مجلس الأمن، أي صوت لبنان. أما المصلحة فربما لفته إليها الحليف الروسي، بل حتى الإيراني، الذي تنبّه إلى ضرورة استباق أي مفاجأة عربية من النوع الذي حظيت به ليبيا تحت عنوان «حماية المدنيين». فأي اجتماع عربي مقبل للبحث في الوضع السوري لن يتوقف عند «تجميد العضوية» لأنه خطوة معنوية لا يمكن تصريفها في أي محفل دولي لمساعدة الشعب السوري إلا إذا اقترنت بإقرار عربي واضح بطلب الحماية والعمل على تفعيله دولياً. لا شك في أن استعادة «الايجابية» حيال المسعى العربي تهدف إلى إجهاض أي تحرك قد يربك التكتيك الروسي أو الإيراني. وفي الأثناء أمكن للنظام أن يمرر ردّاً دموياً قاسياً خلال الأيام التالية لقرار الجامعة و»مهلتها». وقبل وصول اللجنة الوزارية وبعد مغادرتها ظلّت مجموعة من الأسئلة مطروحة في شأن حقيقة الموقف العربي وهل هو جدّي في ممارسة دور فاعل وعلى أي أساس، وكذلك إذا كان لديه النفوذ والقدرة لوقف القتل كما يريد الشعب السوري والعالم أو حتى لوقف الانتفاضة كما يتمنى النظام. ومن المهم أن تفصح الجامعة العربية إذا كانت تلقت ردوداً من النظام السوري على «المبادرة» التي نشرت وحملها نبيل العربي إلى دمشق يوم كانت مستشارة الرئيس السوري تناقش مع المسؤولين الروس في موسكو تفاهمات الطرفين التي تبين لاحقاً أنها كانت مريحة للنظام، واستطراداً ما هو تقويمها لتلك الردود إذا وجدت فعلاً. كان الأمين العام أفاد بأنه «اتفق» مع الرئيس بشار الأسد على خطوات إصلاحية، ولم يقل شيئاً عما لم يتفقا عليه. وعندما عقد الاجتماع الأخير للجامعة لم يكن معلوماً ما هو الوضع الذي آلت إليه تلك المبادرة، فهل لا تزال هي نفسها على الطاولة، وهل أنها الورقة التي دار عليها النقاش بين اللجنة الوزارية ومسؤولي النظام. ثمة غموض يتوجب توضيحه لأن الدعوة إلى «الحوار» أفسحت المجال للظن بأن الجامعة ارتأتها للالتفاف على بنود صارمة تضمنتها المبادرة خصوصاً في ما يتعلق بالتزام النظام جدولاً زمنياً محدداً بالنسبة إلى الإصلاحات. ما يتوقع من زيارة اللجنة الوزارية أن النظام سيوظفها في إطار أجندته. فطالما أنه استقبلها من دون أن يبدّل سلوكه الأمني، فإنه سيحاول أن «يبيعها» عيّنة من الروايات والتعهدات التي باتت معروفة لكن بعض المشاركين في اللجنة مستعدون مسبقاً لأخذها في الاعتبار، ويخشى عندئذ أن تفقد الجامعة إمكان التوصل إلى قرار عربي لمصلحة الشعب السوري، خصوصاً إذا كانت تنطلق من استبعاد أي تدخل خارجي. فالنظام لا يهتم حالياً إلا بما يخططه بالتفاهم مع موسكو وطهران وهو يعتمد على عدد من الحكومات العربية لإحباط أي خطوة يمكن أن تضيّق هامش المناورة السوري. وفي أي حال، سيشكّل وجود اللجنة العربية في دمشق فرصة لتأكيد التهديدات ب «إشعال المنطقة» وتجديدها، فهذه هي الرسالة التي ستحمّل للوزراء وبالتالي لحكوماتهم. * كاتب وصحافي لبناني