ما يحدث في سورية مجموعة أحداث تسير في خطوط متوازية وفي أوقات متزامنة وهذه بعض الأمثلة: النظام يستمر في أدائه ويُصدر التشريع تلو الآخر إنفاذاً للوعود التي قطعها على نفسه بإحداث تعديلات إصلاحية دستورية. وفي المقابل التظاهرات مستمرة في شكل يومي وفي مختلف المناطق والمحافظات. وأعمال القمع مستمرّة وسقوط الضحايا يتواصل، وعالم عربي يتفرّج على ما يجري وعاجز عن القيام بأي مبادرات لعل وعسى. وفي جانب آخر الولاياتالمتحدة الأميركية تتابع حالة الإرباك في تعاطيها مع ما يجري في سورية، سوى التصريح بأن «الرئيس بشار الأسد فقد شرعيته»، لكن مع ذلك تتابع الإدارة الأميركية التعاون مع الرئيس السوري و «تُصحح» تصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي جرّدت بشار الأسد من كل «مصداقية»، وتعتبر ذلك رأياً شخصياً للوزيرة وفي الوقت نفسه يتابع السفير الأميركي في دمشق روبرت فورد تجواله في بعض المحافظات السورية وأبرزها ذهابه الى حماة ليُستقبل بالزهور والرياحين والرز. وتحتج دمشق على هذه التحركات، لكن... على رغم كل ما جرى وما يجري فإن الحرص على إبقاء شعرة معاوية بين دمشق وواشنطن، وبين دمشق وبعض العواصم العربية هو الشعار السائد في الوقت الحاضر. الى ماذا يؤشّر ذلك؟ يؤشّر الى اقتناع أميركي وأوروبي ببقاء رأس النظام بشّار الأسد ولكن مع تغيير سلوك هذا النظام. وفي سياق اقتراح الحلول لما يجري كان للزعيم اللبناني وليد جنبلاط تصريحات لافتة فور عودته من موسكو ولعلّ في استعادتها بعض الفائدة. فهو اعتبر «أن سورية اليوم جريحة وشفاءها يكون بمحاسبة ومعاقبة المسؤولين عن الارتكابات والجرائم بحق الشعب السوري، داعياً الى إطلاق جميع المعتقلين السابقين والحاليين ووقف إطلاق النار على المتظاهرين، وإدانة كل كلام أو عمل طائفي تحريضي، مشدداً على وضع دستور جديد يسمح بتعدد الأحزاب، رافضاً أي تدخل أجنبي». وكل هذه الأقوال جاءت بمثابة اقتراحات لحلّ الأزمة القائمة، لكنه يضيف في جانب آخر: «يبدو أن البعض في النظام (السوري) لا يريد ترجمة هذه الوعود من أجل سورية أفضل». وأضاف: «إن الشعوب الحرّة تحرّر الشعوب المضطهدة أو المقهورة، وأن نظرية الأنظمة الممانعة لا قيمة لها». وعندما التقيناه فور عودته من موسكو أكّد على هذه الطروحات لإخراج سورية مما هي فيه وعليه وتوقع إقدام الرئيس بشار الأسد على المزيد من المبادرات خشية تطوّر الأمور الى ما لا تحمد عقباه. على أن أخطر ما قاله جنبلاط ورد في خطاب له في «ضهر الأحمر»، حيث أطلق النداء الآتي: «أقول لكم يا أهل العرفان، يا بني معروف في لبنان وفي سورية، في اللحظة التي ندخل فيها في مشروع الفتنة مع أهلنا في لبنان، بغض النظر عن انتمائهم، أو مع أهلنا في سورية يكون هذا انتحاراً سياسياً وفناءً سياسيّاً وخطراً على الوجود السياسي والحسّي لبني معروف». وتابع مشدّداً على التحذير: «نحن شعب واحد في سورية فانتبهوا من هنا أو هناك من أي مُفتن أو مغرض أو أي رأي يريد تحميس بعض منا في مواجهة الآخر أبداً، نحن نرفض هذا كما رفضنا الفتنة في 11 أيار (مايو) في أوج المحور الداخلي في لبنان». ولأن التطورات مترابطة ببعضها بعضاً سواء في لبنان أو في المنطقة في شكل عام، حدث بعد ساعات على إطلاق هذه المواقف تفجير عبوة ناسفة ضد إحدى الكتائب الفرنسية العاملة في قوّات الطوارئ في جنوب لبنان (اليونيفيل) وذلك للمرة الثانية خلال شهرين في المكان نفسه تقريباً في مدينة صيدا بوابة الجنوب اللبناني. ويجري كالعادة تحليل أبعاد مثل هذا الحادث وفي هذا التوقيت بالذات الذي أتى بعد استهداف كتيبة إيطالية في التفجير السابق، ويجري كالعادة تجهيل الفاعل وإلصاق التهمة بمجموعات مسلّحة تُعرف ب «جند الشام». وقد احتفل لبنان يوم أمس الجمعة بتأكيد رئيسه العماد ميشال سليمان على ضرورة الدفاع عن لبنان ضد أي اعتداء يُخطط له، لكن الجميع يعلم أن دور الجيش اللبناني يتوزع في العديد من المناطق اللبنانية للحفاظ على الأمن الداخلي إضافة الى ضرورة دعمه ومساندته للقوّات الدولية العاملة في الجنوب للحفاظ على مضمون قرار مجلس الأمن رقم 1701. وقد أضيف الآن أو سيضاف أمر حفاظ لبنان على ثروته النفطية الموعود بها وفي مكانٍ ما ضمن المياه الإقليمية اللبنانية. وقد تعهد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بحرص المقاومة على هذه الحقوق اللبنانية بعد العمل على رسم الحدود الاقتصادية لها في المياه الإقليمية، الأمر الذي يضيف مواجهة من نوع جديد بين لبنان وإسرائيل وهي المواجهة البحرية! على رغم أن السلطات اللبنانية تأخرت كثيراً في معالجة هذا الموضوع والحفاظ على حقوقها من النفط والغاز، وقد بدأ الحديث منذ الآن عن احتمال أن يصبح لبنان دولة غنيّة بالنفط يسمح له بيع عائداتها بسداد ديونه المتراكمة والتي أصبحت تفوق ال 60 بليون دولار أميركي، علماً بأن خبراء النفط لا يتوقعون بداية التنقيب عن النفط قبل ثماني سنوات! وبناء على كل ما تقدّم يجب إضافة «السَوْرنة» الى لائحة الآفات والتفجرات العربية، على رغم أن الكلمة ليست «إيقاعية»! لكن المهم ليس هو التعبير اللفظي بقدر ما هو المدلول العام للكلمة – الصفة. فهي تنضم الى اللائحة الطويلة من اللبننة الى العرقنة، الى الصوملة، الى... الى... وماذا عن أحوال العرب الأخرى؟ وعن الثورات العربية التي شهدناها منذ مطلع العام الحالي 2011؟ في مصر تظاهرات وصدامات يومية، تقريباً، بين أفرقاء مؤيدين للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وآخرين معارضين له من الذين اعتبروا أن المجلس وجّه اليهم الانتقادات وهدّد بمواجهتهم، وسط كلام عن عودة ظهور عناصر تابعة ل «العهد البائد» حسني مبارك. وبين هذا الفريق وذاك يقف رئيس حكومة يحاول إمساك العصا من منتصفها لإرضاء مختلف أطراف الصراع سواء المجلس العسكري أو المتظاهرين في ميدان التحرير في قلب القاهرة الذي أصبح كالأكاديمية التي تخرّج المناضلين. لكن المنحى الخطر الذي تجنح إليه تطوّرات الأحداث في مصر هو حكم الشارع وتحكّمه بالقرارات. إذ عندما يعرض رئيس الحكومة بعض الأسماء لدخولهم الوزارة عليه أن يهبط الى ميدان التحرير (وهو مناضل سابق فيه) ويُطلع الجماهير على المقرّرات، فإمّا أن تؤيد الجماهير المحتشدة هذه القرارات (تعيين وزراء أو غير ذلك) وإمّا أن تهتف بالمعارضة لها، وهذا يكفي لإسقاطها وعدم اعتمادها. وبعد... فنحن نعاصر أحداثاً تاريخية لعبت دوراً مصيرياً في تاريخ المنطقة سواء في السلب أو في الإيجاب ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الذكرى السادسة والخمسون لثورة 23 يوليو (تموز) 1952 حيث يُطرح التساؤل: ماذا بين ثورة الضباط الأحرار في تلك السنة، وانتفاضة الثوّار هذه السنة؟ كذلك نحن في مرحلة مرور مئة سنة (تقريباً) على انطلاق وعد بلفور الذي زرع إسرائيل في قلب الجسد العربي والتي استشرت في تلك الأرجاء من خريطة المنطقة. كما أننا نعيش مرور قرن على «تفاهمات سايكس – بيكو» حيث تمّ توزيع مناطق النفوذ على الشاكلة التي عرفتها المنطقة طوال هذه الفترة. والغاية من استحضار هذه الأحداث وهذه التواريخ التطلع الى رؤى جديدة لهذه المنطقة بكاملها تكون أكثر تجاوباً مع تطلعات وأماني الشعوب التائهة وسط قيادات فاسدة ومفسدة دمّرت العالم العربي ولا تزال، حيث أصبح هذا الفساد بكل مظاهره جزءاً من «التراث»! على أن كل ما يجري حتى الآن من مخاض في غير عاصمة عربية لا يبشر بخير واضح، بل إن ما نشهده هو مرحلة انتقالية بين حال وحال، حافلة بالتناقضات الأمر الذي يشير الى أننا أمام شرق أوسط هجين غير واضح المعالم بعد، لأن الانتقال من ضفة الى أخرى له معاييره ومقاييسه ولا يمكن القفز من واقع الى آخر بأسلوب «دون كيشوتي» البعيد كل البعد عن التنقل الواعي والمدروس. على أن الأمر المؤكد على رغم ضبابية المشهد، أنه لا يمكن للعالم العربي أن يتواصل على هذه الحال، وان التغيير يجب أن يأتي من الداخل وليس ارتجالاً أو نزوة ثورية غير ناضجة تحطّم آمال الأجيال الطالعة. ونحن عشية بداية شهر رمضان المبارك، والملامح غير واضحة بدقة: هل سيكون شهر الصوم ليس فقط عن الطعام، بل الامتناع عن ارتكاب المعاصي بشتى أنواعها؟ في الإيمان خلاص من كثير من الآفات وقرار بدايات، وفي التطيّف تكريس التخلّف والدمار. ألهمنا الله سبحانه وتعالى التمسك بالإيمان، والتخلي عن التطيّف والمتاجرة بالأديان والقيم. وكل رمضان وأنتم بخير. * إعلامي لبناني